إن الحج فريضة عظيمة تكمُل بها أركان الإسلام الخمسة، وهو ليس مجرد مناسك يتم تأديتها بالجوارح ثمَّ ينتهي الأمر بعد ذلك .. بل أن لكل منسك من مناسك الحج معاني وأسرار عظيمة، لابد أن يستشعرها الحاج بقلبه حتى ينال هذا الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى للحجيج ..
فمن أراد الفوز بهذا الخير العظيم، عليه بالاستعداد قبل السفر ..قال تعالى {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة: 46] ..
فأكثِر من الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى .. لكي يتطهَّر قلبك للقاء الملك عزَّ وجلَّ ويخلو من كل الشوائب التي تُعكر صفوه.
جدد نيتك ..وأكثِر من ترديد دعــاء النبي "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة"[رواه الترمذي وصححه الألباني] .. واحتسب الثواب العظيم الذي ذكرناه عن الحج؛ لكي لا تغفل.
وأثناء سفرك، تذكَّر السفر إلى الدار الآخرة ..
لأن رحلة الحج تُجسِد معاني يوم القيامة، لما فيها من مشاق وتجرُد من زينة الدنيا .. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: 281]
وتصدَّق بصدقة كبيرة، إن كنت تخشى أن تُحرَم من هذه النعمة العظيمة .. فقد قال الله تعالى {..فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ..}[البقرة: 196] .. وأنت تخشى أن يمنعك مانع من الحج، فعليك أن تتصدق فالصدقة بُرهان الإيمان كما إنها تُطفيء غضب الرب.
دع قلبك يطير إلى البيت الحرام قبل جسدك ..
فالشوق يُبلغِك تلك الأرض المُقدسة التي سار عليها الأنبياء والصالحين من قبل، والآن حان دورك لتقتفي أثرهم ..
فاستحضر معنى الفرار إلى الله ولا تشغل نفسك بشيءٍ سواه .. فلا دنيـــا ولا أهل ولا مـــال ولا ولــد ..
فقلبك مُعلَّق بالواحد القهـــار ..{..وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}[طه: 84]
وعينك تشتــــاق لنظرة إلى وجهه الكريــم .. {.. رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ .. }[الأعراف: 143]
ولن يطفيء نــار هذا الشوق سوى تواجدك في المكان الذي يُحبه الله تعالى ويفيض عليه من رحماتــه، ألا وهو بيت الله الحرام.
وفي طريق السفر لابد من زاد وراحلة ..
وزادك التقوى .. قال تعالى {..وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197] .. فعليك أن تنشغل طوال الطريق بالذكر، من استغفار وتسبيح وتهليل وتحميد وتكبير وصلاة على النبي .
أما راحتلك فهي قلبك .. لأن المسافات إلى الرحيم الرحمن تُقطع بالقلوب لا بالأقدام .. فطهِّره بالصدق والإخلاص ..
كان شُريِح يقول "الحاج قليل و الركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير و لكن ما أقل الذين يريدون وجهه"
فعليك أن تحتسب كل خطوة في الطريق تكفيرًا للسيئات وزيادة في الحسنــات ..قال رسول الله " .. فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة ومحا عنك خطيئة .."[رواه الطبراني وحسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1112)] .. سواء كنت سائرًا أو راكبًا.
وفي طريقك تذكَّر خطواتك على الصراط في الآخرة ..ما أصعبها من لحظات إن لم يُقمنا الله عزَّ وجلَّ على دربه، فالهج بــ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]
ومن أفضل الطاعات على طريق الحج: خدمة رفقائك الحجاج ..
عن أنس قال: كنا مع النبي في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر فنزلنا منزلا في يوم حار فسقط الصوامون وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال رسول الله "ذهب المفطرون اليوم بالأجر"[متفق عليه]
ولقد كان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم اغتناما للأجر ..كان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان .. وكان ابن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم، وكان إذا أراد الحج من بلده مر وجمع أصحابه وقال : من يريد منكم الحج؟ .. فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة ويطعمهم أطيب الطعام ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع بهم إلى بلده فإذا وصلوا صنع لهم طعاما ثم جمعهم عليه ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فرد إلى كل واحد نفقته. [لطائف المعارف (257)]
وعندما تصل للميقــات .. ستُحرِم وترتدي ملابس الإحرام، وتُحرَّم عليك أشياء كانت في الأصل من المباحات .. وتلك حدود الله، قال تعالى {.. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] .. فإذا تعديت حدود الله ولم تُحرِم في الميقات، فقد ظلمت نفسك.
ومن هنا نتعلم الاستسلام التـــام لأوامر الله سبحانه وتعالى .. وتذكَّر الدنيا والآخرة .. فالدنيــا دار محذورات وشقاء، والآخرة دار نعيم مُقيم ولذة القرب من الله جلَّ وعلا.
وبإرتدائك لملابس الإحرام، تذكَّر أكفانك التي ستتجهز بها لمقابلة ربَّك جلَّ وعلا .. وحينها لا بد أن تذِل وتنكسِر .. تضـاعف ما استطعت، فإن اللطف مع الضعف أكثر.
فالله تعالى يحب المُنكسرين .. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال لرسول الله من الحاج قال "الشعث التفل"[رواه ابن ماجه وحسنه الألباني]، الشعث: من امتلأ رأسه بالتراب، والتفل: من لا يتطيَّب.
ثمَّ تنوي الإحرام .. بقول "لبيك اللهم بحجة" أو "لبيك اللهم بعمرة مُتمتعاً بها إلى الحج" أو ما شابه .. ثم ترفع صوتك بالتلبية :
لبيـك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك
إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك
لبيـــــــــــــــك
قال رسول الله " أفضل الحج العج والثج"[حسنه الألباني، صحيح الجامع (1101)] .. والعج: رفع الصوت بالتلبية.
فضل التلبية ..
والتلبية سُنة عن جميع الأنبياء عليهم السلام .. عن ابن عباس قال: سرنا مع رسول الله بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال "أي واد هذا ؟" . فقالوا: وادي الأزرق . قال "كأني أنظر إلى موسى فذكر من لونه وشعره شيئا واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار (أي: صراخ) إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي". قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية . فقال "أي ثنية هذه؟"، قالوا: هرشى أو لفت . فقال "كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته خلبة مارا بهذا الوادي ملبيا"[صحيح مسلم]
كما إن كل ما في الأرض يُلبي معك .. عن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله قال "ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا"[رواه ابن ماجه وصححه الألباني]
كان بعض السلف يخاف خوفًا شديدًا عند التلبية ..قال عبد الله بن الجلاء: كنت بذي الحليفة وأنا أريد الحج والناس يحرمون، فرأيت شاباً قد صب عليه الماء يريد الإحرام وأنا أنظر إليه. فقال: يا رب أريد أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن تجيبني لا لبيك ولا سعديك.
وبقي يردد هذا القول مراراً كثيراً وأنا أتسمع عليه. فلما أكثر قلت له: ليس لك بد من الإحرام فقل فقال: يا شيخ أخشى إن قلت لبيك اللهم لبيك أجابني بلا لبيك ولا سعديك. فقلت له: أحسن ظنك وقل معي: لبيك اللهم لبيك. فقال: لبيك اللهم. وطولها، وخرجت نفسه مع قوله اللهم، فسقط ميتاً. [صفة الصفوة (2/512)]
تلك كانت لحظة البداية .. والبدايــات المُحرقة تؤدي إلى النهايــات المُشرقة ..
فعليك أن تبذل قصاري جهدك في التلبية؛ لكي تكون خالصة،،