الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعدُ:
قال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 – 61].
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "سألتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، قالت عائشة: "هم الذين يشربون الخمر، ويسرقون؟"، قال: ((لا يا بنتَ الصدِّيق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلُّون، ويتصدَّقون، وهم يخافون ألاَّ يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات))[1].
ولقد كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة، يخْشَوْنَ أنْ تَحْبَطَ أعمالُهم، وألاَّ تقبل منهم؛ لرُسوخِ عِلمِهِم، وعَمِيقِ إيمانِهم، قال أبو الدَّرداء: "لئن أعلم أن الله تقبَّل مني ركعتين، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]".
قال عبدالله بن أبي مُلَيْكَة: "أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخاف النفاقَ على نفسه، ما منهم من أحدٍ يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل".
ومبطلات الأعمال كثيرة؛ منها ما يُبطِل جميع الأعمال، مثل: الشِّرك، والرِّدَّة، والنفاق الأكبر، ومنها ما يبطل العملَ نفسَه، كالمنِّ بالصَّدَقة، وغير ذلك.
وسوف أقتصر على ذكر خمسة أمور، وعسى أن يكون فيها تنبيه على ما سواها:
الأول الشِّرك:
فإنه محبطٌ لجميع الأعمال؛ قال – تعالى – لنبيِّه محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وقال – تعالى -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
عن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري – وكان من الصحابة – قال: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إذا جمع الله الناسَ يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَن كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا، فلْيَطْلُبْ ثوابَهُ مِن عند غيرِ الله؛ فإنَّ اللهَ أغْنَى الشُّرَكاء عنِ الشرك))[2].
الثاني: الرياء، وهو على قسمين:
الأول: أن يقصد بعمله غير وجه الله، فهذا شرك أكبر، محبط لجميع الأعمال، ويسميه بعض أهل العلم: شرك النِّية والإرادة والقصد، قال – تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].
قال ابن عباس: "إنَّ أهل الرِّياء يُعطَون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يُظلَمون نقيرًا، يقول: مَن عمل صالحًا التماسَ الدنيا صومًا، أو صلاة، أو تهجُّدًا بالليل، لا يعمله إلا التماسَ الدنيا، يقول الله – تعالى -: أُوفيهِ الذي التمس في الدنيا منَ المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة منَ الخاسرين"[3].
القسم الثاني: أن يعمل العمل يقصد به وجه الله، ثم يطرأ عليه الرياء بعد الدخول فيه، فهذا شرك أصغر.
عن محمود بن لبيد – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: "وما الشرك الأصغر؟"، قال: ((الرياء، يقول الله – تعالى – يوم القيامة إذا جازَى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراؤُونَ في الدنيا، فانظروا هل تَجدُون عندهم جزاء؟))[4].
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجَّال؟ الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل فيصلي، فيزيِّن صلاته؛ لما يرى مِن نَظَر رجل))[5].
وقد يتهاوَنُ بعْضُ النَّاسِ بهذا النوعِ؛ بتسميته شركًا أصغرَ، وهو إنما سُمي أصغر بالنسبة للشرك الأكبر، وإلا فهو أكبر من جميع الكبائر؛ ولذلك قال العلماء:
1- إن الشرك الأصغر إذا دخل عملاً فسَد ذلك العمل وحبِط.
2- إن الشرك الأصغر لا يُغفر لصاحبه، وليس فاعله تحت المشيئة كصاحب الكبيرة؛ بل يُعذَّب بقدْره، قال – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116].
فالواجب على المؤمن أن يحذرَ منَ الشرك بجميع أنواعه، وأن يخشى على نفسه منه، فقد خاف إبراهيم – عليه السلام – من الشرك، وهو إمام الموحدين؛ فقال لربه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، قال إبراهيم التيمي: "ومَن يأمن البلاء بعد إبراهيم – عليه السلام؟!"[6].
ثالثًا المنُّ والأذى:
قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، وقال – تعالى -: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواُ مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262].
قال الشاعر:
أَفْسَدْتَ بِالمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حَسَنٍ *** لَيْسَ الكَرِيمُ إِذَا أَسْدَى بِمَنَّانِ
عن أبي ذر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم))، قال: "فقرأها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرات"، قال أبو ذَرٍّ: "خَابُوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله؟"، قال: ((المُسْبِل، والمَنَّان، والمنفِّق سلعتَه بالحلف الكاذب))[7].
رابعًا ترك صلاة العصر:
قال – تعالى -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238].
عن بريدة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن ترك صلاة العصر حَبِط عملُه))[8].
خامسًا التألِّي على الله:
فعن ضمضم بن جوس اليمامي، قال: "دخلتُ مسجد المدينة فناداني شيخ، فقال: "يا يمامي تعالَ"، وما أعرفه، فقال: "لا تقولنَّ لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الله الجنَّة أبدًا"، فقلت: ومَن أنت – يرحمك الله؟ قال: "أبو هريرة"، قال: فقلت: إن هذه الكلمة يقولها أحدُنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته، قال: فإنِّي سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابَّين، أحدُهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول مذنب، فجعل يقول: أقصر أقصر عما أنت فيه، قال: فيقول: خلِّني وربي، قال: حتى وجده يومًا على ذنب استعظمه، فقال: أقصر، فقال: خلني وربي، أبُعثتَ علينا رقيبًا، فقال: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الله الجنة أبدًا، قال: فبعث الله إليهما ملَكًا فقبض أرواحَهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنةَ برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظرَ على عبدي رحمتي، فقال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار))، قال أبو هريرة – رضي الله عنه -: والذي نفسي بيده لتكلَّم بكلمة أوبقتْ دنياه وآخرته"[9].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________________________
[1] "سنن الترمذي" (5/327-328)، برقم: (3175).
[2] "سنن الترمذي" (5/314)، برقم: (3154).
[3] "تفسير ابن كثير" (2/439).
[4] "مسند الإمام أحمد" (5/428).
[5] "مسند الإمام أحمد" (3/30).
[6] "فتح المجيد" (ص74).
[7] "صحيح مسلم" (1/102)، برقم (106).
[8] "صحيح البخاري" (1/200)، برقم (594).
[9] "شرح السنة" (14، 384، 385).
بآرك الله فيك وفي ميزاان حسناآتك ياا رب
بارك الله فيكي