فياله من شعور مفعم بالأمل والاطمئنان على حسن ثمرة التربية حينما يطالب الطفل من تلقاء نفسه بأن يؤدي فريضة الصوم على ما فيها من مشقة للكبار فضلا عن الصغار وخاصة في أجواء حارة مثل أجواء معظم عالمنا العربي .
ولهذا فقد اعتنى الإسلام عناية كبيرة بالنشء الذي يعد من أهم دعائم الدولة الإسلامية الناهضة القوية , وحرصت الشريعة السمحاء على حقوق وواجبات الطفل , واهتمت به بداية من اختيار الزوج لزوجته الصالحة التي تقوم بعبء التنشئة الإسلامية الصحيحة لطفلهما عقيدة وعبادة وعلما وعملا وسلوكا وصحة.
ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن جعل لهم شرائع الإسلام ميسرة ومدرجة حتى يسهل التزامها والتمسك بها دائما .
والصيام من العبادات الشاقة على النفوس ، كونها لا تمنع المحرم فقط بل تمنع المباح – في غير وقتها – من أمور ألفها الإنسان , فهي امتناعٌ عن أمور طبيعية وضروريَّة للجسد ,
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : " أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : " منعته النوم بالليل فشفعني فيه ،فيشفعان " رواه أحمد.
والفطرة البشرية ترفض الإجبار على المنع فكل ممنوع دائما مرغوب , لذا جاء النهج الرباني الحكيم في التدرج التشريعي لعملية الصيام , وساق الله عز وجل فريضة الصيام على أمة الإسلام بطريقة ميسرة مدرجة تخبرنا أن الصيام ليس جديدا بل سبقنا إليه الكثير من الأمم , وبدقة الحكيم جاءت بألفاظ ابتعدت عن الإجبار الذي ينفر النفوس ، وبينت يسر الدين في حال المرض أو السفر ,
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " , ثم بعد ذلك تبعتها آية الفرض " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " (البقرة: من الآية185)
ومن هذا المنطلق التربوي واتباعا للنهج الرباني , تبدأ الأسر المسلمة في التدرج الإيجابي مع أطفالها في فريضة الصيام , وتتخذ جميع الوسائل المحببة للطفل في تعويده على الصيام شيئا فشيئا , وتقدمه له بصورة تجعله يحبه ويشتاق إلى رمضان كي يصوم مع الأسرة كفرد لا يقل إيمانا عن بقية أفرادها الذين يحرصون على الصيام وتحمل المشاق رغبة في الأجر وحبا منهم لهذا الشهر المعظم , من خلال السلوكيات التي تتبعها الأم مع أطفالها لغرس تلك العبادة في قلوبهم إلى الأبد .
أولهما : على كل أم أن تدرك جيدا أن الطفل دون البلوغ لم يكتب عليه الصيام بعد , ولكن الشريعة الإسلامية دعت إلى تدريب الأبناء على تحمل التكاليف الشرعية تدريجيا حتى لا تصعب عليهم عند بلوغهم السن الشرعي ,
كما جاء في رواية أبي داود عن الصلاة , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ , وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ "
أما بالنسبة للصوم : فعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ رضي الله عنهما قَالَتْ : " أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ التي حَوْلَ الْمَدِينَةِ : (مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) ،
فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ رواه البخاري .
ثانيهما : أن السن الذي يبدأ فيه الوالدان بتعليم أولادهما الصيام , هو السن الذي يجدان في طفلهما طاقة بدنية وصحية في تحمل الصيام ، وهذا يختلف باختلاف بنية كل طفل عن الآخر ، وقد حدَّده بعض العلماء أي صيام اليوم كاملا بسن العاشرة .
خطوات عملية لتدريب طفلك على الصيام بكل يسر :
ونقسم تلك التهيئة لقسمين أساسيين:
أولهما : كيفية الاهتمام بشهر رمضان عامة
– من أهم الخطوات التي تنمي عند الطفل حب رمضان وصيامه أن يرى الطفل جميع من حوله مبتهجين فرحين بقدوم هذا الشهر الكريم ، فينشأ ويكبر وهو يرى ويعيش مع والديه وأقرانه هذه السعادة الغامرة والفرحة الهائلة لقدوم هذا الضيف العزيز , فإذا ما أقبلت تلك الأيام وهبت نسماتها وعطرها الفواح الذي لا يضاهيه عطر , وتطل علينا نفحات وخيرات وبركات هذا الشهر العظيم ، يسترجع ذكرياته التي حفرت في ذاكرته مع رمضان أثناء طفولته , والتي لا يمكن أن تمحوها السنون أو أن تعكر صفوها الهموم ، فجميعنا نعيش ونحمل بداخلنا ذلك الطفل الوديع الذي يحتضن ذكريات رمضان في مخيلته , فإذا ما هلت البشائر الرمضانية والنفحات الربانية يستدعيها – لا – بل تطل هي على حياتنا من مكنون مشاعرنا فتملأ وجداننا فرحة وسعادة لا توصف , ولا يقدرها إلا من عاشها واغتنمها وحافظ عليها بداخله .
ويظهر ذلك جليا بالارتباط الشرطي بمجرد دخول الشهر وسماع الصوت العذب من المذياع بتلاوة عطرة من القرآن الكريم للشيخ محمد رفعت , أو سماع التواشيح للشيخ النقشبندي , فهذه الوالدة رحمها الله تقف تعد أشهى الأطعمة بحبها وعاطفتها لنا قبل يديها الطاهرة , وهذا الوالد الجليل حفظه الله ورعاه يستعد لينزل المسجد القريب من البيت ليؤم المصلين كعادته بصوته الأكثر من رائع الذي يكسوه الخشوع , وهؤلاء الإخوة رفعوا اكف الضراعة لله الواحد القهار أن يغفر لنا ولجميع المسلمين , وهاهي المائدة تراصت فوقها الأكواب والأطباق العامرة .
– الاهتمام بقدوم الشهر الكريم من خلال الحرص على تعليق الزينات والأشكال الرمضانية المحببة للأطفال والأنوار والفوانيس , ابتهاجا منا بقدوم شهر طالما انتظرناه طويلا ونستقبله بالفرحة والسرور وشكر الله على تلك النعمة التي منها علينا أن بلغنا رمضان .
– الحرص على شراء ملابس جديدة مخصصة لصلاة التراويح فقط – لمن يملك – أو تخصيص زى مناسب ونظيف لذلك , وتكون معلقة أمام أعينهم ومعطرة , فيريدون ارتدائها , فنخبرهم أنها ملابس رمضان وعندما يأتي سترتديها وتفرح بها , فيزداد شوقه لقدوم الشهر ويعد الأيام بل الساعات ويسال كل لحظة متى سيأتي رمضان وكم بقي من أيام عليه , حتى إذا دخلت أول ليلة من رمضان غمرت قلبه الصغير الفرحة بقدومه .
– استخدام الأسلوب القصصي الممتع في الحديث عن الصيام وكيف كتبه الله على المسلمين وكيف كان يصوم أطفال الصحابة الذين من أعمار أطفالنا .
– إرشاد الطفل أنه بصيامه يمتثل لأمر الله تعالى ويدخل في زمرة العباد الصالحين المطيعين لله , وبصيامك سيتكون لديك حس رحيم بإخوانك من فقراء المسلمين الذين لا يجدون قوت يومهم طول العام , وأن الهدف من الصيام أسمى من الشعور بالجوع والعطش وتعذيب النفس , فينمى فيه جانب الرحمة والبذل والعطاء والصبر.
القسم الثاني أثناء الصيام
– يتم تدريب الأبناء على الصيام في أيام متفرقة من العام وبقرب شهر شعبان نزيد في ساعات الصيام تدريجيا , سيبدأ الصوم أولا بساعة أو اقل حسب طاقتهم مع السماح لهم بشرب القليل من الماء كلما طلبوا ذلك مع تنبيههم أننا نلبي لهم طلبهم فقط لأنهم مازالوا صغارا – ولأنها أول مرة يصومون فيها – ثم يزداد الوقت مرة بعد الأخرى وذلك على مدار شهر شعبان , إلى أن يصلوا في رمضان وهم مدربون على تحمل جزء يسير من اليوم بدون طعام ولا شراب , وإذا طلبوا طعاما أو شرابا في البداية سنوافق ونتيح لهم هذا , أما بعد ذلك فسنطلب منهم برفق وحب أن يتحملوا قليلا وبعدها سيأخذون ما يشتهون .
– تشجيع الطفل ماديا ومعنويا كلما صام الفترة المحددة له حسب طاقته , والثناء عليه أمام الأسرة عند إتمامه تلك الفترة , وشكره على حسن طاعته لله ثم للوالدين , وإخباره أن الله تعالى يفرح به وانه قد أعد له جنات النعيم التي فيها كل ما يشتهيه من حلوى وألعاب ومأكولات متنوعة أعدت خصيصا له بسبب صيامه.
– استخدام روح المنافسة إذا ما كان في الأسرة الواحدة أكثر من طفل يقدرون على صيام فترة من النهار , وتشجيعهم وتحميسهم , من خلال عمل جدول يعلق في غرفتهم وتوضع نجمة ملونة ومبهرة للطفل أمام اسمه عند كل مرة صام فيها القدر المحدد له , مع الأخذ في الاعتبار عدم معاقبة أو تعنيف من يتخلف عن الصيام وخاصة في البدايات .
– ملاحظة الطفل أثناء صيامه وفي حال رأينا عليه الإعياء الشديد أو الإجهاد نطلب منه أن يفطر , ونخبره أن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده المؤمنين أن رخص لهم الإفطار في حال مرضهم , وانه مازال صغيرا وفي البداية ومع مرور الوقت سيعتاد الأمر ويكمل صيامه .
– في بداية الأمر ومع أول يوم من أيام رمضان تستغل فترة استيقاظ الطفل من النوم وغالبا ما تكون بعد الظهر , فنطلب منه بعد أن يتناول وجبة فطوره الاعتيادية أن يجعل هذه الوجبة هي سحوره ثم ينوي ويبدآ في الصيام إلى آذان العصر , وذلك يصلح مع الأطفال ما دون سن المدرسة , ثم بعد نصف رمضان _ على ألا يكون الأمر يوميا بل يوم أو أكثر في الأسبوع – نبدأ في تبديل الوقت , بمعنى أن يبدآ صومه قبل المغرب بساعة أو أكثر قليلا إلى آذان المغرب حتى يستشعر لذة انتظار صوت المؤذن واللهفة في تناول قطرات الماء البارد .
– أما بالنسبة للأطفال الأكبر سنا فنوقظهم وقت السحور ونحببهم في ذلك ونخبرهم أنها سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ففيه الخير والبركة , عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً " رواه البخاري , ونشجعهم على تناول التمر في السحور فهو نعم السحور كما أنه يعطينا الطاقة اللازمة لأجسادنا في نهار اليوم الجديد وبه ننال الثواب لاتباعنا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعم سحور المؤمن التمر " . صححه الألباني .
– أما بالنسبة للأطفال ما بين الثامنة والعاشرة , فيبدأون الصيام إلى منتصف اليوم ثم تزداد المدة إلى أن تصل إلى صيام يوم كامل حقيقي بسحور ونية والتزام منهم مثلنا تماما إلى وقت المغرب .
– إشراك الطفل في تحضير وجبتي الإفطار والسحور والعصائر وترتيب المائدة ووضع الأطباق عليها , فهذا الأمر يشعره بالفرحة والمشاركة الايجابية في إعداد الطعام والشراب كما مشاركته لنا في الصيام .
– الحرص على تواجد الأبناء على مائدة السحور والإفطار حتى إن لم تكن أعمارهم تسمح لهم بالصيام , لأنها تلفت نظرهم لأهمية ذلك الشهر وتلك العبادة بهذه الطقوس الإيمانية اليومية فتجعلهم يتشوقون أن يكبروا قليلا حتى يسمح لهم والديهم بمشاركتهم تلك العبادة الرائعة .
ختاما أذكر نفسي وإياكم أن أطفالنا أمانة في أعناقنا سنحاسب عليها ما إذا كنا أدينا حقها أم ضيعناها وأهملناها , لذا علينا أن لا نجهد أطفالنا في الصيام إذا بلغ الجهد منهم مبلغه , فلا يصرَّ أحدنا على إكمال ابنه الصوم ؛ حتى لا نكون بسلوكنا وتصرفنا السلبي المتشدد سببا في بغضه لتلك العبادة ، أو نضطره للكذب كي يرضينا ، ويمحى جانب هام وحيوي واراه أساسيا في حياة أبنائنا ألا وهو مراقبة الله عز وجل في كل أعمالهم في السر والعلن فيخشون البشر أكثر من خشيتهم لله , أو أن يدخل في مضاعفات صحية ونفسية مؤلمة تؤثر على أدائه الفريضة بعد التكليف الشرعي .
فلا ينبغي مطلقا أن نتشدد في إتمام الصيام وخاصة أنهم ليسوا مكلفين , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ : عَنْ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يفِيقَ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ " رواه أبو داود وصححه الألباني .
وهذا شيخنا الجليل بن عثيمين رحمه الله يعلمنا كيف نتعامل مع أبنائنا دون الإضرار بهم :
" إذا كان صغيراً لم يبلغ فإنه لا يلزمه الصوم ، ولكن إذا كان يستطيعه دون مشقة فإنه يؤمر به ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يُصوِّمون أولادهم ، حتى إن الصغير منهم ليبكي فيعطونه اللعب يتلهى بها ، ولكن إذا ثبت أن هذا يضره فإنه يمنع منه ، وإذا كان الله سبحانه وتعالى منعنا من إعطاء الصغار أموالهم خوفاً من الإفساد بها ، فإن خوف إضرار الأبدان من باب أولى أن نمنعهم منه ، ولكن المنع يكون عن غير طريق القسوة ، فإنها لا تنبغي في معاملة الأولاد عند تربيتهم " انتهى . " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين "