البدعة تعريفها وتقسيمها وأقوال العلماء فيها
بقلم / سالم محمد علي عمران ، المعروف في هذا المدونة باسم / سالم سبها
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
العناوين الواردة في البحث :
• تمهيد
• مفهوم البدعة
• التعبير المضبوط للبدعة
• التعليق على حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
• أقوال العلماء في تقسيم البدعة ( ومنهم الشافعي وابن تيمية )
• رسول الأمة هو المرجع
• تأويل بتعطيل النص الواضح
• إحياء السنة أصل مستقل
• ورود البدعة في القرآن
• أمثلة على محدثات يفعلها الناس اليوم بمن فيهم من يقول أنّ كل البدع ضلالات .
• أمثلة على البدع المنكرة في هذا العصر .
• خاتمة
في البداية أعلم يقينا بأني لستُ أهلا بأنْ أبحث في هذا الموضوع الدقيق ، لكنْ ما دفعني إلى ذلك هو ما رأيته من تفرق المسلمين شيعا وأحزابا وجماعات ، خاصة بعدما رأيته في مدينتي سبها حيث كانت هناك جماعتان ( السلفية – الصوفية ) على وشك الاقتتال بالأسلحة النارية ، عندما كان هناك بعض الشباب يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فحاول بعض شباب السلفية منعهم من ذلك ، فاشتبك الفريقان بالأيدي ثم أحضر كل فريق سلاحه ، ولولا رحمة الله تعالى بتوفيقه بعض كبار السن ووجهاء المنطقة بالتدخل وفض النزاع لسالت الدماء وأزهقت الأرواح – والدماء هي أعظم حرمة عند الله من كل ذلك – ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ويشهد الله عز وجل – وكفى به شهيدا – أني لا أريد إلا الخير من هذا البحث الذي استغرق مني جمعه وإعداده وكتابته حوالي أسبوعين ، وهو طويل نسبيا رغم أنني حاولت الاختصار وبالتالي لا بأس من قراءته على مراحل ، وقد ساعدني في تجميعه مكتبة إسلامية ضخمة جمعها والدي جزاه الله خيرا منذ صغره حيث كانت هوايته جمع الكتب وقراءتها ، كما وجدتُ بحثا مطبوعا في هذا الموضوع ولم أجد اسم باحثه عليه ، قد استعنتُ به في بعض ألفاظه ، وقلتُ ذلك من باب الأمانة العلمية .
ويشهد الله أنَي حاولت جهدي الوقوف على الحياد بمسافة واحدة بين الجماعتين ، وأني لم أقصد تخطئة جماعة بعينها ، أو أنْ أميل مع جماعة ضد أخرى ، وإنما قصدتُ أنّ مسألة البدعة قد تمّ الاختلاف فيها بين أئمة مجتهدين وعلماء محققين منذ قرون طويلة ، وقد أوردتُ أقوال من اجتهد وقال بتقسيم البدعة ( ومنهم الشافعي وابن عبد البر والخطابي والنووي وابن تيمية والبرزالي وابن رجب الحنبلي وغيرهم رحمهم الله وسأذكر أقوالهم بالتفصيل مع المصادر لاحقا )
وبيّنتُ أنّ الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد اجتهدوا في تفسير نص لا يكاد يقبل أي اختلاف في الرأي على الرغم من أنهم على منهج واحد وهو منهج الكتاب والسنة ، ورغم اختلافهم لم يتهموا من خالفهم بأنه على ضلالة ، وهكذا كان أمر الأئمة المجتهدين فقد كانوا يختلفون في العديد من المسائل وكانوا لا يضللون بعضهم البعض ، بل كانوا يحسنون الظن فيمن خالفهم ويجدون له الأعذار كوقوف من خالفهم على دليل لم يقفوا عليه ، أو أنه لم يقف على الدليل الذي وقفوا عليه ، أو أنه نظر إلى الدليل من زاوية لم ينظروا إليه منها وغير ذلك .
وفي نهاية هذا البحث ضربتُ أمثلة على أمور محدثة يفعلها الناس اليوم بمن فيهم من ينكر تقسيم البدع أصلا ، وهي أمثلة على محدثات لم تكن في الثلاثة القرون الفاضلة .
وأرجو من كل من وقف على هذا البحث أنْ يقرأه بالكامل حتى إذا كان غير موافق على عنوانه لأنه مخالف لما ذهب إليه علماؤه ، وبالتالي لا بأس من قراءته من باب الإفادة أو على الأقل من باب الوقوف على من رأي المخالف ، كما أنوي طباعة هذا البحث على الورق وتوزيعه على الناس ، لكني أنتظر تعليقاتكم من نقد وجرح وإضافة وتنقيح وغيرها ، لكي أخرجه بالشكل الأمثل .
وقبل الخوض في موضوع هذا البحث لابدّ من مقدمة تمهيدية بسيطة وهي :
* مقدمة
أرسل الله تعالى إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ، وأمرنا بالتراحم وحذرنا من الفتن والضغائن ، ونهانا عن التنابز بالألقاب ، وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية عظيمة هي المنهاج السليم في الدعوة وإقناع الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة وهي قوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } .
أنزلت هذه الآية في الكافرين والمشركين من قريش وغيرها ، وقد مكث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة 13 عاما يدعوهم إلى ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولم يسبهم أو يشتمهم أو يحاربهم على الرغم من أنهم آذوه وسبوه وقذفوه بالحجارة حتى سالت قدماه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم ، ثم مكنه الله منهم ففتح له مكة ، بالله انظروا ماذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من أنّ أهل مكة لا يزالون على كفرهم ، قال لهم : ( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
هذه الكلمة التي تتصف بالحلم والخلق الحسن كانت أقوى من السلاح على قلوب المشركين ، فدخلوا إلى الإسلام جملة واحدة .
( وجادلهم بالتي هي أحسن ) آية أنزلت في الكافرين والمشركين ، فما بالكم عند مجادلة إخوانكم من المسلمين ، أحمدوا الله أيها الإخوة أنّ شعبنا في معظمه يعتبر من أهل السنة رغم اختلافهم في بعض القضايا والمسائل القليلة جدا ، ورغم ذلك فإنهم ينقسمون إلى ثلاث جماعات : جماعة تسمي نفسها السلفية ، وجماعة تسمي نفسها الصوفية ، وأخرى وسط بين هؤلاء وهؤلاء .
لكن الجميل في الأمر أنّ كل هذه الجماعات تتفق في معظم الأحكام والمسائل الشرعية ، فجميعنا بحمد الله نعبد الله تعالى دون سواه ، وجميعنا يؤمن بأركان الإيمان الستة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر ، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة ، وجميعنا يؤمن بأركان الإسلام الخمسة من شهادة وصلاة وزكاة وصوم وحج ، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة ، ومعظمنا يؤدي النوافل من صلاة وصدقة وصوم وعمرة وغيرها فاللهم لك الحمد ، وجميعنا يحترم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ويحترم التابعين وتابعيهم رحمهم الله ويحفظ لهم مكانتهم ، على عكس الطوائف الأخرى كالشيعة والخوارج وغيرهم .
وجميعنا يحاول جهده تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بالزواج والطلاق والنسب والرضاع والبيع وغيرها من المعاملات ، فماذا بقي بالله عليكم ؟ لم يبق إلا القليل القليل من المسائل التي تم الاختلاف فيها ، ورغم ذلك للأسف تجد كل جماعة تتعصب لرأيها مقلدة في ذلك علمائها ، فأصبحت كل جماعة تكفر الأخرى أو على الأقل تنبذها وتزدريها وتستهزئ بها ، الأمر الذي أدى إلى الفتن والضغائن ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم أسوة حسنة ، فقد أخرج الشيخان رحمهما الله واللفظ للبخاري ، أنّ الله تعالى بعد أن نصر المسلمين في معركة الأحزاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فأدرك بعض الصحابة وقت العصر في الطريق فصلوه ، وقال البعض الآخر : لا نصلي العصر إلا في بني قريظة .
فالذين لم يصلوا العصر إلا في بني قريظة رغم أن الليل قد أدركهم عملوا بظاهر قول الرسول ، والذين صلوه في الطريق قبل غروب الشمس فهموا من قول الرسول على أنه يحثهم للإسراع للذهاب لبني قريظة ، وعندما أخبروا النبي باختلافهم لم يعنفهم ولم ينكر على أحد منهم .
صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وبالرغم أنهم على منهج واحد وهو منهج الكتاب والسنة قد اختلفوا في تفسير نص لا يكاد يقبل اختلافا في الرأي ، ورغم اختلافهم لم يتهموا بعضهم بالضلالة ولم يتعصبوا لرأيهم ويقولوا بأنّ اجتهادنا هو الاجتهاد الصحيح .
نعم هذا هو منهج السلف الصالح ، فلماذا كل هذه الأوصاف غير اللائقة ؟
ولماذا نتباغض ونتعادى من أجل مسائل خلافية ، خاصة إذا كان النص يحتمل التفسير إلى أكثر من معنى ، فكل فريق يجتهد ويفسر النص على حسب منهجه وفهمه وإدراكه ، حقا إذا لم يقف أحد الفريقين على النص يمكن محاججته بوجود النص ، لكن إذا كان النص معلوما لدى الفريقين فكل اجتهد حسب منهجه وإدراكه ، فلماذا نتعصب لرأينا ونقول بأنه الاجتهاد الصحيح ؟!
* موضوع البحث / البدعة وتقسيمها : :
قال صلى الله عليه وسلم : (( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) رواه النسائي .ورواه مسلم وابن ماجة بألفاظ متقاربة .
هذا الحديث برواياته أصل من أصول الدين وقواعده المحكمة ولكن لابد في فهمه من مراعاة النصوص الأخرى الواردة في هذا الموضوع ومراعاة روح الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة الأخرى.
وقد اجتهد بعض أهل العلم واستند على الحديث في ردّ كل جديد محدث من الأمور الفقهية والاجتماعية والعلمية في كيفيتها وصورها وهيئاتها الجديدة التي لم تكن في عهد النبوة أو عهد السلف من أهل القرون الثلاثة المفضلة قائلا أمام كل ذلك:
هذه القضايا محدثة وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وهذا اللفظ صريح في العموم وصريح في وصف البدعة بالضلالة ومن هنا تراه يقول:
فهل يصح بعد قول المشرع صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن كل بدعة ضلالة ، هل يصح أن يأتي مجتهد أو فقيه مهما كانت رتبته فيقول: لا .. لا.. ليست كل بدعة ضلالة ، بل بعضها ضلالة وبعضها حسنة وبعضها سيئة ..؟
وبهذا المدخل يغترّ كثير من الناس فيصيح مع الصائحين ويُنكر مع المنكرين ، ثم لا يلبث إلا يسيرا حتى يضطر إلى إيجاد مخرج يحل له المشاكل التي تصادمه ويفسر له الواقع الذي يعيشه، فيضطر إلى اللجوء إلى اختراع وسيلة أخرى لولاها لم يستطع أن يأكل ولا يشرب ولا يسكن بل ولا يلبس ولا يتنفس ولا يتزوج ولا يتعامل مع نفسه ولا أهله ولا إخوانه ولا مجتمعه، هذه الوسيلة هي أن يقول باللفظ الصريح:
إن البدعة تنقسم إلى دينية ودنيوية.، رغم أنّ هذه التسمية لم تكن معروفة في عهد النبي وصحابته صلى الله عليه وعليهم .
ولو سلمنا أنّ هذا المعنى كان موجودا منذ عهد النبوة لكن هذا التقسيم وهذه التسمية (دينية ودنيوية) لم تكن موجودة قطعا في عهد التشريع النبوي ، فمن أين جاء هذا التقسيم ؟ ومن أين جاءت هذه التسمية المبتدعة؟
فمن قال: إن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة لم يأت من الشارع نقول له : وكذلك تقسيم البدعة إلى دينية وإلى دنيوية هو عين الابتداع والاختراع.
فالشارع يقول: ((كل بدعة ضلالة)) هكذا بالإطلاق وهذا يقول: لا… لا… ليس كل بدعة ضلالة بالإطلاق بل إن البدعة تنقسم إلى قسمين: دينية وهي الضلالة ،ودنيوية وهي التي لا شيء فيها.
فالعاقل المنصف يرى أن القول بأن تقسيم البدعة إلى حسنة وإلى سيئة تقسيم مبتدع مخترع أو باطل لا أصل له أو مرفوض أو مردود، يتناول أيضا بلا شك تقسيم البدعة إلى دينية ودنيوية ، فهما قضيتان تدوران في مركز واحد وتنطلقان من نقطة واحدة وتنبعثان من فهم مشترك لا بد منه ولا مخرج من الضيق إلا به ، وإلا وقعنا في الجمود ودخلنا في الأغلال والحرج الذي جاءت الشريعة الإسلامية بإخراجنا منه إلى اليسر والسعة والفرج.
ولذا لابد أن نوضح هنا مسألة مهمة وبها ينجلي كثير من الإشكال ويزول اللبس إن شاء الله ، وهو أن المتكلم هنا هو الشارع الحكيم ، فلسانه وهو لسان الشرع لسان واحد متسق متناسب لا يتناقض ولا يتعارض ، وعليه فلا بد من فهم كلامه على الميزان الشرعي الذي جاء به ، وإذا علمت أنّ البدعة في الأصل هي:
كل ما أحدث واخترع على غير مثال فلا يغب عن ذهنك أن الزيادة أو الإختراع المذموم هنا هو الزيادة في أمر الدين والزيادة في الشريعة ليأخذ الصبغة الشرعية فيصير شريعة متبعة منسوبة لصاحب الشريعة ، وهذا هو الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) فالحد الفاصل في الموضوع هو قوله: ((في أمرنا هذا)). ولذلك فإن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة في مفهومنا ليس إلا للبدعة اللغوية التي هي مجرد الاختراع والإحداث ، ولا نشك جميعا في أن البدعة بالمعنى الشرعي – الذي هو الزيادة في الدين والمنسوبة للشرع – ليست إلا ضلالة وفتنة مذمومة مردودة مبغوضة ، ولو فهم أولئك المنكرون هذا المعنى لظهر لهم أن محل الاجتماع قريب وموطن النزاع بعيد.
وزيادة في التقريب بين الأفهام ، أرى أن منكري التقسيم إنما ينكرون تقسيم البدعة الشرعية بهذا المعنى ، بدليل تقسيمهم البدعة إلى دينية ودنيوية واعتبارهم ذلك ضرورة ، وأن القائلين بالتقسيم إلى حسنة وسيئة يرون أنّ هذا إنما هو بالنسبة للبدعة اللغوية لا الشرعية ، لأنهم يقولون : إن الزيادة في الدين والشريعة ضلالة وسيئة كبيرة ، ولا شك في ذلك عندهم ، فالخلاف شكلي عند من يسعى إلى الوفاق ويبتعد عن الافتراق ، ويحب الائتلاف وينبذ الخلاف.
غير أني أرى برأيي المتواضع أنّ إخواننا المنكرين لتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة والقائلين بتقسيمها إلى دينية ودنيوية لم يحالفهم الحظ في دقة التعبير ، ذلك لأنهم لما حكموا بأن البدعة الدينية ضلالة – وهذا حق – وحكموا بأن البدعة الدنيوية لا شيء فيها قد أساءوا الحكم ، لأنهم بهذا قد حكموا على كل بدعة دنيوية بالإباحة ، ومع أنهم في نظري لا يقصدون ذلك إلا أنّ في هذا خطر عظيم ، وتقع به فتنة ومصيبة كبيرة إن أطلقوا القول بذلك دون احتراز أو تقييد ، ولا يسلمون من الوقوع في هذا الفهم السيئ إلا إذا سلكوا مسلك التفصيل ليسلم ويُسَلّم لهم قولهم ، وهو تفصيل واجب وضروري للقضية ، وهو أن يقولوا: إن هذه البدعة الدنيوية منها ما هو خير ومنها ما هو شر ، كما هو الواقع المشاهد الذي لا ينكره أحد ، وهذه الزيادة لا بد منها ، وعليه فليلزم على القائلين بتقسيم البدعة إلى دينية ودنيوية الاحتياط في التعبير وعدم إطلاق القول هكذا بدون تقييد يحدد معنى البدعة الدنيوية ، وإلا أوقعوا الناس في مصيبة كبيرة وشر عظيم.
أقول: الواجب عليهم حينئذ تفادي هذا الغلط ودفع هذه المصيبة التي يقع بسببها الناس في شر كبير ، ويدخلون في تهلكة مهلكة ، اعتمادا على قولهم أنّ كل بدعة دنيوية لا تدخل في المنهي عنه ، وذلك بناء على مقتضى قولهم المطلق ويلزم منه أن كل بدعة دنيوية حلال لا شيء فيها ، وأن المنهي عنه هو البدعة الدينية ، مع أنّ البدعة الدنيوية تشتمل على ما فيه من خير كثير ، وعلى ما فيه من شر خطير.
لذلك فإن هذا التقسيم بهذا الإطلاق العام تقسيم فاسد وناقص يحتاج إلى تحرير وتحقيق للحفظ والسلامة والأمان من الوقوع في الشر والمصائب الدنيوية.
أظن أننا لا نجد تعبيرا أدق ولا أصح ولا أضبط ولا أسلم من قول الأئمة العارفين بالقواعد والأصول الذين قسموا هذه البدعة إلى قسمين ؛ بدعة حسنة وبدعة سيئة ، فالحسن يشمل كل خير ونفع ومصلحة دينية أو دنيوية يقبلها الإسلام ويرضاها ويشملها بتشريعه في أصوله وقواعده ، والقبيح وهو السيء يشمل كل شر وضرر ومصيبة دينية أودنيوية يرفضها الإسلام ويردّها ولا تقبلها أصوله ولا قواعده الحصينة التي تجلب المنافع وتدفع المضار، وتأتي بالخير وترد الشر ، وتحقق المصلحة العامة.
أقول: لو حقق المنصف هذا الموضع وتدبره لوجد بلا شك ولا ريب أنه يكفي في تحقيق هذا المعنى بدقة قول من قال بأن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة ، ومعلوم أن المراد بها اللغوية كما تقدم ، وهي التي يعبر عنها المنكرون بالدنيوية ، وهذا القول في غاية الدقة والاحتياط ، وهو ينادي على كل جديد بالانضباط والانصياع لحكم الشرع وقواعد الدين ، ويلزم المسلمين أن يعرضوا كل ما جد لهم وأحدث من أمورهم الدنيوية العامة والخاصة على الشريعة الإسلامية ليرى حكم الإسلام فيها مهما كانت تلك البدعة ، وهذا لا يتحقق إلا بالتقسيم الرائع المعتبر عن أئمة الأصول ، فرحم الله أئمة الأصول لتحريرهم للألفاظ الصحيحة المجزئة المؤدية إلى المعاني السليمة دون نقص أو تحريف أو تأويل.
وفي تحديد المراد من قوله صلى الله عليه وسلم (( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) عصمة من التمادي في إطلاق الألسن بالتبديع والتضليل بفعل كثير من المسائل الفقهية من المجتهدين الذين ما كانوا يثبتون حكما بالرأي المحض وإنما يستندون إلى مآخذ شرعية ضبطوها وبذلوا جهدهم فيها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وتحرّيهم الصواب بتكرير النظر مرة تلو أخرى ، وسار من بعدهم على منوالهم علماء ومحققين فنظروا وانتقدوا واستنبطوا ورجحوا ، وربما توهّم قوم في خلافهم مع سواهم أنَ اختلافهم معهم على عقيدة فشرّكوا وضللوا وبدّعوا بينما لم يتفطنوا إلى أن الاختلاف إنما كان على مفاهيم متخالفة في العبادات والمعاملات فلا يوجب ذلك الاختلاف تكفيرا أو تبديعا ، وقد جاء في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إنما أتخوف عليكم رجلا قرأ القرآن حتى إذا رؤي عليه بهجته وكان رِدْءُ الإسلام اعتزل ما شاء الله وخرج على جاره بسيفه ورماه بالشرك)). رواه البزار ، وقال الهيثمي في المجمع (1/188) إسناده حسن.
وقوله: ((وكان ردء الإسلام)) يعني عونا ونصرا.
وأخرج ابن مردويه رحمه الله عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أخوف ما أخاف عليكم ثلاثا ، رجل آتاه الله القرآن حتى إذا رأى بهجته وتردى الإسلام أعاره الله ما شاء اخترط سيفه وضرب جاره ورماه بالكفر ، قالوا: يا رسول الله ، أيهما أولى بالكفر ، الرامي أو المرمي به ؟ قال : الرامي …الحديث)). ورواه ابن حبان نحوه عن حذيفة.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وذكر الحديث وفيه: ((ومن دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه)) أي رجع عليه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)). رواهما مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب بيان حال من قال لأخيه المسلم يا كافر.
وأخرج أبو القاسم الأصفهاني في ((الترغيب والترهيب)) عن ابن عمر قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثماني عشر كلمة قال: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وضَعْ أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخبر محملا.
ولا شك أنّ الغلو في الدين وعدم الفقه والتفقه في مقاصد الشريعة مع الإعجاب بالنفس ، وعدم الاعتداد بآراء العلماء وأفهامهم ، واستحلال دماء المسلمين المعصومة ، وعدم المحاولة في فرض المخارج الحسنة لهم ، وعدم تحمل الخلاف في الرأي هو السبب في التبديع والتضليل والمسارعة فيها.
* التعليق على حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء وما شابهه :
قال صلى الله عليه وسلم : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )
رواه الترمذي ، وأبي داود ، وابن ماجة ، وأحمد ، والحاكم ، وضعفه بعض أهل الحديث ، وحسّنه آخرون
حديث ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )
أخرجه الترمذي وقال : حسن. وأخرجه أحمد وابن ماجة وابن حبّان ، وضعفه بعض أهل الحديث .
( أصحابي كالنجوم فبئيهم اقتديتم اهتديتم )
أخرجه ابن عبد البر وابن حزم وقالا ضعيف كما ضعفه غير واحد من أهل العلم من بينهم الألباني رحمه الله .
ونحن أمام حالتين : إما أنّ هذه الأحاديث ضعيفة أو بعضها على الأقل ، أو أنها صحيحة أو حسنة يقوي بعضها بعضا .
الحالة الأولى / فإذا كانت هذه الأحاديث ضعيفة أو باطلة وغير ذلك من علل الحديث ، فهذا يعني أنّ الأمور التي قام بها بعض الصحابة هي محدثات كجمع المصحف ونسخه وإضافة أذان ثان لصلاة الجمعة وكتابة الحديث وغيرها ، وجميع المحدثات هي بدع وكل البدع هي ضلالات كما يقول البعض ، يعني ليس للصحابة سند فيما فعلوا إذا سلمنا بضعف هذه الأحاديث .
الحالة الثانية / فإذا كانت هذه الأحاديث صحيحة أو بعضها صحيح ، فهو حجة على من قال بأنّ التشريع قد انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم استدلالا بقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم }
بمعنى أنّ السنّة من الوحي ، فكيف للصحابة أن تكون لهم سنّة والوحي قد انقطع .
يعني نحن أمام إشكال في كلا الفرضين ، سواء على فرضية صحة الأحاديث أو ضعفها ، لكن الصواب برأيي المتواضع هو القول أنّ سنّة الصحابة المقصودة في الحديث تعني اتباع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفضل مخرج من هذا الإشكال هو ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله وهو من أئمة تابعي التابعين أي من الثلاثة العهود الفاضلة ، وقوله هو التالي في عنوان أقوال العلماء في تقسيم البدعة .
* أقوال الأئمة والعلماء في تقسيم البدعة :
أقوال الإمام الشافعي رحمه الله :
روى المحدث الحافظ البيهقي رحمه الله عن الإمام الشافعي قوله :
المحدثات ضربان : 1 – ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال . 2 – وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذموم .
كما روي عن الإمام الشافعي قوله : البدعة بدعتان ، بدعة محمودة وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالفها فهو مذموم .
[ رواه البيهقي في مناقب الشافعي 1/469 ، وابن حجر فتح الباري 13 ، 267 ]
والإمام الشافعي رحمه الله كما نعلم هو من علماء أهل السنة والجماعة ، بل هو من الثلاثة القرون الفاضلة ، لأنه أحد أئمة تابعي التابعين رحمهم الله .
أقوال الإمام الخطابي رحمه الله :
قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ في شرح هذا الحديث: وقوله ((كل محدثة بدعة)) فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض وهي كل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه ، وأما ما كان منها مبنيا على قواعد الأصول ومردودا إليها فليس ببدعة ولا ضلالة ، والله أعلم ، وفي قوله ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)) دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى .
[ معالم السنن شرح سنن أبي داود للخطابي 4/301 ]
أقوال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله :
قال الإمام الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري الأندلسي: وأما قول عمر: نعمت البدعة ، فالبدعة في لسان العرب اختراع ما لم يكن وابتداؤه فما كان من ذلك في الدين خلافا للسنة التي مضى عليها العمل فتلك بدعة لا خير فيها ، وواجب ذمها والنهي عنها والأمر باجتنابها وهجران مبتدعها إذا تبين له سوء مذهبه ، وما كان من بدعة لا تخالف أصل الشريعة والسنة فتلك نعمت البدعة ، كما قال عمر ، لأن أصل ما فعله الناس سنة.
وكذلك قال عبدالله بن عمر في صلاة الضحى ، وكان لايعرفها ، وكان يقول: وللضحى صلاة؟
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي علية عن الجريري عن الحكم عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة ، ونعمت البدعة.
وقد قال تعالى حاكيا عن أهل الكتاب: { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله }
وأما ابتداع الأشياء من أعمال الدنيا فهذا لا حرج فيه ولا عيب على فاعله.
[ الاستذكار شرح الموطأ لابن عبد البر : 5/152-153]
أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله في كتابه ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ) حرفيا : إنّ ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين ، وما لم يُعلم أنه خالفها فلا يسمى بدعة .
ثم استشهد رحمه الله بقول الإمام الشافعي ، فقال ابن تيمية حرفيا : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : البدعة بدعتان ، بدعة خالفت كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه بدعة ضلالة ، وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك ، فهذه تكون حسنة ، هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل .
انتهى الاقتباس بلفظه من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله ، وليراجعه من شاء في كتابه المذكور ص 144 ، 145 .
كما قال رحمه الله في مجموع الفتاوى ج20/163: نفس الكلام السابق حرفيا وليراجعه من شاء .
كما قال رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى ج1/161-162 وفي كتابه المسمى قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ج2/28 ما نصه:
وكل بدعة ليست واجبة ولامستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين. ومن قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين إنها من الحسنات التى يتقرب بها إلى الله.انتهى بلفظه .
أقوال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
قال العلامة الحجة الفقيه المحدث الإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن رجب الحنبلي وهو أحد أكبر أصحاب وتلاميذ ابن القيم رحمه الله في شرح حديث ((كل بدعة ضلالة)) وقوله:
))وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة)) تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة ، وأكدّ ذلك بقوله: ((كل بدعة ضلالة)) والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، وأمّا ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة ، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: ((إن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة)) وأخرج ابن ماجه من حديث كثير بن عبدالله المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ولا رسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا)).
وأخرج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الشمالي قال: بعث إليّ عبدالملك بن مروان فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة ، والقصص بعد صلاة الصبح والعصر ، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيئكم إلى شيء منها ، لأن النبي قال: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة(( وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله نحو هذا ، فقوله صلى الله عليه وسلم )) كل بدعة ضلالة)) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله )) من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
نتابع قول ابن رجب الحنبلي:
ثم قال: وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان ؛ بدعة محمودة وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم ، واحتج بقول عمر : نعمت البدعة هي ، ومراد الشافعي ما ذكرناه من قبل ، وهو أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه ، وهي البدعة في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة يعني ما كان لها أصل من السنة يرجع إليه ، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة ، وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا وهو أنه قال: والمحدثات ضربان ، ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه هي بدعة الضلال ، وما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا ، وهذه محدثة غير مذمومة ، وكثير من الأمور التي أحدثت ولم يكن قد اختلف العلماء في أنها هل هي بدعة حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا ، فمنها كتابة الحديث ، نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة ، ورخص فيها الأكثرون ، واستدلوا له بأحاديث من السنة ، ومنها كتابة تفسير الحديث والقرآن كرهه قوم من العلماء ورخص فيه كثير منهم ، وكذلك اختلافهم في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه ، وفي توسعة الكلام في المعاملات وأعمال القلوب التي لم تنقل عن الصحابة والتابعين وكان الإمام أحمد يكره أكثر من ذلك ، وفي هذه الأزمان التي بَعُد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم وما أحدث من ذلك بعدهم ، فيعلم بذلك السنة من البدعة ، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إنكم أصبحتم اليوم على الفطرة ، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم ، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول ، وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين ، وروى ابن مهدي عن مالك قال: لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي وأبي بكر وعمر وعثمان ، وكأن مالكا يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم في النار ، أو في تفسيق خواص هذه الأمة ، أو عكس ذلك ، فزعم أن المعاصي لا تضر أهلها ، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد ، وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله في قضائه وقدره ، فكذب بذلك من كذب وزعم أنه نزه الله بذلك عن الظلم ، وأصعب من ذلك ما حدث من الكلام في ذات الله وصفاته مما سكت عنه النبي والصحابة والتابعون لهم بإحسان ، فقوم نفوا كثيرا مما ورد في الكتاب والسنة من ذلك ، وزعموا أنهم فعلوا ذلك تنزيها لله عما تقتضيه العقول بتنزيهه عنه ، وزعموا أن لازم ذلك مستحيل على الله ، وقوم لم يكتفوا بإثباته ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين ، وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها ، ومما أحدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي ، وردّ كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته الرأي والأقيسة العقلية ، ومما حدث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذوق والكشف وزعم أن الحقيقة تنافي الشريعة وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة وأنه لا حاجة إلى الأعمال وأنها حجاب أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام ، وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعا مخالفته للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} انتهى كلام ابن رجب الحنبلي بلفظه
[ جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي 2/128 ]
ففي هذا الحديث والذي قبله خصّص رسول الله صلى الله عليه وسلم البدعة المحرمة بأن تكون سيئة لا توافق عليها الشريعة الغراء ، والقاعدة الأصولية تقول أنه إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص قدّم الخاص على العام ، لأنّ في تقديم الخاص عملا بكلا النصين ، بخلاف لو قدّم العام ففيه إلغاء للنص الخاص .
أقوال ابن القيم رحمه الله :
وهو رحمه الله أحد أصحاب الإمام ابن تيميه ، بل هو أكبر تلاميذه ومناصريه .
قال ابن القيم في كتابه الروح ص 226
" وأما قراءة القرآن وإهداؤها له (للميت) تطوعا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج . فإن قيل : فهذا لم يكن معروفا في السلف ، ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه ، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام . فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه .
فالجواب : إن مورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار ، قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول هذه الأعمال ؟ وهل هذا إلا التفريق بين المتماثلات . وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع .
ثم يقال لهذا القائل : لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال : اللهم اجعل ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت ، فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم (فإن قيل) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة (قيل) هو صلى الله عليه وآله وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم . فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له ، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له ، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له . ولم يمنعهم مما سوى ذلك
وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك ، وبين وصول ثواب القراءة والذكر ؟.
والقائل : إن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لم علم له به ، وما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه ؟ بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم ، لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم .
وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل ، فإذا تبرع به وأهداه لأخيه المسلم أوصله الله إليه ، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه ؟ وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء ، وهو ما عليه شيخنا ابن تيمية رحمه الله . انتهى كلام ابن القيم .
ويفهم من قول ابن القيم في قراءة القرآن على الميت أنّ ذلك لم يكن معروفا لدى الصحابة وتابعيهم ، أي أنه من الأمور المحدثة ، لكنه رأى جواز ذلك مما يعني بالضرورة أنّ هناك بدعا حسنة حسب رأيه ، وإلا لما قال بجواز قراءة القرآن على الميت أصلا .
أقوال الإمام النووي رحمه الله :
قال الإمام شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى النووي: قوله: ((وكل بدعة ضلالة)) هذا عام مخصوص والمراد غالب البدع ، قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق ، قال العلماء: البدعة خمسة أقسام ؛ واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة ، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك ، ومن المباح التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك ، والحرام والمكروه ظاهران ، وقد أوضحت المسألة بأدلتها المبسوطة في ((تهذيب الأسماء واللغات)) فإذا عرفت ما ذكرته علمت أن الحديث المذكور من العام المخصوص وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة ، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة ، ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله صلى الله عليه وسلم ((كل بدعة)) مؤكدا ( بكل) بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى { تدمر كل شيء }
[ شرح النووي على صحيح مسلم 6/ 154]
أقوال الإمام البرزالي رحمه الله :
هذا الإمام كان أحد أكبر أصحاب وتلاميذ ابن تيمية رحمه الله حيث كان معاصرا له ، بل لم يكن هناك مثل هذا الرجل في نصرته ودفاعه عن شيخ الإسلام ، ومن وقف على الترجمة التي كتبها البرزالي عن ابن تيمية يعرف هذا ، ولا بأس من ذكر بعض ترجمته في كتابه المعجم الكبيرعن شيخه ابن تيمية فقال عنه : ( شيخنا وسيدنا الإمام العلامة الأوحد القدوة الزاهد العابد الورع الحافظ تقي الدين شيخ الإسلام والمسلمين سيد العلماء في العالمين حبر الأمة مقتدى الأئمة حجة المذاهب مفتي الفرق أبو العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية أدام الله بركته ورفع درجته ..) .
ولنرجع إلى موضوعنا قال الحافظ البرزالي رحمه الله : قد أحدث السلف أشياء لم تكن في الزمن الأول ، كتنقيط المصحف وتحزيبه وتشكيله ، والقراءة للمصحف في المسجد والتسميع في الصلاة وغير ذلك .
وقد أطال رحمه الله في الرد على من أنكر التسميع في الصلاة وقراءة المصحف في المسجد ، وختم كلامه بقوله : فما عليه السلف حجة بالغة على من خالفهم ، فكيف بمن فسَقهم أو بدَعهم أو ضللهم ، فهذا مخالف للجماعة جدير بهذه الأوصاف . انتهى بلفظه .
[ زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم 3 / 53 ]
وسأعود لاحقا لتفسير ما قاله البرزالي رحمه الله خاصة فيما يتعلق بقوله : أن قراءة المصحف في المسجد من الأمور المحدثة ، عند ضرب بعض الأمثلة على محدثات يفعلها الناس اليوم ، ولا يعارضهم أحد في ذلك رغم أنّ هذه المحدثات لم تكن في الثلاثة القرون المفضلة .
أقوال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
قال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)): والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة ، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة ، وإلا فهي من قسم المباح ، وقد تنقسم إلى الأقسام الخمسة
[ فتح الباري (4/318 ]
تلخيص أقوال العلماء من قبل الإمام أبو الجسنات رحمه الله :
وقد لخص الإمام أبو الجسنات محمد عبد الحي اللكنوي كلام أئمة السلف وموقفهم من هذا الحديث في قولين ، فقال: اختلف العلماء في هذا الباب على قولين:
الأول: أن حديث ((كل بدعة ضلالة)) عام مخصوص البعض ، والمراد به البدعة السيئة ، وقسموا البدعة إلى واجبة ومندوبة ومكروهة ومحرمة ومباحة ، وهو الذي رواه أبو نعيم في حلية الأولياء عن الإمام الشافعي أنه قال: المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث مما خالف كتابا أو سنة ، أو أثرا أو إجماعا ، فهذه البدعة هي الضلالة.
وثانيهما: ما أحدث من الخير ، وهذه غير مذمومة ، وقد قال عمر في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه ، يعني أنها محدثة لم تكن.
وبه صرح الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتاب (القواعد) والنووي في (تهذيب الأسماء واللغات) وعلي القاري في (شرح المشكاة) وابن ملك في (مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار) والسيوطي في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد) ورسالته (المصابيح في صلاة التراويح) والقسطلاني في (إرشاد الساري شرح صحيح البخاري) والزرقاني في (شرح الموطأ) والحافظ أبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) والحلبي في (إنسان العيون في سيرة النبي المأمون) وغيرهم ، فعلى هذا القول البدعة التي ضد السنة هي البدعة المكروهة والمحرمة ، وأما ما سواهما من البدعات فلا تكون سيئة.
هذا وقد نقل العلماء والمحدثون والحفاظ في كتبهم هذا الفهم للحديث الشريف ، واعتبروه حجة مرضية وطريقة شرعية معتمدة يرضاها كل ذي عقل سليم وفهم قويم.
ومن أولئك: الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي الذي نقل كلام ابن رجب في كتابه (عون المعبود شرح سنن أي داود)
ومنهم الشيخ أبو العلى محمد عبد الرحمن المباركفوري الذي نقل كلام ابن رجب في كتابه (تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي).
ومنهم الشيخ خليل أحمد السهارنفوري الذي نقل كلام الخطابي في كتابه (بذل المجهود في حل أبي داود)
انتهى كلام الإمام أبو الجسنات بلفظه .
[ تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار للكنوي صـ123 ]
أقوال العلامة الزرقاني رحمه الله :
قال العلامة الفقيه الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني في (شرح الموطأ) عند قول أمير المؤمنين عمر: (نعمت البدعة هذه): وصفها بنعمت لأن أصل ما فعله سنة وإنما البدعة ممنوعة خلاف السنة ، وقال ابن عمر في صلاة الضحى: نعمت البدعة ، وقال تعالى { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله }
وأما ابتداع الأشياء من عمل الدنيا فمباح ، قاله ابن عبدالبر ، وقال الباجي: (نعمت) بالتاء على مذهب البصريين ، لأن نِعْمَ فعلٌ لا يتصل به إلا التاء ، وفي نسخ (نعمة) بالهاء وذلك على أصول الكوفيين ، وهذا تصريح منه بأنه أول من جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد ، لأن البدعة ما ابتدأ بفعلها المبتدع ولم يتقدمه غيره ، فابتدعه عمر وتابعه الصحابة والناس إلى هلم جرا ، وهذا يبين صحة القول بالرأي والاجتهاد انتهى ، فسماها بدعة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسن الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصديق ، وهو لغة: ما أحدث على غير مثال سبق ، وتطلق شرعا على مقابل السنة ، وهي ما لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم ، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة.
وحديث ((كل بدعة ضلالة)) عام مخصوص ، وقد رغب فيها عمر بقوله: نعمت البدعة ، وهي كلمة تجمع المحاسن كلها كما أن بئس تجمع المساوئ كلها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (( اقتدوا بالذين من بعدي ، أبي بكر وعمر))، وإذا أجمع الصحابة على ذلك مع عمر زال عنه اسم البدعة.
[شرح الزرقاني على الموطأ 1/340 ]
أقوال الحافظ أبوبكر بن العربي رحمه الله :
قال الإمام الحافظ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي: اعلموا – علمكم الله – أن المحدث قسمين ؛ محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة ، فهذا باطل قطعا ، ومحدث بحمل النظير على النظير فهذه سنة الخلفاء والأئمة الفضلاء ، وليس المحدث والبدعة مذموما للفظ محدث ولا لمعناها ، فقد قال الله تعالى{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } وقال عمر: نعمة البدعة هذه ، وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة ، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة
عارضة الأحوذي شرح الترمذي لابن العربي [10 / 147]
* رسول الأمة هو المرجع :
اعلم أن مشرع الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المصدر الأول في تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ، أو قل: بدعة مقبولة وبدعة مردودة ، أو قل: بدعة شرعية وبدعة لغوية ، أو قل: بدعة دينية وبدعة دنيوية ، وذلك من قوله في الحديث الصحيح (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )). رواه مسلم .
وهو تشريع ابتداء الخير في أي عصر من العصور دون قصر على أهل قرن بعينه فقصره على زمن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين هو تقييد للحديث بدون دليل.
وقد قبل الناس ما جدّ بعد عهد الخلفاء الراشدين وعصر الصحابة أي بعد العهود الثلاثة المفضلة من تشكيل آيات القرآن ونقط حروفه ، وتنظيم الأجزاء والأرباع والسجدات ، ووضع العلامات على كل عشر آيات ، وعدّ سور القرآن ، وترقيم آياته ، وبيان المكي والمدني في رأس كل سورة ، ووضع العلامات التي تبين الوقف الجائز والممنوع ، وبعض أحكام التجويد كالإدغام والتنوين ونحوها من سائر الاصطلاحات التي وضعت في المصحف ، وكذلك قَبِل الناس تدوين علوم اللغة وأصول الفقه وأصول الدين ، وسائر العلوم الخادمة للشريعة.
فكل هذه أمور وقعت بعد الثلاثة العهود المفضلة ولم يجعلها أحد من محدثات وبدع الضلالات ، ولم يقل أحد إن حديث ((كل بدعة ضلالة)) يشملها بل عدّوا ذلك من المستحسنات ، لأنها لا تصادم نصا ولا شيئا من أسس التشريع ، وتتحقق بها مصلحة مفيدة وهي المحافظة على تيسير تلاوة القرآن وحفظه وحسن ترتيله ومعرفة بعض الأحكام ، وذلك من الضروريات التي ترجع إلى حفظ الدين فأصبحت مندرجة تحت تشريع عام يستحسنها ، وكل ما كان من هذا القبيل فإنه غير مذموم ، وإطلاق البدعة عليه إطلاق لغوي ، وقد عللوا قبول ذلك لاندراجه تحت الأصول الشرعية ، فكذلك الجمهور إنما جعلوا القسم المقبول من المحدث هو المندرج تحت أصل تشريعي ، وهو المصلحة المناسبة بشرط أن لا تصدم المصلحة نصا ، ولا تصادم سنة حسّنها الشرع ، ولا تندرج تحت حكم قبّحه الشرع.
والأصول الشرعية ليست قاصرة عند جمهور العلماء على النصوص ، بل تشمل جميع الطرق والأصول التي استنبطها العلماء من نصوص الشارع وتصرفاته ، كما أوضحته من قبل .
ومحال أن يتناقض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرر تارة أن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، هكذا بالإطلاق الكلي الواسع ، ثم يأتي فيقرر تارة أخرى أنه – يعني هذا المحدث – يدور بين الحسن والقبح أو بين سنة حسنة وسنة سيئة.
والمخرج هو أن يكون لكل من الحديثين محمل ، ولما كان للمحدث والبدعة معنى خاص شرعي ومعنى عام لغوي ، فالبدعة بلسان الشرع تطلق على كل محدث يخالف النصوص والأصول الشرعية ، ولم يكن مستندا إلى عمل القرون الثلاثة وجب عقلا ونقلا أن يحمل حديث ((كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) على هذا الاستعمال الشرعي ، وكُلِيّتُها في الحديث إنما هو بحسب معناها الخاص الذي استعمله الشرع فيها ، وهو كل محدث بعد القرون الثلاثة يصادم النصوص أو الأصول الشرعية.
أما المحدث والبدعة بمعناها اللغوي العام من الابتداع بمعنى الإحداث نفى كل أمر مبتدأ من غير مثال سابق ، وعلى هذا المعنى اللغوي العام يجب أن يحمل حديث: (( من سن سنة حسنة … ومن سن سنة سيئة)) ويشمل هذا المعنى اللغوي بدعة الضلالة السابقة والبدعة المقبولة ، وهي الأمر المبتدأ الذي لا يصادم نصا ولا أصلا شرعيا ، ويتحقق بها مصلحة مناسبة للتشريع ، وهذا القسم ليس من المحدث المذموم ولو وقع بعد العهود الثلاثة الأولى ، ولا خارج عن الشرع ولا عن أمره صلى الله عليه وسلم ولا عن طريقته وسنته ومنهج تشريعه ، فلا يشملها حديث (( كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) ولا حديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) وإنما يشملها حديث (( من سن في الإسلام سنة حسنة )) وهكذا يحمل حديث (( كل بدعة ضلالة)) على الاستعمال الشرعي ، وهو المحدث الذي يعارض النصوص والأصول الشرعية كما يحمل حديث (( من سن سنة حسنة .. الخ)) على الاستعمال اللغوي العام الذي يشمل ما يعارض النصوص والأصول فيكون مذموما ، كما يشمل ما لا يعارضها فيكون مقبولا.
ووضع الضوابط والجمع بين المخالفات هو مهمة العلماء الذين يدركون ما يقولون ، ولقد بيّن الإمام الشافعي رحمه الله وهو من أئمة الثلاثة العهود الفاضلة الضابط الذي يميز كل قسم عن الآخر ، فجعل السيئ ما خالف النصوص والأصول ، والحسن ما لم يعارض شيئا من ذلك.
وبهذا البيان يظهر لنا أن تقسيم البدعة والمحدث إلى حسن وسيئ هو تقسيم لهما بالإطلاق اللغوي لا الشرعي ، فيصبح من التكلف عناء الإنكار للتقسيم لتوهم أن المقسم هو البدعة والمحدث بالاصطلاح الشرعي الذي ورد في حديث (( كل بدعة ضلالة))
بينما هم قسموا البدعة بإطلاقها اللغوي ، وأبقوا البدعة الشرعية على عمومها من كل ما يسميه الشرع محدثا وبدعةً باصطلاحه وعرفه ، وهو المخالف للنصوص والأصول الشرعية.
فالقائلون أن التقسيم كان للبدعة الشرعية هو من باب إدارة معركة في الهواء بتخيل معركة بين فريقين في البدعة الشرعية ، رغم أنّ الاتفاق تام وقائم بلا خلاف على عدم تقسيمها ، كما أن الاتفاق تام وقائم على تقسيم البدعة اللغوية إلى ما تقدم ذكره ، حتى من لم يقرَّه بهذه الكيفية فإنه مضطر إلى القول به مُنْساق بالضرورة إلى اعتباره واستعماله شاء أم أبى ، لكنه قد يحتار في تسميته فتراه يتخبط هنا وهنا بحثا عن الألفاظ التي يتم بها الخروج من المأزق ، ويكفي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو البادئ بالتقسيم بقوله(( من سن سنة حسنة … ومن سن سنة سيئة)) فالاعتماد على الكلية الواردة في حديث (( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) هو من باب تضليل الناس بأن الحديث وارد في البدعة مطلقا لصرف نظرهم عن استعمالها في الحديث بالاستعمال الشرعي الذي يطلق شرعا على ما يصادم أصول التشريع ، وتلك هي بدعة الضلالة التي أصبحت حقيقة شرعية فيما يصادم النصوص والأصول ، وهي مذمومة كلها بحسب ما استعملت فيه شرعا ، أي أن الكلية سارية على كل محدث مما يسمى بلسان الشرع محدثا ، ومن حكم على المقبول من البدعة اللغوية بأنها سنة حسنة فقد اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في التسمية ، وإن سماها بدعة حسنة فلم يجانب في الإطلاق اللغوي للبدعة من الابتداع بمعنى الإحداث لأمر غير مثال سابق ، ومن تجنب تسميتها بدعة فعلى رأي من لا يطلق البدعة إلا على البدعة الشرعية ، ويسمى المقبول من البدعة بالإطلاق اللغوي سنة أو يسميها اتباعا وما أشبه من ذلك.
* تأويل بتعطيل النص الواضح :
ولقد حاول البعض التخلص مما تضمنه حديث ((من سن سنة حسنة .. ومن سن سنة سيئة )) الذي يدل بوضوح على تقسيم الأمر المحدث إلى مقبول ومردود أو إلى حسن وسيئ ، فأصبح يفسر الحديث بما لا ينطبق على ألفاظه على الرغم من أنه في غيره من الأحاديث يتمسك بظواهر النصوص !! وتجده في حديث (( من سنّ في الإسلام سنة حسنة )) يفسّره على خلاف ظاهره ويأوله باحتمالات بعيدة ويقول هذا الحديث يعني: إحياء سنة وإظهارها وإبرازها مما قد يخفى على الناس فيدعو إليها ويظهرها ويبينها ، وقال: فعُلم بذلك أن المقصود من الحديث إحياء السنة وإظهارها ، سبحان الله !!
فها أنت ترى أن قوله هذا فيه تأويل واضح لا شك فيه لحديث (( من سن في الإسلام سنة .. )) وفيه قضاء على منطوقه ومفهومه ، وهدم لمعانيه وألفاظه التي تدل في صراحة ووضوح على الحث على إنشاء سنن الخير وفتح الباب أمام العاملين وتأصيل العادات الحسنة والطرق الجديدة المستحسنة التي تدخل تحت لواء الشريعة الإسلامية ، وتندرج تحت قواعده الكلية ، ولا تعارض شيئا من الأصول الثابتة التي لا تحتمل التأويل.
فقد ورد في الحث على إحياء السنة المهجورة أحاديث بهذا المعنى تدل بمنطوقها ومفهومها على هذا الموضوع ، فمنها:
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)) رواه مسلم.
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) رواه مسلم.
وعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(( من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه من مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا)) رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه.
فهذه الأحاديث الأخيرة تدل على فتح الباب لإحياء السنن ، والفرق ظاهر بين إنشاء السنن وبين إحيائها.
وزعم بعض آخر أن المراد بالسنة في الحديث ما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون دون المحدثات من سنن الخير التي لم تكن في عهده ولا في عهد الخلفاء الراشدين ، بينما الحديث واضح في تحبيذ ابتداء سنن الخير دون قصر على أهل قرن بعينه ، فقصر المحدثات على عصر الخلفاء الراشدين تقييد للحديث بدون دليل.
وزعم بعض ثالث بأن المراد بالسنة الحسنة ما يخترعه الناس من أمور الدنيا وطرق المنافع ، وبالسنة السيئة ما يخترعونه من طرق المضار والشرور ، وقصرهم للمحدثات المقبولة على ما يتعلق بأمور الدنيا فقط هو من باب تخصيص الحديث بدون مخصص ، وظاهر المراد منه أن كل أمر مبتدأ من غير مثال من أمور الدنيا أو أمور الدين مما يشمله الحديث.
وخلاصة القول أنه ليس العبرة في عدم قبول المحدثات هو عدم سبق فعلها ، وإنما العبرة في ردّها هو أن تصادم نصا أو أصلا من أصول الشريعة وقواعد الاستنباط ، وبهذه المعارضة يكون ليس من شرعه صلى الله عليه وسلم وعلى خلاف منهج تشريعه ، وهذا هو البدعة الضلالة التي قد أصبحت حقيقة شرعية فيما يصادم النصوص والأصول ، وهي مذمومة كلها بحسب ما استعملت فيه شرعا.
* بيان فساد التأويلات السابقة:
والحاصل أن من حمل كلمة بدعة الضلالة الواردة في حديث (( كل بدعة ضلالة)) والكلية الواردة فيه على كل ما استحدث سواء من ذلك ما عارض النصوص والأصول وما لم يعارضها ، فقد خلط بين الكلمة حين تستعمل شرعا وحين تستعمل لغة ، وجهل أن الكلية الواردة في الحديث إنما هي واردة على المحدث باستعماله الشرعي ، وهو كل محدث يعارض نصا أو أصلا شرعيا ، لا على استعماله اللغوي ، وهو كل أمر مبتدأ على غير مثال الذي يشمل القسم المردود وهو ما يعارض النصوص والأصول ، والقسم المقبول منه وهو ما لا يعارض النصوص والأصول ، فالأول: هو بدعة الضلالة ، والثاني: مقبول ، سواء حدث في العهود الأولى أو بعدها.
ومن أراد أن يدرج محدثا لم يفعله الصحابة وأهل القرون الأولى في بدعة الضلالة فعليه أن يستقصى النصوص الخاصة والعامة والأصول الشرعية التي تصادم هذا المحدث وتقبحه ، لئلا يختلط ذلك بالمقبول من البدعة بالإطلاق اللغوي ، لأن إدراج هذا المقبول في بدعة الضلالة يعني تحريمه ، ومعلوم أن تحريم الشيء هو حكم شرعي لا بد له من دليل من كتاب أو سنة أو أصل معتبر ينطبق على المسألة المتنازع عليها ، وإلا كان تحريما من عند أنفسنا ينطبق عليه ما ورد فيمن يحللون ويحرمون من عند أنفسهم ، كما قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في تفسير قوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } وحسبنا احتياطا في قبول الجديد بعد العهود الأولى أن لا يعارض نصوصا ولا أصولا ويندرج تحت مصلحة مناسبة لم يلغ الشارع اعتبارها ، ومن أدخل كل محدث في حديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أو في حديث (( من رغب عن سنتي فليس مني)) أو في حديث (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)) إلى آخر ما قرروه فقد غاب عنه أنه ليس المراد بسنتهم ما وقع في عهدهم ليس إلا ، وإنما المخالف لسنتهم هو ما يأتي على خلاف منهجم في التشريع في أي عصر وقع ، وأن ما يخدم مصلحة تشريعية معتبرة في أي عصر لا يقال فيه إنه ليس من أمرهم أو ليس من سنتهم ، أو خارج عن عن أمره وطريقته وسنته ومنهج تشريعه ، وإنما الخارج عن ذلك هو المحدث بعد القرون الثلاثة الذي يصادم النصوص والأصول الشرعية.
* التمسك بالسنة عند فساد الأمة
كما زعم بعضهم أن المراد بحديث ((من سن سنة حسنة)) هو التمسك بالسنة النبوية المتضمن دفاع المسلم عنها والغيرة عليها ، رغم محاربة الناس له واستهزائهم به ومعارضتهم له.
قلتُ: ولا شك أنّ هذا معنى جليل وفهم عظيم ، ولكنه قد جاء فيه – والحمد لله – نص صريح خاص به يدل عليه ويرشد إليه بمنطوقه ومفهومه وألفاظه ومعانيه ، ومن الجهل أن نتعدى بهذا التفسير إلى نص آخر ونطغى عليه به ونلغيه ، وهو – لا شك – عدوان وتعد على النصوص لا يرضاه الله ولا رسوله ولا كل ذي عقل سليم.
أما الحديث الوارد في هذا الباب بالنص فهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد)) رواه الطبراني في (الأوسط) وقال: لا يروي هذا الحديث عن عطاء إلا عبد العزيز بن أبي داود ، تفرد به ابنه عبد المجيد.
[ المعجم الأوسط (6 / 197) (5410]
وأورده بهذا اللفظ الهيثمي في (مجمع الزوائد) وقال: رواه الطبراني في (الأوسط) وفيه محمد بن صالح العدوي ، ولم أر من ترجمه ، وبقية رجاله ثقات.
[المجمع 1 / 172]
وأورده السيوطي في (الجامع الصغير) عن أبي هريرة ورمّز لحسنه كما قاله المناوي.
[فيض القدير1 / 261]
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رفعه(( من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد)) رواه ابن عدي وقال: وللحسن بن قتيبة هذا أحاديث عن أبيه حسان أرجو أنه لا بأس به.
[الكامل في ضعفاء الرجال 2 / 739].
* ورود البدعة في القرآن :
ورد لفظ البدعة بالمعنى الاصطلاحي أو الشرعي في سورة الحديد عند قوله تعالى : { ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها }
وقد استنبط العلماء من هذه الآية مجموعة من الأحكام منها :
• إحداث النصارى لبدعة الرهبانية من عند أنفسهم .
• عدم اعتراض القرآن على هذا الإحداث ، فليس في الآية كما قال الرازي والألوسي ما يدل على ذم البدعة .
• بل لامهم الله تعالى على عدم محافظتهم على هذه البدعة الحسنة بقوله { فما رعوها حق رعايتها }
[ روح المعاني 27 / 192 ، ومفاتيح الغيب 8 / 103 ]
واللوم غير متوجه لجميع النصارى ، على اعتبار أنّ فيهم من رعاها ، وغير متوجه لمحدثي البدعة كما قال الضحاك [ البحر المحيط 8 / 228 ،229 ]
بل متوجه إلى من لم يرع البدعة حق رعايتها كما قال عطاء .
[ مفاتيح الغيب 8 / 104 ]
وقد اعترض الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله في كتابه الاعتصام [ من صفحة 287 حتى 290 ] على الاستدلال بهذه الآية على جواز إحداث البدعة ، بقوله :
إنّ الآية لا يتعلق منها حكم بهذه الأمة ، لأنّ الرهبانية نسخت في الشريعة الإسلامية ، فلا رهبانية في الإسلام . انتهى الاقتباس .
وللردّ عليه رحمه الله نورد ما نقله هو عن الحافظ ابن العربي المالكي رحمه الله ، من أنّ الرهبانية في الآية تدل على ثلاثة معان :
رفض النساء .
اتخاذ الصوامع للعزلة .
سياحتهم في الأرض .
والمنسوخ في ديننا الحنيف هو المعنى الأول ، أما الثاني والثالث فمستحب عند فساد الزمان [ أحكام القرآن لابن العربي 4 / 174 ]
لما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن )) رواه البخاري .
وهذا الحديث يفيد الإقرار بالعمل بهذه الآية في المعنيين الأخيرين .
* بيان الأمثلة على محدثات يفعلها الناس اليوم بمن فيهم من يقول بأن كل البدع ضلالات :
المثال الأول / صلاة التراويح في صورتها الحالية :
هل تعلمون أنّ صلاة التراويح التي تقام في الحرمين المكي والمدني لم تكن بهذه الصورة في الثلاثة العهود المفضلة ، ذلك أنه وبعد أنْ جمع أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه الصحابة على إمام واحد في صلاة التراويح ، لم يحددوا قدرا معينا من القرآن في كل ركعة فيختمونه أحيانا في أسبوع أو أقل أو أكثر ، لكنْ تحديد جزء من القرآن في كل ركعة كما يُفعل الآن ، حتى يصلوا بالقرآن إلى ليلة السابع والعشرين وذلك في كل عام ، فهذا أمر محدث لم يكن كذلك في الثلاثة العهود الفاضلة ، هذه واحدة .
وكذلك قراءة الإمام لدعاء ختم القرآن في ليلة السابع والعشرين من رمضان في كل عام ، يعني تخصيص يوم معين من السنة لقراءة دعاء ختم القرآن بالناس ، والله إنه من البدع المستحدثة التي لم تكن لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو في عهد صحابته أو التابعين وتابعيهم .
لكنْ وعلى الرغم من أنها من الأمور المحدثة لا يمكنني أنْ اتهم الشيخ عبد الرحمن السديس أو الشيخ علي الحذيفي أو الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ وغيرهم من أئمة الحرمين بأنهم أصحاب بدع وضلالات ، حاشا لله أنْ أصفهم بذلك أو أنكر عليهم أو أعارضهم ، لماذا ؟ لأنّ بدعتهم هذه لا تعارض أصلا من أصول ديننا الحنيف .
حقا إنّ أصل الدعاء عند ختم القرآن مشروع وثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن بلا تخصيص يوم أو تقييد ، وكونه يقع في ختم القرآن في صلاة التراويح آخر ليلة ، أو ليلة تسع وعشرين ، أو ليلة سبع وعشرين مع المواظبة على ذلك ، وإضافة ألفاظ زائدة على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وإطالة ذلك بحيث يزيد على طول الركوع ، بل على طول قيام الركعة ، داخل في مشروعية الأصل وينجر عليه حكمه ، وإن كان هيئة ذلك وكيفيته وصورته ونغمته مبتدعة أو قل محدثة.
فالحمد لله الذي جعل في الأمر سعة وإلا لاضطر العلماء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إلى الحكم على هذه الأمور بالبدعة التي في نظرهم ضلالة – والعياذ بالله – وحاشا أن يكون ذلك كذلك خصوصا أنه عليه العمل في الحرمين الشريفين ، وقد قام بذلك كبار الأئمة ، وشهده علماء الأمة ، سمعا ونقلا عبر القنوات الفضائية .
المثال الثاني / قراءة المصحف في المسجد :
عندما أوردتُ سابقا أقوال الإمام البرزالي رحمه الله والذي قلتُ عنه أنه أحد أكبر أصحاب وتلاميذ شيخ الإسلام ، وعدتكم بأنني سأعود للتعليق على كلامه الذي جاء فيه :
قد أحدث السلف أشياء لم تكن في الزمن الأول ، كتنقيط المصحف وتحزيبه وتشكيله ، والقراءة للمصحف في المسجد والتسميع في الصلاة وغير ذلك .
وقد أطال رحمه الله في الرد على من أنكر التسميع في الصلاة وقراءة المصحف في المسجد ، وختم كلامه بقوله : فما عليه السلف حجة بالغة على من خالفهم ، فكيف بمن فسّقهم أو بدّعهم أو ضللهم ، فهذا مخالف للجماعة جدير بهذه الأوصاف . انتهى بلفظه .
قراءة المصحف في المسجد كما أشار إليها البرزالي لم تكن في الزمن الأول ، لأن المصحف لم يجمع إلا في عهد أبي بكر رضي الله عنه كما هو معلوم ، وعندما تمّ جمع المصحف احتفظ أبوبكر الصديق بالمصحف المجموع في بيته ، ثم انتقل المصحف إلى عمر عندما تولى الخلافة ، وبعد وفاته انتقل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر ضي الله عنهما ، وفي عهد عثمان أخذه منها عند نسخه للمصحف 6 نسخ ثم أرجعه إليها ، وأرسل عثمان 4 نسخ إلى الكوفة والبصرة ومكة والشام ، واحتفظ بنسختين في المدينة ، يعني أنّ المصحف لم يكن متوفرا في الثلاثة العهود الفاضلة ، بل كان الصحابة وتابعيهم وتابعيهم يقرؤون القرآن عن ظهر قلب ، وكان الأمر متيسرا لهم من حدة ذكائهم وسرعة حفظهم ، ولم يثبت أنّ أحدا منهم كان يقرأ المصحف في المسجد ، يعني لم يكن المصحف متوفرا كما عليه الأمر في عصر البرزالي الذي كان أحد علماء القرن الثامن الهجري ، ويبدو أنه في عهد البرزالي كان هناك من يتهم المسلمين بالبدعة لقراءتهم المصحف في المسجد ، الأمر الذي دفعه رحمه الله للردّ على من قال بذلك ، مما يدل على أنّ قراءة المصحف في المسجد كما يُفعل الآن هي من الأمور المحدثة التي لم تكن في الزمن الأول .
المثال الثالث / تعدد الجمعة في بلد واحد :
تعدد الجمعة في البلد الواحد لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة ولا عهد التابعين ، وهي بدعة حسنة بلا شك ، دعت إليها الحاجة والضرورة لاتساع العمران وكثرة السكان بحيث يتعذر اجتماعهم في مسجد واحد ، قال الأثرم : قلت لأحمد : أجمع جمعتين في مصر ؟ قال : لا أعلم أحدا فعله ، وروى البيهقي في (المعرفة) من طريق أبي داود عن بكير بن الأشج قال : كان في المدينة تسعة مساجد مع مسجده صلى الله عليه وسلم يسمع أهلها أذان بلال فيصلون في مساجدهم ، زاد يحيى : ولم يكونوا يصلون الجمعة في شيء من تلك المساجد إلا مسجد النبي ، وهذا الحديث وإن كان مرسلا إلا أنه يشهد له ما في الصحيح من أن أهل العوالي كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أهل قباء كما رواه ابن ماجه. وروى البيهقي أيضا أن أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة ، قال البيهقي : ولم ينقل أنه أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة ولا في القرى التي بقربها ، قال ابن المنذر : لم يختلف الناس أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد أبين البيان بأن الجمعة خلاف سائر الصلوات ، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد ، قال : ولا أعلم أحدا قال بتعدد الجمعة غير عطاء يعني ابن أبي رباح. اهـ
وقد قال بتعددها أيضا داود الظاهري وابن حزم وابن العربي المعارفي ، وعلى التعدد استمر عمل المسلمين في البلاد الإسلامية ولم يقل أحد إنه بدعة وضلالة وإن الذين أجازوه مبتدعة ضالون لأنه فرع فقهي اختلفت أنظار العلماء فيه بحسب ما ظهر لهم من الأدلة.
المثال الرابع / تصنيف المؤلفات والكتب الدينية :
ومن البدع الواجبة كما قال بعض أهل العلم تصنيف المؤلفات والكتب في تفسير القرآن وشرح الحديث وأراء العلماء في المسائل الشرعية ، ذلك أنّ عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد اقتصر على كتابة القرآن متفرقا ، وقد نهى النبي أصحابه رضي الله عنهم عن كتابة الحديث ، ثمّ جُمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، ونسخ في عهد عثمان رضي الله عنه ، وظلّ الأمر على ما هو عليه حتى بداية العهد الثالث وهو عهد تابعي التابعين ، وتحديدا في عهد عمر بن العزيز رحمه الله ، الذي أمر عامله على المدينة بكتابة الحديث ، ثم كتب الإمام مالك الموطأ والإمام أحمد المسند وكان رحمه الله آخر أئمة الثلاثة العهود المفضلة .
يعني أنّ القرون الثلاثة الفاضلة قد انقضت في كتابة القرآن والحديث ، أما أقوال العلماء وتفاسيرهم للقرآن وشروحهم للحديث وغيرها فلم تكن إلا بعد انقضاء العهود الفاضلة ، لذلك قال العلماء الذين أتوا بعد هذه العهود إنّ تأليف الكتب في هذه العلوم الدينية من البدع الواجبة ، هم أنفسهم من قال بذلك ورأوا بأن التبليغ لمن بعدهم من القرون من أوجب الواجب ، ولا تقولوا لي بأن الكتب الدينية من الأمور الدنيوية ، لأنها دينية محضة ولا تقبل التأويل في ذلك ، وقد ساهمت هذه المؤلفات في حفظ الدين وانتشار الإسلام وهذا هو عين الهدى .
وٍسأضرب مثالا توضيحيا على ذلك : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما صنّف وتكلم في الصفات انتقده الكثير من علماء عصره بحجة أنّ الكلام في الصفات بدعة لم يفعلها النبي ولا صحابته صلى الله عليه وعليهم ، فقال ابن تيمية ردا عليهم في كتابه الذي أشرتُ إليه سابقا ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ) قال رحمه الله : " لم يكن لكم أن تقولوا له أنت مبتدع في إثبات الجسم ، لأنه يقول لكم : وأنتم مبتدعون في نفيه ، فالبدعة في نفيه كالبدعة في إثباته ، إن لم تكن أعظم ، بل النافي أحق بالبدعة من المثبت ، فإنّ المثبت وإن ابتدع في ذلك كانت بدعته أخف من بدعة من نفى ذلك نفيا عارض به النصوص ودفع موجبها ومقتضاها ، فإنّ ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين ، وما لم يُعلم أنه خالفها فلا يسمى بدعة ، قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : البدعة بدعتان ، بدعة خالفت كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه بدعة ضلالة ، وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك ، فهذه تكون حسنة ، هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل .
انتهى الاقتباس بلفظه من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله ، وليراجعه من شاء في كتابه المذكور ص 144 ، 145 .
* أمثلة على البدع المنكرة الضالة المضلة في هذا العصر :
سأسوق ثلاثة أمثلة على البدع التي أجدها حسب رأيي المتواضع من البدع المنكرة