أ – أسباب نهضة الشعر في العصر العباسي:
مِنْ خلال دراستنا لمظاهر الحياة الاجتماعية و الثقافية في العصر العباسي يُمكن إجمال عوامل نهضة الشعر في العصر العباسي في النقاط التالية:
1/ النهضة الثقافية و الفكرية, و تطور الحركة العلمية. فقد أسهمَ التطور الفكري و الثقافي في غمدام الشعراء بمعانٍ جديدة و تفتيق أذهانهم على صور و تشبيهات مُستقاة من الحوارات العلمية و الثقافية, فشعراء كل عصر يتأثرون ببيئتهم و يستقون منها معانيهم و أخيلتهم, فكما كانت الصحراء مَثار خيال الشاعر الجاهلي فكانت معانيه في أغلبها معانٍ حسية, أصبحت الحضارة و الثقافة و العلوم مثار خيال الشاعر العباسي. فشاعت في شعرهم المعاني العقلية.
2/ التطور الحضاري الذي أسهمَ في نهضة فن الوصف, فقد شاعَ في هذا العصر وصف القصور و الموائد و المآكل و المشارب… كما أثَّر التطور الحضاري في لغة الشعر فاستخدموا الألفاظ الرقيقة. وابتعدوا عن الغريب و المهجور.
3/ النهضة الاقتصادية و الحياة المُترفة التي عاشها الخُلفاء, فقد زادت عطاياهم للشعراء و ازدهر بذلك فن المديح. كما نما نتيجة لهذا الترف شعر الغزل و المجون و نما كذلك شعر الزهد كاتجاه مضاد للمجون و التهتك.
4/ الامتزاج مع الأمم الأخرى و امتداد علاقات التأثير و التأثر, و أسهم هذا في نمو اتجاهات شعرية جديدة تحاول التمرد على البناء التقليدي, كما أدَّى إلى ظهور المفردات الفارسية في الشعر العباسي نتيجة للامتزاج القوي فيما بين العنصرين العربي و الفارسي.
5/ تطور الحركة النقدية في العصر العباسي, فصارَ الشعراء محاسبون على النواحي الجمالية و الهفوات الفنية مِنء قبل النقاد. فلم يعد النقد فطريًا انطباعيًا كما كان في العصر الجاهلي. فقد صارَ النقد منهجيًا له أصوله و قواعده.
ب – مظاهر تطور الشعر في العصر العباسي الأول:
1- في الأغراض و الفنون:
أغراض الشعر في العصر العباسي هي امتداد للأغراض الشعرية في العصور السابقة, و لكنَّ هذا لا يعني عدم بروز موضوعات جديدة, فكل عصر يُضيف للعصر السابق عليه غالبًا. و قد تطورت الموضوعات التقليدية في العصر العباسي كالمدح و الهجاء و الغزل و الرثاء… كما برزت موضوعات جديدة في هذا العصر.
– المدح:
المدح موضوع شعري معروف منذ العصر الجاهلي, و لكنه في العصر العباسي اشتق لنفسه مضامين جديدة إلى جانب مضامينه المعروفة سابقًا, فقد كانَ مدار النقد في الجاهلية و في العصر الإسلامي و الأموي الكرم و المروءة و الشجاعة… و في العصر العباسي لم يلتزم المدح دائمًا بالدوران حول هذه المضامين. فقد برز الإلحاح في هذا العصر على المعاني الإسلامية خاصةً في مدح الخلفاء و الوزراء على نحو لم يُعهد مِنْ قبل. فالخليفة في نظر الشعراء إمام المسلمين و حامي حمى الإسلام. يقول سلم الخاسر في مدح يحيى البرمكي:
بقاء الدين و الدنيـا جميـعًا إذا بقي الخليفة و الوزير.
يَغارُ على حِمَى الإسلام يحيى إذا ما ضيع الحزم الغيور.
و قد بالغ الشعراء في وصف مكانة ممدوحيهم الدينية, يقول أبو نواس في مدح هارون الرشيد:
لقـد اتقيتَ الله حقَّ تُقـاتـه و جَهَدْتَ نفسك فوق جُهدِ المُتقي.
وَ أَخفْتَ أهلَ الشِرك حتى أَنَّه لَتخَافكَ النُطف التي لَمْ تُخلقِ.
كمَا قام الشعراء بتصوير الأحداث و الفتن و الحروب في قصائد المدح, و بذلك أصحبت قصيدة المدح وثيقة تاريخية تُصوَّر فيها البطولات العربية. و أبرز مثال على هذا قصيدة أبي تمام في فتح عمورية:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حدَّهِ الحَدُّ بينَ الجد و اللعبٍ
و من نواحي التجديد في هذا الفن مدح المدن و التعصب لها و الإفاضة في تعداد محاسنها, و أشهر المدن التي مُدحت الكوفة و البصرة و بغداد باعتبارها المراكز الرئيسية للحياة الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية. يقول عمارة بن عقيل في مدح بغداد:
أعاينت في طول من الأرض أو عرض كبغداد داراً إنها جنة الأرضِ
صفا العيش في بغداد واخضر عوده وعيش سواها غير صاف ولا غض
تطول بها الأعمار إن غذاءها مريء وبعض الأرض أمرؤ من بعض
– الهجاء:
انقسم الهجاء في العصر العباسي إلى قسمين : هجاء سياسي وهجاء شخصي ، وقد امتاز اللونان معاً بالسخرية الشديدة والإيذاء المؤلم .
و مِن الغزل الشخصي قول ابن الرومي في هجاء بخيل:
يُقتِّر عيسى على نفسه و ليسَ بباقٍ و لا خالدٍ
فلو استطاع لتقتيرة تَنَّفس من مِنْخرٍ واحدِ
و مِنْ الهجاء العام قول دعبل الخُزاعي في هجاء المعتصم و الواثق:
خليفةٌ ماتَ لمْ يَحزنْ لهُ أحدُ و آخرٌ قامَ لمْ يفرح به أحدُ
فَمَرَّ هَذا وَمَرَّ الشُؤمُ يَتبَعُهُ وَقامَ هَذا فَقامَ الشُؤمُ وَالنَكَدُ
و هكذا فقد اتجه الهجاء الشخصي نحو السخرية و رسم الصور الهزلية المضحكة. أمَّا الهجاء السياسي فقد اتجه نحو التركيز على الإنحراف الديني و نسب الشذوذ و الزندقة للمهجوين.
و كما ظهرَ مدح المدن في الشعر العباسي ظهرَ كذلك هجاء المدن, و مِن ذلك قول الشاعر:
إنما البصرة أشجا رٌ ونخـل وسماد
ليس في البصرة حر لا ولا فيها جواد
– الرثاء:
أثرَّت الحضارة في شعر الرثاء فبعدَ أن كان الشعراء العرب ينظمون في البحور الطويلة صار شعراء العصر العباسي ينظمون في البحور الخفيفة. و رثى الشعراء الخلفاء، وكان أول خليفة بكاه الشعراء هو ابو العباس السفاح، وقد كان أبو ذلامة نديمة حيث رثاهُ قائلاً :
ويلي عليكَ وويل أهلي كلهم .. ويلاً وهولاً في الحياة طويلاً
وقال أبو نواس في الخليفة محمد الامين :
طوى الموت مابيني وبين محمّد .. وليس لما تطوي المنية ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده … فلم يبق لي شئ عليه أحاذر
لئن عمّرت دورٌ بمن لا أودّه … فقد عمّرت ممن أحبّ المقابر
كما بكى شعراء هذا العصر أبنائهم، و مِنْ ذلك مرثية ابن الرومي في ابنه محمد, و أولها:
بكاؤكما يُشفي و إنْ كانَ لا يُجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي
بُنيَّ الذي أهدتـهُ كفاي للثـرى فيا عزَّة المَهديّ يا حسرةَ المُهدي
ألا قاتل الله المنايا ورميـها من القوم حبات القلوب على عمد
توخى حمام الموت أوسط صبيتي فللَّه كيف اختار واسطة العقد
على حين شمت الخير من لمحاته وآنستُ من أفعاله آية الرشد
طواه الردى عني فأضحى مزاره بعيدا على قـرب قريبـًا على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها و أخلفت الآمال ما كان من وعد
لقد قل بين المهد واللحد لبثه فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحدِ
كما قالوا الشعر في رثاءِ الزوجات، و من جيد هذا الشعر قول محمد الزيات في زوجته التي ماتت وتركت ولداً صغيراً :
ألا من رأى الطفل المفارق أمه بعيد الكرى عيناه تبتذرانِ
رأى كل أم وابنها غيـر أمه يبيتان تحت الليل ينتحبانِ
وبات وحيداً في الفراش تجنّه بلابل قـلبٍ دائم الخفقان
فلا تلحياني إن بكيت فإنما أداوي بهذا الدمع ماتريان
و من جديد الرثاء في العصر العباسي رثاء المغنين و بذلك تضمن الرثاء أوصافًا لم يعرفها الرثاء العربي. و من ذلك قول أحدهم في رثاء المغني إبراهيم الموصلي:
بكت المسمعات حزناً عليه وبكاه الهوى وصفو الشراب
وبكت آلة المجالس حتى رحم العود دمعة المضراب
و مِنْ ضروب التجديد في الرثاء العباسي رثاء المدن , و من ذلك قول الشاعر في المحنة التي أصابت بغداد إثر الصراع الناشب فيما بينَ الأمين و المأمون, و مِنْ ذلك قول الشاعر:
يا بؤسَ بَغداد دار مَملَكة دارَت عَلى أَهلِها دَوائرها
أَمهَلَها اللَهُ ثُمَّ عـاقَبَها لَمّا أَحاطَت بِها كَبـائرها
و يُضاف إلى ما سبق رثاء الشعراء لأشياء جديدة كالأشياء الشخصية, كأن يرثي أحدهم قميصه أو حيوانًا فقده. يقول ابن العلاّفِ في رثاء هرّة :
ياهرَّ فارقتـنا ولـم تعدِ وكنت منـا بمنزلِ الولد
وكيف ننفك عن هواك وقد كنت لنا عدة من العدد
– الغزل:
فن الغزل من الفنون المعروفة منذ العصر الجاهلي, و قد تميز من بداياته بسيره في اتجاهين أساسيين: (غزل حسي عابث, و غزل عفيف). و قد أدَّت طبيعة الحياة في العصر العباسي إلى ازدهار فن الغزل, فبرزت أنواع من الغزل في هذا العصر, كالغزل القصصي و هو امتداد لما كان معروفًا في العصور السابقة, و الغزل الحسي و لكنه صار أكثر مجونًا و تعابثًا. و و للزندقة والشعوبية دور كبير في شيوع هذا الغزل, بالإضافة إلى تطور الحياة الحضارية و تعدد الملاهي, وذيوع المذاهب والآراء الإباحية التي نشرها الموالي . يقول حماد متغزلاً:
أني لأهوى جوهراً ويحب قلبي قلبها
وأحب من حبّي لها من ودَّها وأحبها
وأحب جارية لها تخفي وتكتم ذنبها
أمَّا اللون الجديد الذي ظهرَ في الشعر العباسي هو الغزل بالغلمان أو الغزل بالمذكر. و أبو نواس يُغالط مغالطةً فادحة لتبرير مجونه و ميله الشاذ قائلاً:
بذا أوصى كتاب الله فينا بتفضيل البنين على البنات.
– الوصف:
الشعراء وصّافون بطبعهم و بسبب اتساع خيالهم و دقة ملاحظتهم., و الشعر العربي زاخر بالوصف المتنوع المأخوذ من البيئة، ابتداء من عصر ما قبل الإسلام، و في العصر العباسي و نظرًا للتطور الحضاري و النمو الاقتصادي فقد اتسع مجال الوصف و تنامي, وظهر بذلك اتجاهين في الوصف:
الاتجاه القديم الذي امتدت له يد الحضارة بالتهذيب والتطوير .
و الاتجاه الحديث المبتكر الذي كان نتاج التطور الحضاري و النماء الاقتصادي و شيوع الترف و البذخ.
ففي الاتجاه القديم وصف الشعراء الرحلة في الصحراء و الناقة و الفرس و الليل و النجوم و وصفوا المعارك و الحروب … و إلى جانب هذا وصفوا المظاهر الحضارية كالجسور و الموائد و القصور و المآكل و المشارب….
يقول بن الفرج في وصف جسر نهر دجلة:
أيا حبذا جسراً على متن دجلة بإتقان تأسيس وحسنٍ ورونق
جمالٌ وفخر للعراق ونزهة وسلوة من أضناه فرط التشوق
كما وصفوا القصور ومافيها من فرش وأثاث ومايحيط بها من حدائق غناء تغني فيها الطيور وتجري فيها الظباء والغزلان، و وصفوا الآلات الموسيقية و الألعاب و من ذلك وصف المأمون للعبة الشطرنج وتشبيهها بمعركة حربية حامية بين عسكريين. كما وصفوا رحلات الصيد والطرد، و وصفوا الخمرة وأدواتها وسقاتها، ومجالسها، وما يتردد فيها من أصوات المغنين والمغنيات. و بذلك تفرَّع عن فن الوصف فنان جديدان هما (الطرديات, و الخمريات)
* الطرديات:
الطرديات (جمع طردية : بفتح الطاء والراء) و هي القصائد التي يكون موضوعها الصيد، وهو فن نشأ في العصر الجاهلي و ترعرع و نما في العصر العباسي.
و يُعدّ أبو نواس أكبر شعراء الطرديات في الشعر العربي، وأكثرهم تمثيلاً لما بلغته هواية الصيد في العصر العباسي من رقي وتحضر، وأكثر طرديات أبى نواس تدور حول صيد الكلاب، وقد كان القدماء يصيدون على الفرس، ويقبحون في الغالب كلاب الصيد، وتصور الطرديات الكلب تصويراً قوياً، و تخلع عليه أجمل الأوصاف من شجاعة وخفة وبراعة في الوثوب على الفريسة واقتناصها. وأبو نواس حين يصور الكلب يبين لنا شدة عناية صاحبه به، فهو يبيت إلى جانبه، وإن تعرى كساه ببرده
حتى لا يصيبه مكروه، وهو يصف الكلب بأنه واسع الشدقين، طويل الخد، واسع الجري
حتى أن رجليه لا تمسان الأرض، ولهذا فصيده مضمون. يقول:
أنْعتُ كلباً ليس بالمـسْبوق مُطهمًا يجرى على العُرُوقِ
جاءتْ به الأمْلاك من سَلوق كأنَّه في المِقْود المَمْشُوقِ
ولأبي نواس نحو خمسين طردية تتميز جميعها بالجودة. وممن اشتهر بالطرد، علىّ بن الجهم ولابن الرومي كذلك الكثير من الطرديات.
* الخمريات:
فنٌ أدبيٌ ليسَ بجديدٍ على العصر العباسي، وإنما هو قديم ابتدأ بهِ قبلَ الإسلامْ، ومن أبرزهم الأعشى في وصفِ الخمرة، ولما جاء الإسلام أمر بتحريمها وحدّ شاربيها، ولذا قلت معاقرتها إلا من نفرٍ قليل، في العصر الاموي قرع كؤوسها عددا من الشعراء،
في العصر العباسي – بترفه، ولهوه، ومجونه وانفتاحه – شاعت الخمرة، وتوسعت مجالسها، وكثرت حاناتها، وزاد الإقبال عليها، ويبدوا أن الحرية وراء هذا الإقبال، وقد شربها أكثر الخطباء،
أول شاعر خصص الخمرة بشعره هو أبو الهندي غالب بن عبدالقدوس، فقد كان يحب الخمرة ويبكي لفراقها، ويحن إليها حنين الفطيم إلى الرضاع، فهاهو يقول إن أبطأ عن شربها مدّة :
أديرا عليّ الكأس إنّي فقدتها كما فقد المفطوم درّ المراضعِ
و لقد استقى أبو نواس كثيراً من المعاني في وصف الخمرة من أبي الهندي، و تطور شعر الخمرة علي يديه، حتى عد زعيم شعراء الخمريات.
– الحكمة:
أثرَّت حركة الترجمة الواسعة في شعر الحكمة، فنجد أن شعراء بني العباس استوعبوا حكم اليونان و الفرس وحكم كليلة ودمنة الهندية التي ترجمت للفارسية ثم نقلها ابن المقفع إلى العربية فتمثلوا كل ذلك شعراً ، وضمنوا بعضه أبياتهم ، وما كادوا يقعون على كتابي الأدب الكبير والأدب الصغير اللذين نقل فيهما ابن المقفع تجارب الفرس وحكمهم ووصاياهم في الصداقة والمشورة وآداب السلوك حتى أخذوا يفردون المقطعات في تصويرها شعراً ، يقول بشار بن برد في إحدى مدائحه :
إذا بلغَ الرأيُ المشورةَ فاستعـن برأيِ نــصيحٍ أو نصيحةِ حازمِ
ولا تجعلِ الشورى عليك غضاضةً مكانُ الخوافي نافعٌ للقـــوادمِ
ويقال : إنه كان في ديوان صالح بن عبد القدوس ألف مثل للعجم.
و لقد كانت حِكَمُ العصور الأدبية السابقة تبدو منثورة في قصيدة المديح أو الهجاء أو الرثاء أو حتى الغزل ، لتلخص تلك التجربة في حكمة أو اثنتين خلال القصيدة، فزهير بن أبي سلمى ضمَّن معلقته شذرات من تجربته تخدم غرض القصيدة. و تميّز شعر الحكمة العباسي بإفراد قصائد أو مقطوعات كاملة للحكمة ، ينتقل الشاعر فيها من عرش الشاعر العفوي إلى كرسي الناظم المعلم ، يجمع فيها كل ما وافق وزنُه وثمُنَ معناه. من ذلك قصيدة (ذات الأمثال) لأبي العتاهية التي جمع فيها كثيراً من الأمثال البليغة ذكر صاحب الأغاني أنها تبلغ نحو أربعة آلاف مَثَل ومن الشعراء الذين أفردوا للحكمة قصائد كاملة صالح بن عبد القدوس :
المرء يجمع و الزمان يفـرق ويظـل يرقع و الخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلا خيـر له مـن أن يكون له صديق أحمق
فارغب بنفسك أن تصادق أحمقا إن الصديق علي الصديق مصدق
وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عيوب ذوي العقول المنطق
– الزهد و التصوف:
الزهد ليس ظاهرةً جديدة على العصر العباسي، إنما هو من عصر الصحابة، ثمّ العصر الأموي الذي برز فيه الكثير من القصاص والوعاظ الذين في أشعارهم بوادر للزهد وقطع الأسباب المتصلة بالقلوب .
في العصر العباسي أصبح الشعر الذي ينظم فناً بذاته، يواجه تيار الزندقة و الإنحرافْ و المجون.
و الزهد اتجاه سلوكي يهدف للابتعاد عن الدنيا والالتزام بالعبادات، أما التصوف فهو نزعة تتخذ من المجاهدة والرياضة الروحية باباً للوصولِ إلى الباطن والوصول للكشف عن الله. ومن النساءِ المشهوراتِ بالعبادة والصوم والاستغراق في الذات العلية رابعة العدوية و قد نادت بالحب الإلهي و من شعرها:
أحبك حبين حب الهوى وحبـًا لأنك أهلاً لذاكـا
فأما الذي هو حبّ الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجبِ حتى أراكا
أمَّا شعر الزهد الإسلامي المتضمن لتعاليم الدين دون غلو فيتجلى في شعر أبي العتاهية. و لأبي نواس الشاعر الماجن أبياتًا في الزهد تعد من روائع الزهديات, و قد اختلف النقاد حولها. فمنهم مَنْ رأى أنَّ الشاعر تيقظ من غفلته و تاب إلى الله. و منهم من يرى أنه لم ينشدها إلا لينافس أبا العتاهية شاعر الزهد الأول. يقول أبو نواس:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمْ
إنْ كانَ لا يرجوك إلا مُحسنٌ فبمن يلوذ و يستجيـر المجرم
مالي إليكَ وسيلةً إلا الرجــا و جميل ظني, ثمَّ إني مسلـمُ
– النظم التعليمي:
و هو فنٌ أدبي جديد اقتحمه الشعراء العباسيون، هدفه تسهيل حفظ العلوم، واستظهار المعارف، لاسيما بعد الإقبال على التعلم والرغبة الشديدة في طلب المعرفة، يفتقر في الغالب إلى العاطفة والخيال، ويخاطب العقل، ويتميز بطول النفس الشعري، وتنوع القافية.
أبرز فارس في هذا اللون من النظمْ هو إبان اللاحقي، وله مزدوجة طويلة شرح فيها أحكام الصوم والزكاة، أولها :
هذا كتاب الصوم وهو جامع لكل ماقامت به الشرائع
من ذلك المنزل في القرآن فضلاً على من كان ذا بيان
ومنه ماجاء عن النبي من عهده المتبع المرضّى
وقد نظم في في علم الحيوان، وتاريخ الطب، وعلم الفلك، و غيرها.
2- مظاهر تطور الشعر في الأفكار و المعاني:
اتسعت الثقافة في العصر العباسي، فظهر أثر ذلك على الحياة الفكرية، فتميزت الصورة الشعرية بالجدة والطرافة، و أبيات بشار بن برد مثال على التجديد والإبداع:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ونفى عني الكرى طيفٌ ألم
ختم الحب لها في عنقي موضع الخاتم من أهل الذمم
في البيت الأخير، تشبيه نادر، ولغة الأبيات سهلة وأسلوبها مألوف.
و قد حلَّق خيال الشاعر العباسي في فضاء ما صنعته يد الحضارة، بسبب ألوان الترف والنعيم الذي أسس لحياة جديدة، إلى جانب الطبيعة الخلابة.
3- في الألفاظ و الأساليب:
قطع العلم والأدب شوطًا كبيرًا من التقدم والازدهار وقد كانتْ صلة الكثير من الشعراء العباسيين قوية بالشعر القديم، أمثال بشار الذي كان يحاول مجاراة امرئ القيس، وأبو نواس، وأبي تمام الذي عرف بروايته قديم الشعر. إن الكثير من شعراء العصر العباسي كان يجاري شعرهم الأقدمين تارة، والمحدثين تارة أخرى .
و هناك فئة أخرى من الشعراء يسمون أصحاب المدرسة الشعبية كأبي العتاهية، وعباس بن الأحنف… فقد انتشر شعرهم بين محبي الأدب، و وجد الناس فيهِ عامة الناس مهرباً من صعوبة معاني غيرهم.
و لقد تسربت الكثير من الألفاظ والأفكار إلى الساحة الأدبية من ( الأقوام الذين امتزجوا بالعرب، وتصاهروا مع الكثيرين منهم )، ومن يراجع الكتب يجد ألفاظا كثيرة أصبحت مألوفة في الشعر والنثر مثل : الفالوذج، والديباج .. و هي ألفاظ فارسية. و تجاوز بعض الشعراء المعجم الشعري الأصيل، واستخدموا تراكيب وألفا أعجمية، فضلاً عن المصطلحات العلمية والفقهية والفلسفية. و استخدموا السليقة مما هيأ لظهور اللحن والخروج عن القياس الصرفي، فكان علماء اللغة لهم بالمرصاد، كلما انحرفوا دلوهم على انحرافهم .
4- في الأوزان والقوافي:
للشعر خصائص موسيقية تأتيه من الوزن والقافية، وقد ألمّ الشعراء العباسيون بالأوزان التي أخرجها الخليل بن أحمد ونظموا على تفعيلاتها، وكان الميل إلى الأوزان القصيرة و المجزوءة، التي تستدعي الرشاقة، والعذوبة، وتلائم حياة القصور والحانات والخمائل .أما بحر المجتث والمقتضب فهما محببان إلى النفسِ وأكثر استجابة للغناء وطواعية للموسيقى، لذلك نظم فيه الشعراء في العصر العباسي ، يقول مطيع ابن إياس :
ويلي ممّن جفاني وحبه قد براني
ومن المقتضب قول أبي نواس :
حامل الهوى تعب يستخفه الطرب
إنْ بكى يحقُ لـه ليسَ ما به لعبُ
تضحكين لاهية والمحب ينتحبُ
كلما انقضى سببٌ منكِ عاد لي سببُ
و تصرف بعض الشعراء بالأوزان، كما استحدثوا أوزاناً أخرى تنسجم مع روح العصر، و أبو العتاهية من أشهر الذين ابتكروا في الأوزان، التي تليق بما يقول من الشعر، قال ابن قتيبة فيه : وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعراً موزونا يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب"
ج- المولدون و الشعر:
المولدون أو الموالى هم الذيناعتنقوا الإسلام من نصارى كأمثال بن برد وأبي نواس. و قيل هم المولودين من أصولٍ غير عربية و تحدثوا العربية. و هناك رأي يرى بأن المولدين هم الذين فاتهم عصر الاحتجاج و إن كانوا عربًا.
مال الشعراء المولدون إلى التجديد وإظهار امتيازهم على قدامى الشعراء، فاتجهوا إلى العناية الشديدة بالصنعة اللفظية والمعنوية، وكلفوا بإيراد المعاني الغريبة والأخيلة الطريفة، ويمثلهم خير تمثيل بشار بن برد وأبو نواس ومسلم بن الوليد وأبو تمام، وقد تلقفوا ما في الشعر الجاهلي من بديع كان يأتي عفواً، فأكثروا منه في شعرهم وخرجوا على عمود الشعر المعروف عند العرب. وفضلاً عن ذلك، مال الشعراء المحدثون إلى المبالغة في المعاني وتفخيمها والغلو فيها، وكانت معاني الشعر في العصر العباسي عند أصحاب البديع تتسم بالجدة والطرافة والإغراق في التفكير، والنزوع إلى التجريد، فتعددت أوجه الفهم، وكثرت الشروح والتأويلات أمام الفكرة.و مسألة غموض المعاني تعدُّ انحرافاً عن طريق الأوائل من الشعراء، وخروجاً على عمود الشعر، و لذلك أثارت النقاد ضد أصحاب مذهب البديع وأبي تمام على وجه الخصوص، وظهرت آثار هذه الثورة بوضوح عند الآمدي والقاضي الجرجاني. ومما لا شك فيه أن طغيان المديح على الشعر العباسي، وحرص الشعراء على إرضاء الممدوحين، دفعهم إلى التسابق في وصف ممدوحيهم والابتعاد عن معاني القدماء المتعارف عليها في مجال المدح، ولا سبيل للتجديد إلا بتحوير المعاني القديمة بالإضافة إليها، أو نقلها إلى سياقات جديدة، أو بالمبالغة والتهويل، أو بتوليد المعاني الجديدة، وكان أسبق الشعراء المولدين إلى هذا التجديد هو بشار بن برد (من أصول فارسية) و قد سُمِّي أبا المحدثين لأنه نهج لهم سبيل البديع فاتبعوه، وهو على هذا النحو سلك طريقاً لم يُسلك وأحسن فيه، وهو أكثر تصرفاً وأغزر بديعاً.
ولم يكن شعر العرب القديم مثقلا بأنواع البديع، أما عند الشعراء العباسيين فإن رواد مذهب البديع أخذوا. يكثرون منه ويفتنون فيه، فاتسعت عندهم الصورة ومالت إلى التجسيم والتجريد.
لقد افتن بشار وأبو نواس بالبديع، وإن لم يتخذاه مذهباً، ولكن مسلم بن الوليد نمّى هذا المذهب وأبرزه " فهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة.
ويتأثر أبو تمام بمسلم بن الوليد فيغرم بالبديع، ولكنه يزيد على مسلم أنه كان يجدّ في البحث عن الصور الغريبة والاستعارات البعيدة المأخذ مثل قوله:
فَلَوَيْتَ بالمَوْعود أَعْناق الوَرى وحطمْتَ بالإنجاز ظَهْرَ المَوْعِد
بأن جعل للوعد ظهراً، وجعل تحقيق الوعد إلغاء له بتحطيمه، وبالمثل في قوله:
كلُّ يَوْمٍ له وكلُّ أَوَانٍ خُلُقٌ ضاحكٌ ومالٌ كَئيب
فإنه ينزع إلى المطابقة بين الخلق والمال وبين الكآبة والضحك.
و قيل أنهم سموا بالمولدين لأنهم اهتموا بتوليد المعاني الجديدة و أحدثوا في العربية ألفاظًا و أوضاعًا شعرية ليست أصيلةً في تقاليد الشعر العربي القديم…