صنَع الله – عزَّ وجلَّ – الكونَ على الحركة؛ ﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ﴾ [البقرة: 164]، ﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 164]، ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الرعد: 2].
ووجَّه الله في القرآن فطرةَ الإنسان إلى الحركة: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الأنعام: 11].
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20].
﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18].
وربط الله الرِّزق بالحركة: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
حركة مريم – عليها السلام – في هزِّ النخلة مقدماتٌ لرحمة الله، وعطاءِ الله، ورزق الله؛ فإنَّ السماء لا تُمطِر ذهَبًا ولا فضَّة؛ ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25].
وحديث النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – لا يغفل حركة العَبد في استجلاب الرِّزق؛ ((لو توكَّلتُم على الله حقَّ توكُّلِه لرزَقَكم كما تُرزَق الطَّير؛ تَغدو خِماصًا، وتروح بطانًا))؛ صحيح.
انظر إلى ((تغدو وتروح))! حركة وحياة.
وهذه هاجر – عليها السِّلام – في مكان قفر؛ صحراء جرداء، لا زَرع فيه ولا ماء، لا نفَر عنده ولا ثَمر، ولا نجاةَ فيه ولا حياة إلاَّ بالله، ومع ذلك توقن هاجر في الله: "إذًا لن يضيِّعنا"؛ طاعةٌ لله واسعة، ويقينٌ في الله ثابت، وتوكُّل على الله عظيم، شعارٌ رائع لمن يريد العملَ لله، حركةٌ دائمة لِمن يريد استجلابَ رِزق الله، ولِمَن يريد إعمارَ الأرضِ وتعبيدَها لله!
وذهب إبراهيمُ، وبقيَتْ هاجرُ ومعها إسماعيلُ الرَّضيع، ونَفِدَ الطعام، وراح الماء، وعطش الرَّضيع، وأخذت هاجرُ تروح وتجيء في حركةٍ دائبة، وسَعْي حثيث، سبعَ مرات، ذهابًا وإيابًا، حتى أنهكَها الجهد، وهدَّها العطش… فأرسل الله إليها ينبوعَ الرحمة في صحراء البأس؛ أرسل إليها ينبوع الرَّأفة في بيداء العدَم، رُزِقَت النَّجاة في مكانٍ لا ماءَ فيه ولا حياة، ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، ماءً طاهرًا مطهّرًا، هو شفاء لكلِّ علة، ودواءٌ لكلِّ داء، طعامُ طُعْم، وشِفاء سُقْم، إنه ماء زمزم، شرب منه إسماعيل، وشربت هاجر، وشرب إبراهيم، وشربَت الأمَّة إلى أن يرثَ الله الأرض ومَن عليها!
وخلَّد الله حركةَ هاجر في القران، وحَفِظ العمل الذي قامت به هاجرُ، والموقفَ الذي كانت فيه هاجر، والأمَّةَ التي انتسبَتْ إليها هاجر، تسعى الأمَّةُ كما سعَت، وتتعبَّد لله بما جاء ذكَرَه في سورة البقرة إلى يوم الدِّين: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]!
أما السُّكون فهو مَوَات، أو طريق إلى المَوات، ولعلَّ المَوْت الأصغر (النَّوم) يأتي ساعة السُّكون، وفي وقت السكون؛ ﴿ فالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [الأنعام: 96]، ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [يونس: 67].
الكون مجبولٌ على الحركة، والإنسان مفطورٌ على الحركة، ورِزق الإنسان يحبُّ الحركة، فلماذا السُّكون؟ ولماذا القعود؟ ولماذا الجمود؟!
السكون له أوقات معيَّنة، وخطَّة محدَّدة؛ ليكون بعده الانطلاقُ نحو الحركةِ والحياة؛ ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 73]، إنه سكونٌ مِن أَجْل الحركة، هدوءٌ مِن أجْلِ الانطِلاق!
﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [غافر: 61].
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [القصص: 72]، وهذه رحمةٌ من الله!
إنَّ هذا الكون يَسِير وفْقَ نظامٍ دقيق، وقوانين عليا وضعَها الله – سبحانه وتعالى – لا تتبدَّل بتبدُّل المكان، ولا تذهب مع مرور الزَّمان، لا تتحوَّل بتحوُّل الأيام، ولا تتغيَّر بتغيُّر الأنام، مؤمنٍ أو كافر، جاحدٍ أو شاكر، غنِيٍّ أو فقير، عزيزٍ أو ذليل، سار معها مَن حاز نصرًا وتأييدًا، ودار في فلَكِها من نال شرف القيادة والرِّيادة، وإن كان كافرًا، ومن اصطدم معها وعارضها، وسار في عكس اتِّجاهها خسر وتقهقَر، وكان في ذيل الأُمم، وإن كان مؤمنًا.
وعند الاصطِدام بهذه القوانين يَنشأ الخطر، وتكون نتائجُ الإصلاح عكسيَّةً وخطيرة، ويكونون بعد ذلك سببًا خطيرًا، ومِعْوَلَ هدمٍ في جهود الدُّعاة والمصلحين؛ لعدم تبصُّرهم بهذه القوانين، ومِن ثَمَّ يسيرون بعكس اتِّجاهها؛ لذلك فإنَّ الأصل في الإنسان العامل – الذي أدرك واجبه نحو دينه، ومسؤوليَّتَه تجاه دعوته، وأراد أن يُسهِم في إحداث تغييرٍ إيجابيٍّ في المُجتمع – ألاَّ يصطدم مع نواميس الكون؛ فإنَّها غلاَّبة، وأن يستخدمها، وأن يسير في اتِّجاهها، وأن يتساوق معها، وأن يستعين ببعضها على بعض، وألاَّ يُغالب سننَ الله؛ فإنَّ من غالب سنن الله غلبَتْه، ومن غالب الله غلبَه.
يجب أن يُوقن الدَّاعية أنَّه كالماء الجاري، طاهرًا في نفسه، مطهِّرًا لغيره، صالِحًا في نفسه، مُصلِحًا لغيره، والماء الجاري متحرِّك، والحركة حياة، كما أنَّ الماء حياة؛ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء: 30]، فالمسلم الدَّاعية يُصلِح نفسه ويدعو غيره، لا يكون كالماء الرَّاكد؛ سرعان ما ينتن، وتَخرج منه رائحةٌ كريهة مع مرور الزَّمن؛ لأنه لا يتغيَّر ولا يتطوَّر!
إنَّ هذا النوع من فقه الحركة في الحياة، هو ما ينبغي على شباب الدَّعوة الإسلامية أن يتعلَّموه ويُعلِّموه، ويعوه جيِّدًا، وأن يكون شغلهم الشاغل، ومحلَّ اهتمامهم البالغ؛ حتَّى تؤتي الحركةُ ثِمارها.
وحركة الحياة تشهد لهذه القوانين وتشهد لكلِّ مَن سار معها، واتجه في اتِّجاهها كيف حاز النَّصر؛ سواء أكان مسلمًا، أو كافرًا؛ لأن ميزان العدل الربَّاني يقتَضي أنَّ النصر يُؤتَى لكلِّ مَن سعى له واتَّخَذ أسبابه، وفي هذا يقول الله – سبحانه وتعالى -: ﴿ كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].
وهذه الآية الكريمة تمثِّل سنَّة من سنن الله، وقانونًا من القوانين التي يَحكم الله بها الكون، والواقعُ يشهد لهذا؛ فكم من الدُّول اليومَ – التي تمشَّت مع قوانين الله في الكون – صارت في المقدِّمة، مع أنَّها دول لا تمتُّ للإسلام بصلة! ونجد على الطَّرَف الآخَر تخلُّفًا كثيرًا من المسلمين؛ بسبب تصادُمِهم مع تلك القوانين!
ولَمَّا كان يوم الهجرة إلى المدينة المنوَّرة، فإن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي يفقه سُنَن الله في الكون أعدَّ العدة، واتَّخذ الأسباب؛ مِن تَخفٍّ، واستعمال الدليل، والدَّعم اللُّوجستي، والعَيْن التي ترقب له أخبارَ القوم… كل هذه الأسباب اتَّخذها رسولُ الله، مع أنه كان بِوُسعه أن يدعو الله، فيُجرِيَ معجزةً أخرى مثل معجزة البُراق، ولكن ذلك كله لَم يكن، فلِماذا إذًا لَم يكن البُراق ساعتها؟ ولِماذا تحصل معجزة مع رسول الله في هذا الموقف الصَّعب؟
لَم تَقُم الدولة في المدينة – كما هو الحال بالنسبة لكل الدُّول – على المعجزات والأمانِيِّ، وإنَّما قامت على فقه سنن الله في الكون، قامت على حركة الشباب والفتيات، وتَضحيات الرِّجال والنساء، الذين قدَّموا الدِّماء والأشلاء، الذين بذَلوا الأنفس والأموال، التي بذَلَت نفسها ومالَها وكلَّ ما تَملك في سبيل هذه الغاية، وسبق هذا كلَّه إعدادٌ وتربية للمجتمع، جعَلَت الرَّجُل منهم يضحِّي بنفسه وماله وأهله في سبيل نُصْرة رسول الله – صلَّى الله عليه وسلم – ودينِ الله – سبحانه وتعالى.
إنَّ أمر الهجرة كذلك أمرٌ عظيم، وسوف يترتَّب عليه إقامةُ دولةٍ عظيمة، وهذه الحادثة تشكِّل منعطَفًا تاريخيًّا مهمًّا في تاريخ المسلمين، وفيه رسالة مفادها أن الدُّول لا تقوم على المعجزات ولا على الأماني، وإنَّما تقوم على أكتاف الرِّجال الصابرين؛ لذلك فإنَّ النصر والتمكينَ ليس بضاعةً تُستورَد من هنا أو من هناك، وليس هِبَةً تُوهَب مِن هذا أو ذاك، ولا يُمكن بأيِّ حال من الأحوال أن تَحدث معجزة كونيَّة؛ لتصبح بعدها وتجد نفسك منتصِرًا! لا بدَّ من حركة دائبة، ولا بدَّ من ذاتية متأهِّبة، ولا بدَّ مِن رُوح ثائرة غلاَّبة تقاوم السُّكون، وتنتصر على القعود، وتتغلَّب على الجُمُود، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218].
المسلم المثمِر الإيجابي لا ينفَكُّ عن الحركة، يدعو إلى الهُدى، ويأمُر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يعمر الأرض، وينشر الخَير.
هذا رجلٌ مؤمن تحرَّك من أقصى المدينة يَدفعه إيمانُه بالله، وحبُّه لدعوة الله، إلى نُصْح نبِيِّ الله؛ ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، يقطع الأميال، لا يبالي بالاتِّكال، ولا يعبأ بالأغلال؛ أنكال الطُّغيان، وأغلال الشَّيطان، وإنَّما يحقِّق الآمال في الحفاظ على الدَّعوة الراشدة، والداعية الفعَّال، إنها إرادة الله!
كم مِن الجهد بذَل! وكم مِن الثمن دفَع! وكم مِن المسافةِ قَطع لإنقاذ حاملِ الحق! إنَّه الإيمان بالفِطرة، والحِفاظ على الدعْوة، وتأمين طريقها.
وهذا داعيةٌ آخَرُ إيجابي؛ مؤمِن آل يس: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ [يس: 20 – 25].
إنَّها قِمَّة الحركة والإيجابيَّة في استجابة الفِطرة السليمة لدعْوة الحقِّ المستقيمة، رجلٌ سمِع الدعوة فاستجابَ لها، وحينما استشعرَ حقيقةَ الإيمان تَحرَّكت في ضميره، فلم يستطعِ السُّكوت، ولَم يَقْبعْ في داره بعقيدته وهو يرَى الضَّلال مِن حوله، والفسادَ مِن فوقه ومِن تحته، يَستشري في الحياة كلِّها، وإنَّما سعى بالحقِّ الذي استقرَّ في ضميره إلى قومه؛ يرْفع لِواءَه، ويستظلُّ بظلِّه، ويَمضي في طريقه.
وهذا رجلٌ ثالث بعدَ أن صبَّ الطاغيةُ "فرعونُ" بطْشَه على بني إسرائيل، فكَّر في قتْل "موسى" ومَن معه، فعُقِدت المؤتمرات، ودارت المُحاورات، وكثُرت المشاورات؛ للخلاصِ مِن الحقِّ وأهله، وبَيْنما هم يتشاورون إذا برجلٍ منهم إيجابيٍّ كان يكتم إيمانَه بِمُوسى مِن قَبل، فلمَّا رأى تآمُرَهم على قتْل موسى، ضاق ذَرعًا وامتلأ غيظًا، واستشاط غضبًا لله؛ ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28].
إنَّه أقام الحُجَّة على فرعونَ وجنودِه، بأجملِ إشارة، وأحلى عبارة، ثُم فوَّض أمرَه إلى الله، مُعلِنًا كلمةَ الحقِّ في وقتها.
موسى – عليه السَّلام – لَمَّا علم أنَّ هناك مَن هو أعلم منه، قال: ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]، لا يزال في حركةٍ دائبة حتَّى يأخذ عن العبد الصالِح!
انظر إلى هدهد سليمان – عليه السَّلام – لَم ينتظر إذْنًا من أحد؛ حتَّى يتحرك، ولَم يذهب في رحلةٍ ليستجم؛ ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22]، ما هو هذا النبأ؟
﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 23 – 24].
وهذا لا يتَّسِق مع الكون الخاضع لله، والمسبِّح له.
ثم يستطرد الهدهدُ الداعية: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 25 – 26].
ماذا كانت النتيجة؟!
﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].
دخلَت المَلِكة والمَمْلكة في الإسلام بفضل الله، ثم بفضل جهود هذا الهدهد الحرَكِيِّ الفاهم!
إنَّ للنَّصر قانونًا وضعَه الله – سبحانه وتعالى – لن يختلف بأيِّ حال من الأحوال، ولن تحوز نصرًا لَم تَخُض معاركه، فعندما حلَّ الضعف في "الأندلس" التي ظلَّت شامخةً لعدَّة قرون، وكانت قائدةَ العالَمِ بأسره، وشاع فيها كلُّ ألوان الحضارة والتقدُّم، فلمَّا خالفَت سُنن الله الكونيَّة، سقطَت، وكان هذا حالها الآن!
لذلك – وحتَّى تكون خطواتنا نحو التغيير خطواتٍ واعيةً – يجب علينا أن نَفقه قوانينَ الله في الكون؛ حتَّى ندرك سرَّ حركة الحياة، ونتساوق معها ولا نُصادمها، ولا نسير عكس اتِّجاهها.
فعلاً الحياة في الحركة، والحياة الفاضلة في الحركة نحو الأفضليَّة؛ ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
نحو الخيرية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، ولو كان غير ذلك لكان السُّكون والسَّلبية والموات.
أخي الغالي، لِيَكن لسان حالك: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].
ولْيَكن في انتظارك: ((فوالله لأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حمرُ النَّعَم))؛ متفق عليه
اللهم سَدِّدْ خُطانا إليك، وشرِّفنا بالعمل لدِينك، ووفِّقنا للجهادِ في سبيلك، وغيِّر حالَنا لمرضاتك، وامنحْنا التقوى، واهدِنا السَّبيل، وارزقنا الإلهامَ والرشاد، اللهمَّ ارزُقْنا الإخلاصَ في القوْل والعمل، ولا تَجعلِ الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ عِلْمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمَّد وعلى أهله وصحْبه وسلِّم، والحمدُ لله ربِّ العالمين.