أدباء مصر ومبدعوها.. ماذا يعني لهم أكتوبر؟
لم تكن حرب أكتوبر في تاريخنا الحديث مجرد حرب انتصر فيها الجيش المصري العظيم على الجيش الإسرائيلي وعبوره لقناة السويس واقتحامه لخط بارليف، إنما كانت حدثاً غائراً في وجدان أمة عريقة موغلة في عراقتها.. وكانت حرب أكتوبر بما أحدثته من انعطافة في دهاليز الذات المصرية والعربية هي الحدث المحوري الذي أعاد إلى الذات المصرية والعربية اتزانها، وأقامها من عثرتها، وردّ إليها أهم ما فقدته أو افتقدته بعد 67 وهي عودة الروح إلى الشخصية المصرية والثقة في ميراثها الحضاري والقومي الضارب بجذوره في أعماق الأرض والتاريخ.
وكان لابد -طبقا لمنطق الأحداث وقوانين التأثير والتأثر- أن يكون هناك أعمال أدبية وفنية عديدة تناولت جانباً أو أكثر من جوانب هذه الحرب المجيدة، وما أكثر جوانبها وأبعادها التي تمثل زاداً لا ينفد للكتاّب والمبدعين..
من الأعمال الروائية التي تناولت حرب أكتوبر وعبّرت عن أحداثها ووقائعها أعمال جمال الغيطاني في "حكايات الغريب" و"الرفاعي"، و"الحرب في بر مصر" ليوسف القعيد، و"نوبة رجوع" لمحمود الورداني، و"أنشودة الأيام الآتية" لمحمد عبد الله الهادي، و"السمان يُهاجر شرقاً" للسيد نجم، و"المصير" لحسن محسب.. ومن أعمال أدبائنا العرب رواية "المرصد" لحنا مينا، و"رفقة السلاح والقدر" لمبارك ربيع وغيرها.. ويمكن لمن أراد مزيداً من التفصيل عن حرب أكتوبر وتجلياتها في الرواية والقصة والمسرحية والشعر، الرجوع إلى كتاب أحمد محمد عطية "حرب أكتوبر في الأدب العربي الحديث" الصادر عن (دار المعارف) ضمن مطبوعات سلسلة "اقرأ" العريقة سنة 1982.
ودون التوغل في فورة المشاعر والانفعالات التي تجتاحنا جميعاً حين تحل ذكرى حرب السادس من أكتوبر 73 نتوقف عند محطة من أهم محطات استعادة التوازن والثبات مع كتّاب مصر وأدبائها ومبدعيها الذين رصدوا وحللوا بحسهم الرهيف وإبداعهم المتوهج أصداء أكتوبر على أرواحهم وقلوبهم وعقولهم، وكيف استخلصوا من ركام الذكريات والأحداث خلاصة ذواكرهم الحية النابضة بوقائع أكتوبر المجيدة..
كانت البداية مع الأديب والروائي الكبير يوسف القعيد أحد أهم الروائيين الذين سجلوا ورصدوا بإبداعهم رؤيتهم لحرب أكتوبر في أكثر من عمل روائي نذكر منها "الحرب في بر مصر" و"حكايات الزمن الجريح" و"تجفيف الدموع" و"في الأسبوع سبعة أيام" وغيرهم، الذي أكد أنه -وإلى الآن- لم يكتب أي عمل أدبي ضخم يسجل ويدون ملحمة أكتوبر الخالدة، ويقول الأديب الكبير:
"لكي يكون هناك عمل كبير عن حرب أكتوبر، لابد أن يكون الكاتب عايش الحدث؛ لأن الحرب والسجن لابد للكتابة عنهما أن يكون الكاتب قد مر بهذه التجربة، فالحرب لا تحدث كل يوم، ومفرداتها الاجتماعية تدور في ميادين المعركة بعيداً.. حتى من قرأ عن الحرب، لم يكتب أدبا جيدا؛ لأنه لابد أن يكتب عن تجربة الحرب مقاتل دخل الحرب".
ومن منظور مغاير للاتجاه السابق يوضح الكاتب والروائي والناقد القدير "فؤاد قنديل" أن كتابته وتدوينه لروايته "موسم العنف الجميل"، ورغم أنها لم تأتِ عن مشاركة أو مساهمة فعلية في الأحداث فإنه في النهاية توفر على أحداث ووقائع لكتابتها ومعلومات وأفلام ووثائق أتاحت له في النهاية أن يخرج روايته إلى النور..
وعن السياق الإبداعي والتاريخي للأعمال التي تناولت حرب أكتوبر شعرا ونثرا، يقول الروائي والقاص والناقد فؤاد قنديل:
"عبّر الأدباء عن هذه الحرب تعبيرا فنيا متعدد الوجوه من خلال أنساق الأدب المختلفة، فألف الشعراء القصائد مثل عبد الصبور وحجازي والحوتي وشوشة وأبو سنة وجويدة وأمل دنقل وسويلم وصبري أبو علم وغيرهم، وكتب شعراء العامية أيضا شعرا رائعا مثل ما فعل جاهين وفؤاد حداد والأبنودي وحجاب وكشيك وآخرون، ولم يتخلف الروائيون عن كتابة القصص والروايات مثل ما فعل جمال الغيطاني والسيد نجم وسمير الفيل وفؤاد حجازي وقاسم عليوه وكوكبة كبيرة من الكتاب سواء الذين اشتركوا في الحرب أو الذين لم يكن لهم حظ المشاركة".
وعن إسهامه هو شخصيا في التسجيل الروائي لأحداث الحرب وكتابته لرواية "موسم العنف الجميل" فيقول:
"لقد كنت أتابع الحرب المقدسة يوما بيوم وليلة بعد ليلة، ولما انتهت ومرت السنون وأنا أنتظر الروايات والأفلام والمسلسلات، ولا أكاد أعثر إلا على الفُتات الذي لا يُغني ولا يُسمن من جوع، حتى أنني أصبحت أحلم بالحرب وخاصة أن أخوين لي كانا في الحرب، أحدهما في سلاح المهندسين والثاني في الدفاع الجوي، وكم وصفا لي ما جرى!! وهما في حالة انبهار مما تابعاه ولاحظاه، أما أخي الأصغر الذي كان يقود بلدوزر ويحفر الخنادق لتنام فيها مؤقتا الدبابات والمدرعات، فقد حدّثني عن إصابته برصاصة شقت طريقها في فخذه باستهانة وكأنه لا يعاني من شيء، وأن الآخرين من زملائه هم الأبطال.. بعد ذلك فوجئت أنني غير قادر على كتابة أي موضوع وتصر حرب أكتوبر على الظهور لي في اليقظة والمنام، وأنا أشكي لها عجزي؛ لأني لم أخض الحرب وهي تصر، حتى رضخت وقررت خوض التجربة، وهكذا أمضيت عدة سنوات في القراءة عن الحرب ومُشاهدة أفلام حربية وزيارة الضباط والجنود في سيناء حتى انتهيت من رواية موسم العنف الجميل".
أما الكاتب والروائي مكاوي سعيد مبدع رائعة "تغريدة البجعة"، فيتحدث بنبرة العاشق المستهام، وهو يروي ذكرياته المتدفقة بأسلوبه الممتع عن الفترة التي عايش خلالها أحداث حرب أكتوبر، فيقول:
"كنا في المرحلة الإعدادية وبعضنا في بداية المرحلة الثانوية، وكنا نعيش في أجواء حرب الاستنزاف كأننا مشاركون بها، وكل يوم يأتي إلينا بجديد.. انتصارنا في معركة "رأس العش".. ضرب مدرسة بحر البقر.. استشهاد البطل عبد المنعم رياض.. وفاة الزعيم جمال عبد الناصر.. تولية السادات خلفا لعبد الناصر.. مظاهراتنا ونحن طلبة صغار نطالب بالحسم.. ثم عبورنا العظيم في ظهر السادس من أكتوبر.. كنا في الإجازة الصيفية ولم ندخل المدرسة بعد.. تطوّع أبناء حينا لما أطلق عليه لجنة الدفاع الشعبي وحماية المنشآت..".
ويختتم مكاوي سعيد استرسالاته من فيض الذكريات، قائلاً:
"حتى الآن وبعد مرور كل هذه السنوات، أحن إلى تلك الأيام العظيمة، وأتمنى أن أكتب عنها بالتفصيل يوماً، لكن عندما تحل ذكرى انتصار أكتوبر.. تعود إليّ روائح تلك الأيام وذكرياتها الجميلة، وأفتقد أصدقاء الطفولة والدراسة ونسائم النصر وروح البطولة..".
أما الشاعر الكبير والناقد الرصين صاحب النبرات الهادئة "جمال القصاص" فيقول:
"ستظل حرب أكتوبر 73 وملحمة العبور من أعمال البطولة التي يفتخر بها المصريون على مر التاريخ والأجيال. ومن واقع معايشتي كجندي خاض هذه الحرب أتصور أن دروس هذا البطولة تقترب من مصاف الأسطورة، سواء على المستوى العسكري أو على مستوى التعبئة النفسية والاستعداد للحرب. وستبقى عملية اقتحام خط بارليف -هذا السد الترابي الضخم- أحد الفصول التي تُدرّس باهتمام في تكتيكات العسكرية الحديثة. لقد أثبتت عملية اقتحام هذا الخط المنيع قدرة الجندي المصري على التشبث بالأمل، وصناعة الحياة، مهما كانت التحديات والصعاب. وأحيّي هنا سلاح المهندسين المصريين الذي خطط وأعدّ العُدّة لعملية الاقتحام بواسطة خراطيم المياه في سابقة عسكرية فريدة، أصابت العدو في مقتل وأذهلت الخبراء والمختصين على مستوى العالم كله..".
ومن معين ذكرياته عن حرب أكتوبر التي شارك فيها كجندي مقاتل، يروي القصص: "ما زلت أذكر صديقي "محمد" من ميت غمر، وكيف تحوّل إلى مجنون بالفرح، وتحت نشوة النصر باغتته رصاصة طائشة، فسقط في خندقه، وهو يصيح: تحيا مصر.. تحيا مصر.. ما زلت أذكر "طارق" الإسكندراني، وهو يتمرد على الأوامر، ويسعى بطريقته الخاصة لإخراج رهط من جنود العدو الإسرائيلي من موقعهم، ويهتف: "يا شاويش جمال خرَّجت الفئران من الجحور".. ما زلت أذكر وأذكر.. وأذكر..". مؤكدا في نهاية حديثه أن حرب أكتوبر مثلت الأسطورة الواقعية الحية في وجداننا أبدا وأنها -أي حرب أكتوبر العظيمة: "أسطورة تجدد زمنها كل يوم في واقعنا وحياتنا، وترفع شارة فخار مجللة بالدم والحب".
وآثر البعض الآخر من شعرائنا أن يسجلوا انطباعاتهم وخواطرهم شعرا.. فيسجل شاعرنا الكبير "محمد إبراهيم أبو سنة" وقع الحرب على صفحة نفسه في قصيدته "خفقة علم" حيث يقول:
أفديك يا سيناء..
وزغردت من قلبها السماء..
وانهمر الجنود..
يسابقون الريح والأحلام..
وترسم الدماء..
خرائط النهار والمساء..
على صحائف التاريخ والجبال..
في الماء كانت النجوم تعبر القناة..
وفي الرمال قالت المارعات لا..
وفي ذؤابات الشجر..
ابتسم الحمام ثم فك قيده وطار للسحاب..
وفوق صخرة عالية الإباء.. رفرفت أيها العلم..
يا قلبنا المليء بالأشواق والغضب..
في كل خفقة تقول مصر..
حكاية نسيجها الضياء والظفر..
في كل خفقة على حقولنا المطر…
أما شاعر العامية الرقيق وكاتب الأغاني المتميز "جمال بخيت" فيقول في مقطوعته العذبة (أكتوبر اللي صبر):
مين اللي رش الندى.. على أطيب الأوطان
وصب شهد المحبة.. على أجمل الأحضان
مين اللي صالح نسيمي.. على هزة الأغصان
ولم شمل الصحاري.. وفرش فوقيها غيطان
مين اللي قال يا نبي.. جايلك في يوم غفران
أمحي الهوان والألم.. بإرادة الرحمن
وأغسل بدمعي ندم.. وأبوس إيدين قرآن
مين اللي قال: ارتوي.. بالحق يا عطشان
أكــــتوبر اللـــي صــبر.. فــعبر.. في إيــد رمضان