التعامل الإنساني في الإسلام
يريد الاسلام للبشرية أن تنعم بخيره ورحمته, وعدله وهدايته, وأن يتمتع الناس كلهم بحقوقهم دون حيف أو جور.
بقلم:أ.د. عبد الكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الاسلامية
لا يملك منصف أن ينكر ما يتضمنه الاسلام من روح السماحة الانسانية, وهي سماحة مبذولة للمجموعة البشرية كلها وجاءت هذه السماحة في العديد من النصوص, كقوله تعالىلا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )
(الممتحنه:8), روت أسماء بنت أبي بكر, رضي الله عنهما, قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش اذ عاهدوا رسول الله, صلى الله عليه وسلم, فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ), فقال, صلى الله عليه وسلم:"نعم,صلي أمك" رواه الامام البخاري في صحيحه.
وتبرز سماحة الاسلام في الأحكام التي قررها في التعامل مع غير المسلمين, حيث ان المجتمع الاسلامي مجتمع اتخذ الاسلام منهجا لحياته ودستورا لحكمه, ومصدرا لتشريعه وتوجيهه في سائر شؤون الحياة وعلاقتها. والمسلم لا يحكم بالفناء على جميع العناصر التي تعيش داخل المجتمع الاسلامي أو خارجه, والاسلام لا يأمره بذلك ولا يوجهه, بل ان الاسلام كرم الانسان ورفع منزلته, قال تعالىوَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)الاسراء: 70
وليست الكرامة التي قررها الاسلام حقا للمسلمين فقط, بل انها تشمل غير المسلمين. ولم يأت دين يحض على حفظ كرامة الانسان كما جاء به الاسلام, فهو يؤكد أن أصل البشر واحد, وأنهم متساوون في الانسانية والحقوق, قال تعالىيَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)النساء:1
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)الحجرات:13
وروى أبو نضرة, رضي الله عنه,أن رسول الله, صلى الله عليه وسلم, قال:"يا أيها الناس, ان ربكم واحد, وان أباكم واحد, ألا لافضل لعربي على أعجمي, ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود, ولا لأسود على أحمر الا بالتقوى" رواه الامام أحمد وغيره.
وقد أبرز القرآن الكريم مراعاة مشاعر غير المسلمين حين نهى عن استخدام الأسلوب الأرعن في الحوار معهم, قال تعالىوَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت: 46
فهذا من الحقوق التي قررها الاسلام في عدم تسفيه معتقدات غير المسلمين, بل انه حرم على المسلمين أن ينالوا من الآلهة التي يعبدها المشركون بالسب حتى لا يؤدي ذلك بهم الى التطاول على الذات الالهية أو نيل من الله جل في علاه, وفي ذلك تكريم للانسان..
فاحترام شعوره احترام لكرامته, قال تعالى لاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام 108
فالاسلام يأمر المسلمين بالعدل والاحسان مع جميع أنواع البشر مهما أختلفت أجناسهم وتباينت عقائدهم, اذ ليس بين المسلمين وبين غيرهم الا ما قرره الاسلام في التعامل, قال جل وعزيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة:8
فألزم المسلمين القيام بالعدل, حتى لو كان الحكم لصالح الأعداء على المسلمين, بل انه جعل الحق لهم في الحصول على العدل اذا تحاكوا الى شرعنا, قال الله تعالىسَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) المائدة: 42
لقد أفرد القرآن الكريم بالبيان والايضاح أهمية العدل, ووجه الخطاب الى المؤمنين بصفتهم القوامين على هذا الدين, وعليهم مسؤولية ايضاحه وبيان أحكامه للأمم الأخرى, وأسلوب القرآن في ابراز مكانة العدل, لا تجده واضحا جليا في غير شريعة الاسلام, قال الامام الطبري, رحمه الله, مبينا سماحة الاسلام وتأكيده تحقيق العدل بين جميع المخلوقات, عند تفسيره للآية التي سبق ذكرها وهي قوله تعالىيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)المائدة:8
قال: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم, القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم, ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم, فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتكم لكم, ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم, ولا تحملنكم عدواة قوم على أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم فتحوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة… انتهى كلامه رحمه الله, انه لا بد لنا من ابراز المبادئ العظيمة التي سنها لنا الاسلام في صورتها السمحة ووضعها في اطار أضفى عليها التقدير والاحترام, ما جعلها عنوانا على سماحة الاسلام في معاملته مع من استظل بظله من سائر الأمم والشعوب والأفراد والجماعات. ان الأسس السمحة الراشدة تنقض الفكرة الجامدة المتعنتة التي تصور الاسلام بأنه لا يحترم الآخرين, ولا يقر لهم شيئا من الحقوق, وأنه يهدف الى ابادة الأجناس الأخرى التي لا تعتنقه.
ولو تأملوا في تاريخ المسلمين عبر العصور وكيف أنهم ساروا على النهج الذي شرعه في دينهم, والتزموابالأحكام التي قررها الاسلام في حسن تعاملهم للآخرين, لأدرك هاؤلاء عدالة الاسلام, الذي برزت سماحته في القواعد التي شرعها في التعامل مع أصحاب الديانات الأخرى, وأنه يدعو الى توطيد دعائم الاخاء الانساني, والاسلام أعلن أنه رسالة عالمية للبشر في أقطار الأرض كافة.
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )سبأ: 28
والاسلام خير وبركة, ورحمة لجميع الأمم كما قال تعالىوَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107, فهو يريد للبشرية كلها أن تنعم بخيره ورحمته, وعدله وهدايته, وأن يتمتع الناس كلهم بحقوقهم دون حيف أو جور.(نَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)الاسراء:9