تبدأ معاناة الأسرة بمجرد ظهور العلامات الأولى للمرض العقلي وبدء السلوك الغريب لدى المريض حيث تبدأ رحلة البحث عن الأسباب والعلاج والتنقل من طبيب إلى آخر طمعا في التحسن الكامل والعودة إلى حالة المريض الطبيعية قبل المرض وهذا ما لا يحصل دائما. وتكون الأسرة في حالة ترقب وخوف من أي سلوك عدواني للمريض سواء كان هذا السلوك موجها لأحد أفراد الأسرة أو الجيران أو تجاه المريض نفسه.
تلاقي الأسرة صعوبة بالغة في إقناع المريض بزيارة الطبيب النفسي ويقاوم هذه الفكرة بقوة بحكم اعتقاده الراسخ أنه ليس مريضا وأن طرح هذه الفكرة من قبل الأسرة هو من باب اضطهادهم وكراهيتهم له وليس من باب الخوف عليه ولعلاجه.
تزداد الأمور تعقيدا عند وجود خلاف في الأسرة في كيفية حل المشكلة وفي كيفية التعامل مع المريض فالبعض يرى استخدام أسلوب الإقناع والتفاهم معه بهدوء والبعض الآخر يرى ضرورة اللجوء للقوة وإجبار المريض على الذهاب للمستشفى وتنويمه والخلاص منه ومن مشاكله وعدوانيته.
لا يوجد أسلوب واحد يمكن أن يتبع مع كل المرضى ولا على تشخيص مرض معين فلا يوجد مريضان متشابهان في كل شيء إطلاقا ومن الصعوبة إيجاد وسيلة موحدة للتعامل مع كل المرضى ولكن توجد بعض النقاط المشتركة التي لا تلغي المشاكل المصاحبة للمرض العقلي ولكن تخفف منها ومن آثارها وتقلل من تفتت العلاقة بين المريض وباقي أفراد الأسرة وتزيد من تعاون المريض معهم إلى حد ما. ومن هذه الإرشادات أضع هنا بعض الخطوط العريضة:
1) تبدأ عناية الأسرة بالمريض الذهاني قبل الحصول على الخدمة الطبية أي مع بداية الأعراض وذلك بتفهم باقي أفراد الأسرة أن هذه التصرفات التي تبدر من المريض غير متعمدة مهما بدت كذلك كالعدوانية المترصدة أو الكلام البذيء ونحو ذلك وإنما هي نتيجة وجود اضطراب في عقله. وبذلك تنتفي الحاجة لاستخدام العنف مع المريض مهما كانت شدة هذه التصرفات وعدم الرد على المريض بكلام أو إشارة تدل على الاضطهاد.
2) إذا لزم الأمر استخدام القوة في بعض الأحيان فيجب أن يتم ذلك على يد المدربين الذين بإمكانهم تعطيل أو تقييد حركة المريض دون حصول إصابات له كخدمة الهلال الأحمر أو الشرطة أو الخدمات الطبية النفسية المتخصصة في هذا المجال.
3) غالبا ما يتطلب العلاج في حالة الذهان الجديدة التنويم في المستشفى بهدف إجراء الفحوص الطبية لتأكيد التشخيص والوصول إلى العلاج المناسب لحالة المريض ورفض التنويم في بداية المرض بحجة الشفقة على المريض قد يفاقم المشكلة ويزيد من مضاعفاتها ويؤخر الحصول على الخدمة الطبية ويزيد من معاناة الأسرة. لذا ننصح بإتباع إرشادات الطبيب بهذا الخصوص.
4) عند تشخيص حالة المريض على يد الطبيب المختص, ينبغي على الأسرة أن تسأل عن ماهية المرض وأسبابه وأعراضه الأخرى المحتملة ومآل ومنحى المرض والنتائج المتوقعة وما هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع أعراض المريض كالأوهام(الضلالات) أو الهلاوس(الاهلاسات) ونوبات الغضب.
5) يصدر من المريض تصرفات أو أقوال غريبة جدا ويجب ألا يكون محل سخرية الأسرة كما يجب عدم محاولة إقناع المريض بخطئه في حال تلفظ بكلام لا يمكن أن يكون صحيحا مثل أن الاستخبارات تلاحقه أو أن هناك أشعة تنطلق من عينيه وهكذا فإن نقاش مثل هذه الأمور معه لن يزيلها من تفكيره بل قد يكون النقاش معه منطلقا لأوهام (ضلالات) أخرى مثل أن يمثل هذا النقاش نوعا من الاضطهاد من جانب الأسرة له وليس حرصا عليه. مثلا عندما يقول شيئا لا يمكن أن يحدث فيكتفى أن يقال له (( هذا الشيء لا نعتقد نحن أنه صحيح)).
6) في حالة القبول بتنويم المريض فيجب عدم إهماله وتركه بالمستشفى دون السؤال عنه والاطمئنان عليه من وقت لآخر. إن عدم الاهتمام بالمريض المنوم يؤثر تأثيرا بالغا على نفسيته وتقبله للعلاج ويزرع في نفسه الإحساس باليأس وأنه مرفوض من قبل أسرته. عند عدم القدرة على زيارته, يتصل به أفراد الأسرة والأصدقاء بالهاتف.
7) الأمراض المزمنة(النفسية أو الجسمانية) تقتضي النقاش بين الطبيب والأسرة في طريقة علاجها وتدبيرها ولا ينفرد الطبيب أو الفريق المعالج بذلك ولذا ينبغي للأسرة الإسهام في هذا الأمر بالرأي وتنبيه الطبيب لأي ملحوظة قد تفيد في الخطة العلاجية.
8) في حال كان المريض المنوم مضطربا أو عدوانيا بدرجة كبيرة فقد يصدر من الطبيب المعالج رأي بمنع الزيارة في اليومين أو الثلاثة الأولى للتنويم وذلك يصب في مصلحة المريض والأسرة كذلك.
9) وقت الزيارة يجب أن يستغل في الاطمئنان على المريض بشكل بسيط مثلا عن نومه وطعامه وحاجاته الأساسية وتبادل الأحاديث بشكل ودي وبلطف بالغ وليس السؤال عن الأسباب التي جاء من أجلها حيث أن نقاش مثل هذه الأمور قد تستثير المريض وبسهولة سوف يساء فهمها من قبله.
10) قد يتخلل التنويم زيارات منزلية لمدة وجيزة وتعاون الأسرة في هذا الأمر يزرع في نفس المريض الطمأنينة والشعور بالأمن وأنه غير مرفوض من قبل الأسرة.
11) بعد خروج المريض وبصحة جيدة, فهذا لا يعني قطع المتابعة مع الطبيب بل يتبع ذلك عناية طبية في العيادات الخارجية. قطع العلاج بعد الخروج تعني وضع المريض في خطورة حدوث انتكاسة وتراجع حالة المريض.
12) إن تعامل الأهل مع المريض النفسي بعد الخروج يعد من أهم عوامل تواصل شفاء المريض ومنع الانتكاسات فمثلا المشاعر الموجهة للمريض(High Expressed Emotions) كنقد أفعاله ووصمها بالجنون وتوجيه كلمة قاسية له كعبارة(أنت مجنون) والتعامل معه بجفوة من أهم أسباب الانتكاسات. وكذلك تقديم الرعاية والعناية بشكل مبالغ فيه والدلال الزائد قد يؤدي لنفس المشكلة وأيضا تعتبر من المشاعر الموجهة للمريض بشكل غير صحي. كما أن تدليل المريض الزائد يؤدي بالمريض إلى أن يستخدم مرضه كحجة للتراخي والكسل والاعتماد على الآخرين وهذا يجعل المريض غير راغب في الشفاء.
14) ينصح الأهل بعدم إعطاء وعود للمريض ابتداء وعند حدوث ذلك فيجب الالتزام بتنفيذ الوعد قدر الإمكان واحترام الكلمة أمام المريض.
15) عادة, تعاني أسرة المريض الذهاني من عدم تعاون المريض وذلك برفض العلاج فينبغي الاتصال بالطبيب المعالج وإخطاره بذلك بأسرع وقت ممكن ليتمكن من إقناع المريض بطريقة ما أو تغيير شكل العلاج المعطى مثل الشراب أو الحقن الطويلة المفعول.
16) قد ترغب الأسرة بقطع الدواء والمتابعة وعند حدوث ذلك ينبغي أيضا إخطار الطبيب المعالج ليخبر الأسرة عن أعراض الانتكاسة المبكرة وللحصول على تقرير عن حالة المريض لاستخدامه في المستقبل عند طبيب آخر.
17) على النقيض من الصورة العدوانية والمتهيجة للمريض, قد يكون سلوك المريض انطوائيا وانعزاليا ولا يشارك في أي نشاط حوله ولا يجالس أفراد الأسرة الآخرين وفي مثل هذه الحالات ينصح بالذهاب للمريض والجلوس والحديث معه ولو بصورة مقتضبة ومحاولة جذبه للانضمام للآخرين وتكرار المحاولة أكثر من مرة ولكن دون إلحاح في ذلك. وعند رفض المريض, لا يقابل بذلك بغضب من أفراد الأسرة بل يقابل ذلك بالصمت ثم تكرار المحاولة وهكذا.
18) يتميز المريض الذهاني بعدم اهتمامه بهندامه ونظافته الشخصية, وعند حدوث ذلك يطلب منه القيام بذلك بنفسه وتذكيره دون استخدام صيغة الأمر فمثلا بدلا من استخدام عبارة((هيا قم واستحم)) يقال له((أليس من الأفضل أن تستحم؟؟))أو (( ستشعر أفضل وترتاح لو قمت بأخذ حمام منعش)) وهكذا.
19) قد يطلب الطبيب المعالج من الأسرة مراقبة سلوك المريض وإعطاءه تقرير بذلك وينبغي أن تلاحظ تصرفات المريض دون أن يشعر هو بذلك إذ أن شعوره بأنه مراقب من الآخرين يشكل ضغطا نفسيا عليه ويثير شكوكه. ومن الأشياء الضرورية في الملاحظة: نوم المريض وشهيته للطعام ومزاجه العام وعلاقته بأفراد الأسرة وتفاعله مع الأحداث بين الفرح والحزن ولا تتطلب هذه الأشياء أي نوع من التجسس أو التلصصأوأ على المريض وإزعاجه.
20) هناك أنواع من الذهان والتي تتطلب نوعا خاصا من الملاحظة اللصيقة والتي تتطلب قدرا كبيرا من اليقظة والاهتمام وتوزيع الأدوار بين أفراد الأسرة مثل حالات الذهان الحادة فيما بعد الولادة لدى النساء والتي تحتوي على الميول القوية للانتحار وكذلك لإيذاء المولود حيث تشعر المريضة بضرورة ذلك. قد يستشف الأهل وجود الخطورة عندما تبدأ الأم المريضة بالحديث عن شكل الطفل المشوه(حسب اعتقادها) أو أنه مريض أو أنه لن يوفق في حياته المستقبلية فهنا ينبغي أخذ الحيطة والحذر وذلك بعدم ترك الأم لوحدها مع الطفل بحال. وكذلك في حالة تشخيص المريض بمرض الشك المرضي في(الزوج أو الزوجة) حيث يحمل المصابون بهذا النوع من الذهان ميولا عدوانية قوية وعلى استعداد لتنفيذ ما يعتقده من أوهام مرضية.
21) عند استقرار حالة المريض الذهاني وملاحظة أن وضعه ينتكس بشكل مفاجئ بعد عودته من خارج البيت أو بعد زيارة أحد أصدقائه له, فينبغي التنبه إلى أن المريض قد يكون تعرض لعارض أدى إلى هذه الانتكاسة مثل الخلاف مع أصدقائه أو تناوله لأي من أنواع المواد المحظورة(المخدرات).
22) يستغل غياب المريض خارج المنزل للبحث بشكل حذر عن أي من أسباب الخطورة على المريض. ينبغي وبالذات في الأيام الأولى للمرض أو بعد خروجه من المستشفى انتهاز أي فرصة لأخذ نظرة خاطفة وسريعة على غرفة المريض (مثلا عند ترتيبها) للبحث عن أي شيء يشكل خطورة كالسلاح أو أوراق يكتب فيها المريض ما ينوي فعله كإلحاق الضرر بنفسه أو الآخرين.
23) لا ينبغي المسارعة بالحجر على المريض وعلى أملاكه أو اتخاذ القيم والوصاية عليه مبكرا فلا يعني مرضه أنه سيستمر بهذا الشكل بل أن الكثير من حالات الذهان تشفى شفاء كاملا وينبغي سؤال الطبيب المعالج عن هذا الأمر.