تُعرَف أساساً بالمدينة الزهرية، لأن أكثر ما يميّزها هو زهرة البنفسج، إلا أنها تتميَّز بثلاثة ألوان هي -إضافة للزهري الممتلئة به- الأزرق كونها ممتلئة كذلك بنبتة يُستخرج منها لون الباستيل الأزرق، والأحمر الأجوري لمبانيها المبنية بحجارة البريك.
تُعدّ تولوز رابع أكبر مدينة فرنسية بعد باريس وليون ومارسيليا، وتجمع في ثقافتها وعمارتها ومجتمعها بين فرنسا -تحديداً نصفها الجنوبي أوكسيتانيا وهو إقليم شاسع له لغته القديمة وعلمه وعاداته الشعبية- وإسبانيا، حيث تبعد تولوز عن مدينة برشلونة مثلاً 254 كيلومتراً فحسب، وإيطاليا اللصيقة بأوكسيتانيا من الطرف الآخر له.
تقع تولوز جنوبي غرب فرنسا، ضمن إقليم «ميدي بيريني»، في منطقة أوت غارون، وهي عاصمة الإقليم. يقسمها نهر الغارون القادم من المحيط الأطلسي شمال غرب فرنسا إلى ضفتين، ويستمر النهر نزولاً عبر قناة تصبّ في البحر الأبيض المتوسط.
تُعرَف المدينة بمبانيها وبيوتها القديمة والمُشيّدة من حجارة البريك، كما تكثر القصور العتيقة في القرى المحيطة بها، قصور يمتدّ تاريخها إلى ما قبل القرون الوسطى، تحوي العديد من المتاحف والحدائق والمعالم المميِّزة لها، إلا أن المَعْلَم الأشهر فيها هي ساحة الكابيتول.
يُعدّ مبنى الكابيتول المقابل لساحته الشاسعة مركز المدينة، وهو مقر البلدية حالياً. على أرضية الساحة دُقَّ بالنحاس شعار أوكسيتانيا، وهي نجمة رباعية تتوسّط علم أوكسيتانيا بالأصفر على خلفية حمراء. ولهذا الإقليم لغته الخاصة، هي أقرب خليط ما بين الفرنسية والإسبانية، إلا أن اللغة الفرنسية هي التي عمّت الإقليم بعد توحيد الجمهورية، وصارت لغة الإقليم الرسمية كما هي لغة عموم فرنسا، والآن يندر أن نجد متحدّثين بالأوكسيتانية رغم أن البلدية هنا لا تزال تستخدمها إلى جانب الفرنسية في تسميات الشوارع والتنبيهات الصوتية في المترو وغيرها من المرافق العامة. وعلم أوكسيتانيا الأحمر بنجمته الصفراء، إضافة إلى علمَي الجمهورية الفرنسية والاتحاد الأوروبي، يعتلي مبنى الكابيتول، مركز المدينة.
أما ساحة الكابيتول فتكاد تكون مشغولة طوال أيام السنة، بين تظاهرات سياسية وحقوقية وأسواق وفعاليات وحفلات وعروض في الهواء الطلق، وبين أسواق تفترش الساحة في الأعياد والمناسبات، شهرَيْ ديسمبر ويناير تمتلئ الساحة بأكشاك على شكل أكواخ تحتفل بموسم الأعياد من نويل إلى رأس السنة، وتبيع ما يخصّ هذه المناسبات، إلا أن أهم ما تبيعه في الصقيع -حتماً- هي المأكولات والمشروبات الساخنة، وتحديداً أليغو، وهي خليط كالعجين من البطاطا والجبنة المذابة، وتؤكل مع السجق.
تكثر المطاعم والمقاهي في مركز المدينة، إضافة إلى المخابز ومحلّات البوظة والحلويات وغيرها، وتقلّ كلّما اتجهنا بعيداً إلى أطراف المدينة.
ما يميِّز المطاعم هنا هو تنوّعها ومحلّيّتها وصغر مساحات معظمها. إضافة إلى المطاعم المحلّيّة الفرنسية يمكن بسهولة الاهتداء إلى مطاعم إيطالية ولاتينية وهندية ويابانية، عدا المطاعم العربية المشرقية منها والمغاربية. ولأهالي المدينة عادات حاسمة في عدة مسائل كوجبة الغداء مثلاً، هي أولاً محصورة بين الثانية عشرة ظهراً والثانية بعد الظهر، ومعــظم المطـــاعم -مهما كانت هويّتها- لا تقدّم هذه الوجبة خارج نطاق الساعتين المحدّدتين للغداء. استثناءات صغيرة تنفذ هي مطاعم الكريب، وهي منتشرة كذلك ويؤكل الكريب مالحاً كوجبة رئيسية تُعَدّ بالدجاج والجبنة مثلاً، أو حلواً كتحلاية. عادة أخرى هي ضرورة اشتمال الوجبة على مقبّلات تكون عادة سلطة، ووجبة رئيسية، وتحلاية، وفنجان قهوة يختتمها جميعها، وللجبن هنا مكانة لا ينافسه عليها غيره من المأكولات، هو حاضر على الأغلب في أيّة وجبة، إما ضمن السلطات أو الوجبة الرئيسية أو التحلاية التي قد تكون قطعة من الجبن وحسب، وفي فرنسا إجمالاً 400 نوع مختلف من الجبنة. أما الوجبات المعروفة هنا فهي كبد البط واسمها الفواغرا والستيك مع البطاطا المقليّة، وما يميّز تولوز فرنسياً هي -حصراً- الكاسوليه، وبطبيعة الحال هنالك الكسكس القادم من المغرب العربي والذي صار من الأكلات الشائعة في تولوز كما في باقي فرنسا. ومن حسن حظّ أهالي المدينة أن تقلّ لديهم تلك المطاعم الأميركية المنتشرة في كافة أصقاع الأرض، وما وُجِد منها لا يَفِد إليها غير طلاب المدارس.
تولوز هي ثالث أكبر المدن الطّلابية في فرنسا بعد باريس وليون، وجامعتها بتفرّعاتها تُعَدّ من أهم الجامعات في فرنسا، ومجتمعها الطّلّابي متنوّع حيث يفدها الطلاب من باقي أنحاء أوروبا والعالم.
تأسَّست جامعة تولوز المتفرّعة حالياً لثلاث جامعات، في القرن الحادي عشر عام 1229، وكحال باقي الجامعات الأوروبية في باريس وغيرها فقد تأسَّست في الوقت الذي بدأ فيه الأوروبيون بعمليات طويلة لترجمة المؤلّفات العربية القادمة عبر الأندلس القريبة جغرافياً من تولوز، إضافة إلى الترجمة عن الفلسفة الإغريقية.
هنالك حالياً جامعة تولوز الأولى المتخصِّصة بالحقوق والاقتصاد والإدارة، وجامعة تولوز الثانية (لو ميراي) المتخصِّصة بالعلوم الإنسانية والآداب والفنون واللغات، وجامعة تولوز الثالثة (بول ساباتييه) المتخصِّصة بالعلوم والتكنولوجيا والطب، إضافة إلى معاهد هندسية وتقنية تشكِّل بمجملها جامعة تولوز المعروفة.
صناعياً، قد لا يَعرف الكثير أن طائرات (اير باص) هي فرنسية وتولوزيانية بالتحديد، وتولوز هي مركز الصناعات الجوّية الأوروبية لاحتوائها على عدّة صناعات في هذا المجال، إلا أن مصانع «اير باص» في المدينة تُعدّ من المعالم السياحية التي يفدها الزوّار على مدار السنة.
اليد العاملة العربية، المغاربية تحديداً، حاضرة في جميع المجالات الصناعية في المدينة. أما المنطقة التي يكثر بها العرب فهي أرنو بيرنار القريبة من مركز المدينة، الكابيتول. وهي ساحة تطلّ عليها محلّات ومطاعم عربية حيث تكثر أسياخ الشاورما (يسمّونها كباب) وخبز التنّور، وكذلك المقاهي التي يمكن فيها تناول الشاي المغربي والحلويات العربية. توجد في الساحة كذلك محلّات تبيع ما يصعب على العرب إيجاده في باقي أسواق المدينة، من مستلزمات المطبخ العربي من بهارات ومواد إعداد الأكلات العربية، إلى أدوات المطبخ، والملابس، ومقتنيات البيت العربي التقليدي، مشرقاً ومغرباً.
أما الرياضة الأكثر شيوعاً هنا فهي الرغبي، بخلاف بقية المدن الفرنسية، نظراً إلى البطولات التي حقّقها فريق المدينة على المستويين الأوروبي والدولي، فشعارات الفريق وملابسهم. وكرات الرغبي تسهل رؤيتها في المدينة ومحلّاتها وحتى إعلاناتها، (استاد) النادي يقع في المنتصف على جزيرة صغيرة في نهر الغارون بين ضفّتَي المدينة. ولرياضة الرغبي صفحات خاصة في الصحف المحلّيّة في تولوز، غير الصفحات المخصَّصة للرياضة بالمجمل.
أما الصحافة هنا، فكباقي المدن الفرنسيـــة توجد الصحـــف الوطنية مثل «لومونـــــد» و«ليبـــراسيون» وغيرهما، وتوجد كذلك صحف محلّيّة كصحيفة «لا ديبيش» المعنية أساساً بتولوز، وتوجد -بطبيعة الحال- الصحف المجّانية والإعلانية والموزَّعة على مداخل محطّات المتـرو في المدينة كـ «مترو نيوز» و«ديريكت ماتان»، وهذه هي الأكثر قراءة إلا أن قراءتها قد لا تزيد على خمس أو عشر دقائق، مدّة الركوب في المترو.
المدينة قديمة، وتحوي العديد من المباني الأثرية، من كنائس ومتاحف وبيوت وكذلك الممرات، يفصل نهر الغارون ضفّتَيها المنفصلتين أساساً من ناحية العمارة والمجتمع تاريخياً، فالضفة الجنوبية كانت قديماً مناطق الطبقات السفلى من المجتمع، وتطلّ الضفة مباشرة على مياه النهر، والمباني فيها أصغر، ولا كنائس كبيرة، ولا شوارع عريضة. الضفة الشمالية كانت قديماً مناطق الطبقات العليا من المجتمع في تولوز، حتى إن جداراً عالياً يفصل الضفة عن النهر، وهي منطقة أعلى من نظيرتها في الجنوب، تحوي مركز المدينة قديماً وحديثاً، كما تحوي أهم أسواقها وشوارعها ومرافقها السياحية.
في الضفة الشمالية وقريباً من الكابيتول، توجد كنيسة سان سيرنان التي أضافتها منظمة اليونسكو عام 1998 إلى قائمة التراث العالمي، وهي كنيسة قديمة بمبنى دائري تغطيه الزخارف خارجياً وداخلياً، ولا تزال مفتوحة للمصلّين كما للسائحين. هنالك معلم آخر تَمَّ أُضافته إلى قائمة التراث العالمي،هي قناة كانال دو ميدي التي حفرها الفرنسيون في القرن السابع عشر والتي أوصلوا بها نهر الغارون القادم من المحيط الأطلسي إلى البحر الأبيض المتوسط جنوباً.
ثقافياً، تعجّ المدينة بالمراكز والفعاليات، على غرار متحفها الأكبر وهو متحف أوغستان الواقع في مركز المدينة والمجانب لأحد أكثر مناطقها ازدحاماً وهي الإسكيرول، هو متحف دائم للفنون الجميلة يحوي قطعاً أثيرة من اللوحات والمنحوتات، كما يقوم سنوياً باستضافة معارض مؤقَّتة تمتدّ لأشهر، كحال باقي المتاحف الكبيرة في فرنسا والعالم. هنالك متاحف عدّة ومتخصّصة في المدينة إلا أن الملفت في أحدها، وهو متحف صغير نسبياً بُنيَ أساساً كمنارة علي ضفّة الغارون، واسمه شاتو دو، الملفت فيه أنه أحد أقدم المعارض المكرّسة للصور الفوتوغرافية في العالم، وقد تأسَّس كحاضن دائم لمعارض تتناوب عليه منذ سبعينيات القرن الفائت، وما يزال حتى الآن يستضيف معارض فوتوغرافية عدّة في المدينة، علماً أن جدران الضفة الشمالية على ضفاف الغارون تشكِّل أحياناً معارض لصور فوتوغرافية ضخمة تُشاهَد من بعض شوارع المدينة.
في تولوز فرق مسرحية ومسارح تابعة للبلدية وهي الكبيرة منها، وأخرى صغيرة أكثر محلّيّة، ويصعب إيجاد شارع رئيسي خالٍ -هو أو أحد أزقته- من هذه المسارح.
لدُور السينما هنا حضور كذلك يعكسه الازدحام شبه الدائم في صالاتها، منها التجارية كسينما غومون وأو جي سي، ومنها ما يُعرَف بـ(سينما الفنون والتجريب) كسينما يوتوبيا التي ستفتتح قريباً الدورة الأولى لمهرجان الأفلام العربية، وآبي سي، ولكل من النوعين طبيعته من الزوّار،دور السينما التجارية عادة ما تمتلئ بطلاب المدارس، الأخرى تمتلئ بالأنضج وبالأكبر عمراً.
إلى جانب محطّة القطار الرئيسية في المدينة، محطة ماتابو، توجد المكتبة الرئيسية، وهي مبنى ضخم من أربع طوابق، يُسمّى محلّيّاً «الميدياتيك» كونه لا يقتصر على الكتب والصحف ومنها العربية، بل يقدّم مادة وخدمة تلفزيونية وصوتية وكمبيوترية وسينمائية واسعة لزائريه، إضافة إلى الفعاليات الثقافية التي يقيمها. كما يوجد العديد من المكتبات الصغيرة التابعة للمكتبة المركزية هذه تتوزّع في شوارع المدينة وأزقّتها، يمكن استعارة الكتاب أو الفيلم من أي منها وإرجاعه إلى أي منها كذلك.
في المدينة خدمة مواصلات متنوِّعة، الوسيلة الأساسية والأسرع هي مترو الأنفاق، بخطّين يوصلان إلى المناطق الأساسية في المدينة وعند أطرافها، يليه الباصات بأعدادها الكبيرة والتي تؤدي بالمتنقّل إلى شوارع وطرقات قد لا يوصل إليها المترو، فكثيراً ما يستقل أحدهم كُلّاً من المترو والباص للوصول إلى غايته. مؤخَّراً، في شهر ديسمبر/كانون الأول، تَمَّ افتتاح الترام ليوصل إلى ما قد لا يوصِل إليه المترو، أما الوسيلة الأكثر استخداماً للتنقل هنا فهي الدراجة الهوائية التي لها طرقات ومواقف خاصة بها، وتحديداً في مركز المدينة وما حوله، فعشر دقائق كافية للوصول للمكان المراد ضمن المركز، وهو عند سكّان المدينة أسلوب حياة لا يتوقّف شتاءً رغم البرد والصقيع.
المدينة بموقعها الجغرافي جنوب فرنسا وبالقرب من الحدود الإسبانية باتت متأثِّرة بالثقافة الإسبانية بالمجمل، كما تَأْهَل بالعديد من الفرنسيين من أصول إسبانية وهم أبناء اللاجئين إليها هرباً من حكم الدكتاتور فرانكو في النصف الثاني من القرن الفائت، ويظهر ذلك واضحاً من خلال الفعاليات الثقافية في المدينة إضافة إلى المطاعم والمقاهي، وانتشار اللغة الإسبانية بشكل ملحوظ، فقسم اللغة الإسبانية في جامعة تولوز هو الأقوى فرنسياً. صارت المدينة خليطاً بين الفرنسي والإسباني وقليل من الإيطالي إضافة إلى العربي الحاضر في نسيجها العام لقربها كذلك من سواحل البحر الأبيض المتوسط.
أخيراً، لا مهرب من الحدائق أينما توجّهنا، وفي جميعها نوافير بمنحوتات تميّز كلاً منها، فالمدينة، إضافة إلى ألوانها الزهرية والزرقاء والحمراء، هي خضراء بامتياز، فالأشجار على الطرقات والحدائق في كل ساحة، إضافة إلى الحدائق العامة الشاسعة، وأكثرها شهرة الحديقة اليابانية، وجاردان دي بلان الممتلئة بأشجار ونباتات عديدة ومتنوّعة تَمَّ جلبها من أنحاء مختلفة من العالم.
تولوز منسجمة ومتنوعة بشكل واسع. خليط الثقافة المنعكس على مجتمعها وفعالياته الثقافية والفنية يحكي عن هذا التنوُّع والانسجام. وهي، بخلاف العواصم الكبيرة، ما تزال تحافظ على شيء من المحلّيّة له رائحته ومذاقه ومشهده الخاص.
دمتي بخير