الصفحــة الأولى
1 -مولد النبّي -رضاعته-طفولته-شبابه و..ا
2 -الرسول المُبارك بوصفٍ شامل
3 -غار حـــــــراء و أوّل أسبوع للبعثة
4 -أوّل ثـلاث سنــوات للبعثــة
5 -ثــاني ثـلاث سنـوات من البعثـة
6 -المفـــــــاوضات
7 -ايذاء الصحابة
8 -مسرة الحبشة و موقف النجشي
9 -شعـــــــب بني طالــــــــب
الصفحــــة الثانية
10- مذمــــة الطـائف
11- الاسراء و المعراج
12-التخطيـــــط للهجــــرة
13- بيعــــــة العقبــــــة
14- الهـــــجرة
15 -دخـــول المدينــــة
16 -غزوة بـــدر
17 -تشديـد الخناق علـى النبّي فـي غزوة أحــد
18 -السنــــة الرابعـــة للهجــرة
19-غـــزوة الخنـــدق
الصفحـــة الثالثــة
20- حديــــث الإفـــك
21 -صــــلح الحديبيــــــة
22 -غـــــزوة مــــؤتـــة
23 -فتـــــــح مكة
24 -غــزوة حـــنين
25 -غــــزوة تبــــوك
26 -وفاة النبي
27- شفاعة النبي
كل مُسلمٍ منّا قد يتساءل عن حياة أعظم خلقٍ للبشرية سيد ولد آدم النبّي محمـد من حيث كُنيته و نَسبه و وِلادته و طُفولته و صِفاته و أَخلاقه و زَواجه و شَبابه و زَوجاته و أَبنائه و غَزواته و…و ذلك لكي نفتخر بأصله و نقتدي به فنتبع سيرته بإذن اللـه
خـــاتم الأنبيـــاء هو محـــمد بن عبـــد اللـــه بن عبــد المُطلـــب بن هـــاشم بن قُصــي بن كِـــلاب بن مُــــرّة بن كَعــــب بن لُــــؤي بن غَــــالب بن فِـــــهر بن مَالــك بن النَظـــَر بن كِنــانة بن خُزيمــة بن مُدركـــة بن اليــاس بن مَضــر بن عَدنـان بن أََدد بن مَــقوم بن نَاحــور بن تَــارخ بن َيعــرُب بن يَشجــب بن نـَـابت بن إسمــــاعيل بن إبراهيــــم عليهما السلام .
فبذلك جعل اللـه نسبه يسري في كل أرجاء الجزيرة العربية حتى يُخلدونَه و يتشاركون نسبه ، فخصّ اللـه كل بلدٍ بخاصية تتوارث فيها النبّي ، فجدّه كِنانـــة من اليـــمن و جدّته هـــاجر من مصـــر و جدّه هـــاشم دُفِنَ بغـــزّة و أحفـــاذه عاشوا بين الأردن و العراق و المغـــرب العــربي و هو عاش بالخليــــــج العربي و مُرضعتــه أم أيمـــن من الســـودان و مُرضعتـــه حليــمة السعديـــة من البـــادية و أخوال أبيـــه من المدينـــة المنــورة و أهل الشـــام قال عليهم النبّي أنتم في رباطٍ إلى يوم الديــن .
و بالتالي سَرى و تَوالد نَسلُ الرسول إلى مَشارِق الأرضِ و مَغاربها ليكون فيهم نَسبًا و نَبيًّا رسولاَ .
وقال ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾ .
فقد اصطفى اللـه محمد على سائر خلقه فأخرجه من رُبوعِ مكــة ، فبذلك اصطفى قُريــش على العرب و اصطفى بني هاشم من قريش و اصطفى عبد المُطلب من بني هاشم و اصطفى عبد الله من عبد المطلب ليبعث خيــر الأنام رسولاً منهم و فيهم ، و يقول الرسول في ذلك ( أنا خِيار من خِيار و ما زلت نطفة أتنقل من أصلاب الرجال و النساء حتى وضعها أبي في رحمِ أمّي))
فجدّه هو عبد المطلـــب سّيد قومه الذي شهد حادثة الفيل و الذي تصدى لأبرهة الحبشي عندما دخل مكة بفِيَله ليُحطِّم الكعبة الشريفة فأتاه عبد المطلب و قال له إنّ للكعبة ربٌّ سيحميها فسَخِرَ منه أبرهة و تجرأ على الكعبة ليُهدِّمها فتلقاه ربّ الكعبة بطير أبابيلَ و أنزل فيه سورة بأكملها و هي سورة الفيل في قوله ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ﴾ .
فلم يكن عبد المطلب شُجاعًا فحسب بل كان كريمًا في قومهِ و كان يذبح لهم الذبائح في كلّ مَوسم ما يُقارب الألف جمل كما كان مَسؤولاً عن السِقاية ، و قد كان لعبد المطلب ابنا وحيدًا اسمه الحارث .
و ذات مرّة بينما كان عبد المطلب نائمًا إذ به يرى في المنام رجلاً يقول له احفر المصونة ،فقال له عبد المطلب و ما المصونة ؟، غير أنه استيقظ من منامه و لم يُجَبْ ،فآتاه الرجل مرّة ثانية في منامه و قال له احفر طيبة ،فقال عبد المطلب و ما طيبة ؟ فاستيقظ أيضًا و لم يُجَبْ ، ثم آتاه الرجل مرّة ثالثة في المنام و قال له احفر زمزم،فقال عبد المطلب و أين أجدها ؟ فقال له الرجل بين الفرث و الدم حيث تجد الغُراب المُعلى ينكث في الأرض،و يقصد بذلك المكان الذي كان يذبح فيه عبد المطلب ذبائحه ،فاستيقظ عبد المطلب و انطلق إلى المكان الذي دَلَّه عليه الرجل في المنام فوجد غُرابًا له ريشة بيضاء ينكث في الأرض بين الفرث و الدم فَفَرِح عبد المطلب لأنه أيقن أن منامه قد صدق،فسارع إلى قومه ليبشرهم بما رآى في المنام و اليقظة معًا ثم طلب منهم مُساعدتهم له في الحفر لإخراج ماء زمزم فاستهزأ به قومه ووصفوه بالهذيان ،فتركهم عبد المطلب و أخذ ابنه الحارث و باشرَا بالحفر للتنقيب على بئر زمزم فأخذ كلُّ من يمرُّ به يصخر منه و يضحك عليه فلم يُعرهم عبد المطلب أي اهتمام وواصل حفره و تنقيبه حتى انفجرت الأرض بالماء فرآى القوم ذلك فاندهشوا و ظنوا للوهلة الأولى أنه بئر عادي و ليتأكدوا من ظنهم أحضروا رجلا من اليمن كان قد شَرِب من بئر زمزم قبل أن تتضاربا عليه قبيلتي جُرهم و خُزاعة من أكثر من 40 سنة ، فلمّاشَرِب الرجل من الماء أكَّدَّ لهم أنه ماء زمزم ، فصَدق أخيرا عبد المطلب و فَرِح فرحًا شديدًا بالبئر إلاّ أنّ فرَحَه لم يَدُم لأنّ القبيلة طالبته بالمُقاسمة كون البئر يخص جدّهم إسماعيل إلاّ أنّ عبد المطلب أبى ذلك و قال لهم أنا الذي حفرتها وحدي و لأُقاتلنَّكَم عليها ، فقالت له قُريش و اللات لنقتُلنَّكَ يا عبد المطلب و ليس لك من الولد غير الحارث تستقوي به ،فقال لهم عبد المطلب أاستضعفتموني لأني لم أنجب غير الحارث ؟؟فنَذْرٌ عليَّ يا قريش لإنْ رزقني الله بعشرٍ من الأولاد لأذبحنَّ واحدا منهم له ، ووقتها تدخّل نذير بن الصمّا لفكِّ النزاع بين أهل قريش و عبد المطلب وقال لهم لقد ظلمتم الرجل ، ثم عرض عليهم الاحتكام إلى كاهنة بالشام فكان الأمر كذلك.
فخرج عبد المطلب و بعض رجال قُريش للقاء الكاهنة بالشام و في طريقهم إليها نَفَذَ منهم الماء و المؤونة فأشار عليهم أحدهم أن يقومَ كلَّ واحد منهم بحفر قبره حتى إذا مات لا يُحَمِّلُهم عَنَاءَ الحفر فقَبِل الجميع بهذه الفكرة و حَفر كل واحد منهم قبرًا يَؤوي إليه في الليل لينامَ به حتى إن أدركه الموت مات في قبره ، فنام الجميع و كان عددهم حوالي 23 رجلاً ، و بينما هم نائمون انفجرت المياه من قبر عبد المطلب فدُهِش الرجال من الواقعة ثم قالوا لعبد المطلب هذه حُجَّتُكَ علينا و زمزم لك ، فرجعوا جميعا إلى مكة و خََلُوا سبيل عبد المطلب في البئر .
و بعدها تزوج عبد المطلب مرّة أخرى و أنجب عشرة أولاد ، فأراد أن يُوفي بنذره و يذبح أحد أبنائه ، فنَهَرته قُريش و طلبت منه أن يتَمَهل حتى يَشِّبوا و يُصبحوا رجالاً ، فزاد عدد الأولاد و أصبحوا ثلاثة عشر ولدًا ، وقتها قرَّر عبد المطلب أن يذبح أحد أولاده فاقترع بأسمائهم و أتت القُرعة باسم آخر أولاده و أحبِّهم إلى قلبه عبد الله ، فلم تََتَقبل قريش نتيجة القُرعة و طلبوا منه أن يُعيدها مرّة أخرى ، فأعادها عبد المطلب عَشرُ مرات أخرى و في العشر مرات كانت تظهر باسم عبد الله.
فنهت قُريش عبد المطلب عن ذيحِ ابنه تخوفًا من أن تُصبِحَ هذه العادة سُنّة من بعده فيصبح كلّ من يُرزق بعشر أولاد يذبح واحدا منهم ،ثم أشاروا عليه أن يقصد كاهنة الشام لتُشير عليه ، ففعل ذلك و أشارت عليه الكاهنة أن يضرب بالسِهام على عبد الله وعلى عشرٍ من الإبل فإذا خرج السهم بعبد الله يزيد عشرا أخرى و هكذا ، فكان ذلك فآتى السهم بعبد الله في أول مرّةٍ فزاد الإبل و أعادها عبد المطلب عدّة مرات و كان السهم يخرج في عبد الله حتى بلغ عدد الإبل المائة ، فرمى عبد المطلب السَهمَ فآتى في عبد الله ، ففرح عبد المطلب فرحًا عارمًا و أقسم فقال و الات لن أكُفَ حتى تخرج السِهام بعبد الله عشرُ مرات فكان ذلك و جاءت السِهام بالإبل عَشرُ مرات ، فَفرِحَ و نَحَرَ النُوقَ و نجا عبد الله من الذبح ، و بالتالي تتكرر هُنا قصة الذَبح و الفِداء من سيّدنا إسماعيل إلى والد النبّي ، و قد قال النبّي (( أنا ابن الذبيحين )) و قَصَد بذلك أباه عبد الله و جدّه إسماعيل .
و بفرحة عبد المطلب العَارمة بنجاة ابنه عبد الله أراد أن يُتِّمَ عليه فرحته فقرَّر أن يذهب إلى بني زُهرة و يأخذ معه ابنه عبد الله ليزوّجه من بناتها فرحةً به ، و قبل ذلك التقى عبد الله برقيقة أخت ورقة بن نوفل فقالت له يا عبد الله ألك في أن تتزوجني لليلة واحدة و يكن لك بها وزنك ذهبًا ، فقال لها عبد الله أنظريني حتى أنتهي من سفرتي مع أبي إلى بني زُهرة ، ووقتها لم يكن عبد الله يعلم بنّية والده في تزويجه بإمرة من نِساء بني زُهرة .
فخرجَا معًا قاصدين بني زُهرة فزوّج عبد المطلب ابنه لآمنة بنت وهب و تزوج هو أيضًا بابنة خالتها ، فوقع البناء ببيت العروستان على حسب عاداتهم و مَكثَا عند بني زُهرة سَبعُ ليال ، و بعدها رجع عبد المطلب و ابنه عبد الله و زوجتيهما إلى مكة .
و بعد عدّة أيام التقى عبد الله مُجددًا برقيقة فنظر إليها فإذ بها تُشيحُ بوجهها عنه فأخذ يطوف من حولها فشاحت بوجهها عنه أيضًا ، فقال لها وَيحك يا امرأة ألم تعرضي عليَّ الزواج بالأمس القريب ؟ فما بك تُشحين بوجهك عني وما الذي قد غيّر رأيكِ ؟ فقالت له كًنت أرى في وَجهك وَميضٌ من نُور و قد كُنت أُمَّني نفسي أن أفوز به غير أني لست أراه في وجهك هذا اليوم و ما أراه إلاّ قد ذهب إلى بنت وهب ، فاندهش عبد الله و رجع إلى بيته و إلى آمنة و مَكث معها ما يُقارب سِتة أشهر ثم خرج في تجارةٍ و قصد بعدها أخواله في المدينة فمرض و مات على اثر مرضه فدُفِنَ هناك .
ووقتها كانت السيّدة آمنة في شهرها السادس من الحمل بالنّبي ، و تقول عن حملها به أنها لم تجد فيه أيُّ شيء يُذكر و تقول أنّه عند ولادته وُلد و هو واضع يده على الأرض رافعًا رأسه إلى السماء .
و في يوم مَولده كان جدّه عبد المطلب جالسًا في الكعبة مع ابنه أبي لهب فأتتهما جارية أبو لهب و قالت لهما أبشرا فقد وُلد لعبد الله صبي ، ففرح عبد المطلب و قال لها أأنت صادقة ؟ فأجابته بنعم ، فقال لها أبو لهب إذا صدقتي بما أخبرتنا به فأنت حُرّة ، فانطلق حينها بسرعة البرق ليتحرى الأمر و عندما قام من مَقعدِه تدحرج من هَرولته لرؤيته جنس المولود و عندما وصل إلى بيت آمنة وجدها حقًا قد ولدت ولدا فَفرِحَ به فرحًا شديدًا و أَعتَق جاريته ثويبة .
و قد وُلد النبّي يوم الاثنين ليكون بذلك يوم الاثنين يوم بُزوغ فجر محمـــد المُشرق بأنوار الإسلام كيف لا وقد أشرقت شمس مكـــة لتُشرق على ظِلالها الدنـــيا أجمع بإطلالتـــه.
فقد هَلََّ أخيرًا اليوم المشهود الذي تَرقَبته و تترقبه يهود مكة بفارغ الصبر لتعرف النبّي المُختار من قِبَلِ الله الذي قد حَلَّ زمانه و بَزغَ نجمه في السماء ، هذا ما جعل اليهود يَترصدُونَ أوضاع مكة و يتقَصُونَ أخبارَ مَواليدها .
فقد قَطََنَ أحد أحبار اليهود صومعةً بجبال مكة ليستعلم عن أخباره و قد كان ينزل كل يوم اثنين إلى مكة ليسأل عن مَواليدهم فيقول لهم يا أهل الحَرَمْ هل وُلِد فيكم مولود الليلة ؟ ، فإذ وُلد يومها مَولود طَلب منهم أن يَصِفُوه له لأنّه قد تَدارس أوصاف نبّي آخر الزمان من التوراة و بالتالي بات اليهود يَعرفون النبّي أكثر ممّا يَعرفُونَ أولادهم .
فكان اليهودي ينزل إلى مكة كل ليلة اثنين لدرايته بأنّ نبّي أخر الزمان سَيولد يومَ الاثنين ، و في الليلة التي وُلِد فيها النبّي نزل اليهودي إلى مكة و قال لهم أَوُلِد لكم مَولود ؟ فقالوا له نعم فقد وُلد لنا خمسة عشر مولودًا ، فنظر اليهودي إلى المواليد و قال لهم لقد وُلد الليلة وليد لم يُخرجوه أهله ؟ فقالوا له نعم فقد وُلد لعبد المطلب ولدًا ، فقال لهم ألعبد المطلب ولد ؟ فقالوا له لا بل هو ولد وَلدِه عبد الله الذي مات ، فقال لهم أفِيكم أن تُخرجوه لي ؟ فآتى عبد المطلب و قال له إنّ من عَاداتنا بقريش لا نخُرج مواليدنا قبل اليوم السابع فإذا أردت رُؤيته فاقصد الدار و انظر إليه ، فذهب اليهودي إلى بيت آمنة فرأى المولود و نظر بين كَتفيه فشهق شهقة و أُغشي عليه فتفقدوه فوجدوه ميتًا ، فحملوه إلى صومعته فوجدوا صاحبه فأخبروه بما حصل له فأغمي عليه هو أيضًا من وَقْعِ الخبر عليه و عندما أفاق سألوه عن سبب الإغماء ،فقال لهم يا لضيعة بني يهود فلقد خرجت الُنبّوة من بني إسحاق بولادة نبّي آخر الزمان .
و قد وُلد النبّي بشُروق شمس يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل الموافق ل 20 أفريل 570 ، فدخل الرسول بذلك الدنيا يوم الاثنين فأضاء منها و لها و معها كل شيء ، و قد سُميّ النبّي بمحمـد من قِبل جدّه عبد المطلب و قد اختار له هذا الاسم تيَمُنًا به و بشأنه الذي تَنبأه له ، و قال للجميع أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض.
و قد كان شائعًا في قُريش أنّها تقوم بإرسال أولادها إلى البادية ليُرضعونهم و في اعتقادهم أنّ مكة بيئتها مُغلقة و الأولاد لا ينطلقون كِفاية لذلك من عاداتها تقوم بإرسالهم ليَسترضعوا في البادية حتى يتميّزوا و ينفتح تفكيرهم و تَقوى بُنيتهم ، فكانت قبيلة بني سعــد هي القبيلة المرضعة لقُريش على أجر زهيد غير أنّ القرشين كانوا يُغرِقون المُرضعات بالهدايا كلٌّ على حسب نسبه .
و بما أنّ النبّي كان يتيمًا فكل مُرضعات بني سعد كانت تَتجَنب و تتَحاشى و تتَغاضى النظر عن أخذه لأنّّهنَّ لَسنَ ضامناتٍ أن تَصِلَهُنَّ هدايا من قِبَل جدّه أو أُمّه ، و كذا حليمة السعدية أبت هي الأخرى أخذه و ترددت كثيرا في أخذه .
و تقول حليمة السعدية في ذلك قَدِمنا مكة و ما مِن امرأة من بني سعد عُرض عليها محمد فتأباه ، فقد كان يتيمًا و كُنّا نقول ما عسانا نصنع بأمّه و جدّه ! حتى لم يبقى من صُحيباتي امرأة إلاّ و أخذت رضيعًا إلاّ أنا فأبيت أن أرجع إلى بني سعد دون أطفال فذهبت و أخذته ، فقال لي زوجي ما أراك إلاّ قد أخذتي نسمة مُباركة ، فما إن حملته حتى أقْبَلَ على ثديي يرضع فرضع فإذا بابني أحمله بيدي الأخرى يُقبل على ثديي الأخرى يرضعها ، و لمّا كُنا بالطريق رضع محمـد فرضع ابني بعده ، فقال لي زوجي ألم أقل لك أنّنا قد أخذنا نسمة مباركة ؟ .
و تقول حليمة السعدية لقد كانت ديار بني سعد في تلك الأيّام صحراء جرداء نرعى بالغنم فلا نجد أيّ لبنٍ في الغنم فلما قَدِمنا و معنا محمـد أصبحت الغنم تعود مملوءة باللبن فباتت بني سعد كلها تُرسل أغنامها وراء أغنامي لترتاعَ .
و تقول عن النبّي أنّه كان يَشُبُّ شبابَ الصبيّ الذي يَشُبُّهُ في شهر هو في يوم ،و الذي يشبّه الصبيُّ في سنة يشبّه هو في شهر.
و هكذا بقي النبّي وَليدًا ببني سعد حتى حان مَوعد إرجاعه إلى أمّه ، فأخذته حليمة إلى أمّه إلاّ أنّها أبت تركه معها فتوسلت آمنة أن تُخليه عندها فقبلت آمنة و أرجعت السيّدة حليمة النبّي معها ، غير أنّه بعدها حدث للنبّي أمرٌ عجيب أخاف حليمة فأرجعته إلى أمِّه ، فتعجبت آمنة من أمر حليمة و رُجوعِها إليها بمحمد بعدما كانت تترجاها في أن تُبقيَهُ معها فسألتها آمنة عن السبب الحقيقي لإرجاعها له ، فقالت لها ما أرجعته إلاّ لأنّه قد بلغ الفِطام، فقالت لها آمنة أصدقيني القول يا حليمة ، فقالت لها حليمة لقد حدث لمحمـد أمرٌ عجيب فقد كان يلعب مع ابني عبد الله فإذ بابني يجري إليَّ ووجهه أصفر فقال لي أدركي أخي القُرشي فقد أخذاه رَجلانِ و شقّا بطنه و قتلاه ، فسارعنا إليه أنا وزوجي الحارث لنراه فوجدناه وراء الخيمة و قَميصه مَشقُوق و مُبلل بالدماء فقلنا له ما بك؟ فقال لنا جاءني رجلانِ بِيض الوجوه بِيض الثياب حثام عِراض فأخذاني و أضجعاني ووقف أحدهما عند رأسي ووقف الأخر عند صدري
، فقال الذي عند رأسي أهَُو هُو ؟ فقال الآخر نعم هُوَ ، فقال أهو الذي أنبأنا فيه ربّنا؟ فقال الآخر نعم هو الذي أنبأنا به رّبنا ، فقال الذي عند صدري أما من علامة ؟ فنظر بين كتفيََ و قال الذي عند صَدري أنظر لتلك الشامة أليست هي ؟ فقال نعم هي ،ثم قال إذن على بركة ربنا، فشقا صدري و أخرجا قطعةً و شقاها و أخرجا منها قِطعةً سوداء و ألقاها إلى جِواري و قال أحدهما للآخر ذاك حظُّ الشيطان منك و قتلانِ بماءِ و ثلج و برد ثمّ أعادا ما أخرجاه من صدري و أغلاقاه و انصرفا و قالا لي سلام عليكم يوم البعث.
فقالت آمنة ألهذا رددته إليّ يا حليمة ؟فلعلك قد خشيتي على ولدي هذا الشيطان ؟فسكتت حليمة فقالت آمنة لا و الله إنّ وَلدي هذا من المُباركين في الأرض فلمّا حملت به رأيت نُورا و لمّا ولدته خرج مني نُورا كأنمّا أضاء بين الأرض و السماء .
و بهذا تنقضي حياةُ النبّي في ديار بني سعــد عند مُرضعته حليمة السعدية بعد حادثة شقِّ الصدر ليرجع أخيرا إلى أحضان أمّه آمنة ، و بالرغم من ذلك إلاّ أنّ النبّي بَقِيَ وَفيًّا لأمّه حليمة ، فبعد انقضاء الأيّام و السُنونْ و عند فتح مكة و النبّي في الخامسة و الخمسين من عُمره أتته امرأة عجوز و هي تبتسم له فلمّا عَرِفَ أنّها مُرضعته حليمة فَرِحَ جدّا لرُؤيتها و قال لها أمي أمي و نزع عَباءته و فَرشها لها و قال للصحابة أتركوني مع أمّي ،فهذا هو وَفاءُ النبّي الذي حمَلَهُ لمُرضعته حليمة و نَفسُ الوفاء حمله أيضًا لمُرضعته بركة أم أيمن ، فقد كانت بركة جارية لدى أمّه آمنــة و قد أرضعت هي أيضًا النبّي و سَهِرَتْ على تربيته مع أمّه آمنة ، و قد كان النبّي يُحبّها حبًّا عظيمًا و إن مرّت أياّم قليلة لم يتسنى له فيها رُؤيته ذهب إلى صاحبه أبو بكر و قال له تلك هي أمّي بعد أمّي فقُم بنا نزُرْ البقيّة الباقية من أهلي ،فلمّا مات عنها زوجها قبل الهجرة قال النبّي للصحابة من أراد أن يتزوج امرأة من أهل الجنّة فليتزوج أم أيمن ، رغم أنّ سِنّها وقتها كان فوق الخمسين سنة و كانت شديدة السَواد ذميمة لعثاء اللسان ، فقام زيد بن الحارثة و قال للنّبي هل أخطبها منك يا رسول الله ؟ فقال له النبّي بل من ابنها أيمن ، فأبى أيمن إلاّ أن يجعل النبي وصيًّا عليها ، فخطبها زيد من الرسول و تزوجها وولدت له أُسامة فكان أسامة حِبُّّّّّّّّّّّّّّ و ابن حبِّ و حبيبة رسول الله زيد و بركة التي كانت ثاني امرأة تُبشر بالجنّة بعد أمّنا خديجة .
فقد تربى النبّي على يدي أمّه بركة و أمّه آمنة التي توافها الله بعد عُمرٍ قصير من عودة النبّي إلى مكة ، فقد أرادت السيّدة آمنة زيارةَ قَبرِ زوجها عبد الله ، فسافرت و معها النبّي إلى المدينة قاصدةً بيت أخوال زوجها لكي يرى النبّي قبر أبيه ، و يقول النبّي في ذلك خَرجت مع أمّي و أم أيمن إلى بني النجار ووقفت على عتم بني النجار و أشارت لي أمّي عن بيت هو قبر أبي و لعبت مع الغِلمان من أخوالي و سَبحت في البئر و شربت منه ، و قد مَرضَت أمه آمنة بديار أخوال أبيه.
و تقول ابنة الزرانق أنّها شهدت مرض آمنة بنت وهب ببني النجار لما جاءت بمحمد طِفلا و عمره ستة سنوات ، فتحكي فتقول مَرضت آمنة مَرضًا شديدًا حتى رأينا فيها صُفرة الموت ، فأرسلنا إلى ولدها محمد و كان مع الغِلمان خارج البيت فجاء ووقف على رأس أمّه فأخذت تنظر إليه و ينظر إليها و هو يبكي و يمسح بيده على وجهها ، فأخذت يده الصغيرة و قبّلتها و قالت له يا بُنيّ كل حيٍّ ميّت و كل حبيب مُفارق و قد تركت في الدنيا خلقًا مُباركًا ، ثمّ نظرت إلى أخوال عبد الله و بركة و قالت لها أرجعيه إلى جدّه و أقرئيه مني السلام ، فتمايل النبّي على أمّه فأخذت تقبّله ثمّ أخذته إلى صَدرها و ضمّته إليها حتى ماتت ، فأخذوا النبّي من تحت يديها .
فشاءت الأقدار أن تموت آمنة قبل أن تصل إلى مكة ، فدفنتها أم أيمن بالأبواء ،و بعدها رجعت بالنبّي إلى جدّه عبد المطلب و هو ذو السِتِ سنوات ، فينتقل النبّي من حُضن أمّه إلى حُضن جدّه ، فيرعاه جدّه و يحُبّه ، فقد كان يأخذه معه إلى جَلسـاتِ كِبار قُريش فيسرد له عباءته و يُجلسه بها إلى جِواره فلم يكن يلعب مع الصِبية من سنِّه و إنما كان يُجالس الكبار و يسمع حواراتهم بالرغم من أنّه كان مَحظورٌ الإتيان بالصِبيّة ، غير أنّ جدّه عبد المطلب كان يأخذه معه و يقول لهم إنّ ابني هذا سيكون له شأن عظيم ، فبقي النبّي في كَنَفِ جدّه سنتين فقط لأنّه مات عنه هو أيضًا و هو ذو الثَمانِ سنوات ، و قبل موته أوصى به جدّه إلى عمّه شقيق والده من الأب و الأم أبي طالب ، فأتمنه أبو طالب و أعَاله مع أبنائه العشرة و بقي عنده من سنِ الثَمانِ سنوات إلى خمس و عشرون سنة ، و في هذه الآونة بدأ تجهيز الرسول من محمــد إلى نبّي آخر الزمان ففُقْرُهُ و نسبه العريق جَعلاه يتوسط الفقراء و الأغنياء فيحسن التعامل معهم .
و ذات يوم قرّر النبّي أن يعمل فقصد عمّه أبو طالب و طلب منه أن يسمح له بالعمل فآبى أبو طالب الفكرة إلاّ أن النبّي أسّرَّ على عمّه و ألحّ عليه فقَبِل أبو طالب أخيرًا و تركه يعمل ،فرعى النبّي غنَمَ قُريش على قراطيط مَعدودات ، و بالتالي في هذا السّن من الثامنة إلى الخامسة عشرة تعلّم النبّي كيف يرعى الغنم و حِكمة الله في ذلك تَعلُّمه الحِلْم و الصبر و بتجميعه للأغنام عند تفرُقها تعلّم كيف سيجمع بين الناس .
و في الخامسة عشرة من عمره تعرضت قُريش إلى اعتداء فاندلعت حرب الفُجّار بالأشهر الحُرُمْ ، فشارك فيها النبّي و تعَلّم منها استعمال السيف و الضرب بالنبل و كذا عمليتي الكَّرِ و الفَّرِ ، كما تعلم فكرة السـلام بحلف الفُضول و هُدنَة قُريش و بالتالي اقتبس الرسول من فكرتي الحرب و السلام و انتهجهما كنظريَّاتٍ و تجارب في إعداده للنبوّة و تخطيطاته لتبليغ رسالته.
و في الخامسة و العشرين من عُمره غيّر الرسول اتجاه نظَرِه و دَخَل التجارة من بابها الواسع فتعرّف على طِينة الناس و طِباعهم و طُبوعهم و بالتالي أحسن التعامل معهم ،فكانت له رحلة الشام فتعرف فيها على الروم و ثقافاتهم و رحلة اليمن فتعرف فيها على الفُرس و ثقافاتهم و بذلك اكتسب المُرونة و اختبر التعايش مع مُختلف البيئات ،ثمّ آتته الرحلة الكُبرى و هي تجارته للسيّدة خديجة بنت خُوليد أين عُرِفَ بأمانته و صِدقه و كرمه و أخلاقه الكريمة كيف لا !و هو لم يعبد يومًا صَنمًا و لم يذق للخمر طُعمًا .
يُروَى أنّ الرسول وأبا بكرومَولاه ودليلُهُما خرجوا من مكة ومرّوا على خيمة امرأةٍ عجوز تسمى أم معبد ، فقد كانت تجلس ُقربَ الخيمة تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروا منها فلم يَجِدوا عندها شيئاً.
فنظر النبّي إلى شاة في جانب الخيمة و سأل أم معبد و قال ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت شاة خَلَّفها الجُهد والضُعف عن الغنم، فقال رسول اللههل بها من لبن؟ فقالت بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حَليباً فاحلبها، فدعا النبّي الشاة ومسح بيده ضرعها، وسمى الله ثم دعا لأم معبد في شاتها حتى فتحت الشاة رجليها ودرت ، فدعا بإناء كبير وحلب فيه حتى امتلأ، ثم سقى المرأة حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب آخرهم.
ثم حَلب في الإناء مرّة ثانية حتى ملأ الإناء، ثم تركه عندها وارتحلوا عنها.
وبعدها أتى زوج المرأة أبو معبد و هو يسوق عنزاً يتمايلن من الضُعف فرأى اللبن، فقال لزوجته من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاة عازب ولا حلوب في البيت! فقالت لا والله لقد مرّ بنا رجل مُباركٌ من حاله كذا وكذا، فقال أبو معبد صِفيه لي يا أم معبد فقالت رأيت رَجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه مُشرق الوجه، لم تعبه نحلة نحول الجسم ولم تزر به صقلة ليس بناحلٍ ولا سمين، وسيمٌ قسيم حسن وضيء،و في عينيه دعج سواد وفي أشفاره وطف طويل شعر العين، وفي صوته صحل بحة وحسن وفي عنقه سطع طول ،وفي لحيته كثاثة كثرة شعر، و أزج أقرن حاجباه طويلان ومقوسان ومتصلان ، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأجلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل لا تذر ولا هذر كلامه بين وسط ليس بالقليل ولا بالكثير، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، لا يأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود عنده جماعة من أصحابه يطيعونه، لا عابس ولا مفند غير عابس الوجه، وكلامه خالٍ من الخرافة، فقال أبو معبد هو والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكِر بمكة .
وعن جابر بن سمرة قال رأيت رسول الله في ليلة إضحيان، وعليه حلة حمراء ، فجعلت أنظر إلى رسول الله وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسن من القمر). (إضحيان هي الليلة المقمرة من أولها إلى آخرها). و أحسن ما قيل في وصف الرسولوأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل. (ثمال: مطعم، عصمة: مانع من ظلمهم) .
بعد دخول الرسول عالم التِجارة تكَفَل بتجارة خديجةفأحسنها فاستحسنته هيَّ في أخلاقه و شَهامته فتمنته زوجًا لها ،فتزوّجها النبّي و عمره خمسٌ و عِشرون سنة و هي ذات الأربعينَ سنة ، فعاش معها أجمل قِصّة حُبْ على وجه الأرض و رُزِقَ منها البنات و البنين ، و لمّا نَاهز الرسولالثامنة و الثلاثين من عُمرِه بدأ الإعداد الربّاني له من فوق سبعِ سماوات ليُصبح بذلك محمـد الرجل نبّي آخر الزمـان ، فخصّ اللهنبيّهُ بتمهِيداتٍ و مُؤاثراتٍ تدريجية تفاوتت سُرعتها و تباينت في الستة أشهر الأخيرة قبل البعثة ، فأنطق اللهالشَجرَ و الحَجَر و جعلها تُسلم عليه و تقول له السلام عليك يا رسول الله ، غير أنّ النبّي إذا التفت بعد تسليمها عليه لا يجد شيئا ، و يقول النبّي في ذلك إني لازلت أعرف حَجَرًا كان يُسلم علّيَّ قبل البعثة .
و مَنَّ اللـه أيضًا على رسوله برُؤيا صادقة كان يراها في الليل فتتحقق معه إذا أصبح مثل طرف الصبح.
فتَرادُف هذه الأحداث و تِكرارها جعلت الرسول يختلي بنفسه في غـار حـراء ذوات العِداد أي ما يُقارب العشرة أيّام ،فاكتنز بذلك الحياة المادية و أقبل يَرتشف أكبر قدر ٍ من الغذاء الروحي لاستشعار قُدراته الرُوحانية التي أدّت به في آخر المطاف إلى طـاعة اللهو هذه العِبادة هي أعظم عبادة للتقرب من الله ، فتفكر سـاعة خيرٌ من قيام ليلـة لأنّ حياة الإنسان كسهم واحد فلا تُغامر به لأنّك إذا أطلقته و أصاب الهدف فمبارك لك أمّا إذا غيّر وِجهته و تَنَاحَ عن الهدف فلا فُرصة لك بعدها ، فالتفكُّر إذن هو قبس من نور الإيمان.
و هكذا كان حال النبّي في الغار في الآونة الأخيرة قبل نبُّوَّته و قد كانت خديجة أيضًا تصعَد إلى الغار و هي ذات الخمسة و الخمسين سنة لِتُساندَ النبّي و تتفكر معه و تأتيه بالطعام أيضًا ، و لمّا بلَغ الرسول الأربعين سنة من عُمره أصبح يتردد كثيرًا على الغار كيف لا و قد حان و دَقَّ الموعد الذي أعدّه له ربُّه ، ففي ليلة غير مُقمِرة نزل على محمـد مَلَـكٌ من السماء على صُورته المَلائكية و هو يَسُّد الأفُق و له ستمائة جناح ، و يَحكي النبّي عن المَلَك فيقول رأيته و قد سَدَّ الأفق و له ستمائة جناح إذا نفَضَها تناثرت منها اللؤلؤ و الياقوت ، فجذبني من ثِيابي و أخذني إليه و قال لي﴿اقرأ﴾فقلت له ما أنا بقارئ ،فأخذني المَلَكْ إليه مرّة أخرى و ضَمّني إليه حتى بلغني الجُهد ثمّ أرسلني و قال لي ﴿اقرأ﴾ فقلت له ما أنا بقارئ ، فأخذني مرّة ثالثة و غَطاني حتى لم أستطع التنفسَ فظننت وقتها أنّه الموت ثمّ أرسلني و قال لي ﴿اقرأ﴾فقلت له و ماذا أقرأ! ، فردّ المَلَكْ و قال لي﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ 5} ﴾ثمّ اختفى دُفعةً واحدة .
فكان بذلك غار حِراء نُقطة التقـاء السمـاء بالأرض و نُقطة التقـاء نبّي السماء جبريلبنبّي الأرض محمد ، فكانت هي نُقطة بُزوغ فَجرِ الإسلام و فَجرِ محمـد على الأمة جمعـاء.
فنزل النبّي من الغار مُرتَعدَا و يتصَبَّبُ عَرَقًا ، فقصد بيته و هو يجري و قد أصابته الحُمَّى، فقال لخديجة زَملوني زملوني دَثروني دثروني ،فقالت له خديجة ما بالك يا ابن العمّ ؟فأجابها الرسول وقال لقد خشيت على نفسي يا خديجة و قصّ لها ما جرى معه ، فقالت له خديجةكلاَّ و الله لا يُخزيك الله أبدًا فإنّك لتَصلُ الرحم و تحمل الكَّلَّ الضعيف و تُكسب المعدوم و تُقرئ الضيف و تُعين على نوائب الحق ، فهدأ النبّي بعدما سَمع كلام خديجة التي ثبتته و ذكَّرته في أخلاقه الحسنة و شاركته في اهتماماته و قاسمته ضِيقَهُ ،كيف لا وقد قال عنها الرسول أكمل النِساء عقلاً خديجة بنت خويلد ، فبِكلام خديجة اطمئن النبّي فقرّرت خديجة أخذه إلى أعلم رجلٍ بأمور الدين و مَبلغُ التوراة و الإنجيل ، و قد كان هذا الرجل ابن عمّها ورقة بن نَوفل فدخلا النبّي و خديجة على ورقة فسلمَا عليه ثم قالت له يا ابن العمّ اسمع منه ، فحكى له الرسول ما جرى معه فسمع له ورقة بانتباه فكان أحيانًا يبتسم له و أحيانًا أخرى ينبَهِر ، ثم قال للنبّي يا محمد إنّك لنبّي آخر الزمان و لقد آتاك الناموس الذي آتى موسى و إنّ قومك سيكذبونك و يُؤذونك و يُخرجونك ، فليتني أكن جذعًا إذ يُخرجك قومك ،فقال له النبّي أمُخرجيّا هم؟ فقال له ورقة نعم فلم يأتي رجلٌ بمثل ما أُوتيتَ إلاّ عُودي و إن يُدركني يومك لأنصُرنّك نصرًا مؤزرا ، فسكت النبّي و خرج مع خديجة فأوقفها ورقة و قال لها ثبّتيه ، إلاّ أنّه بعد أيّام قليلة يموت ورقة بن نوفل و يقول الرسولورقة بن نوفل يُبعث يوم القيامة أُمّة و يقصد بذلك ميزان حسناته المملوء .
فمَرّ أسبوع و لم يظهر الملَكْ من جديد حتى يستوعب الرسول فِكرة النُبوّة و تبليغ الرسالة ، فبدأ النبّي يُفكر في الملَكْ و يشتاق له ، و بعد مرور أسبوع من الانتظار نزلالملًكمرّة أخرى على كُرسيٍ بين السماء و الأرض و هو يملآ السماء ، فقال للنبّي يا محمـد أنت رسول الله و أنا جبريل مُرسل من السماء ، ثم أخذ جبريلالنبّي و خرج به إلى الصحراء فضرب بجناحيه في الأرض فانشق نبعٌ من الماء فعلّمه كيفية الوضوء للصلاة ، ثم قال له يا محمد افْعَل كما أَفعَل ركعتين في الصباح و ركعتين في المساء ، فأوّل عِبادة تعلّمها النبّي من جبريل هي الصـلاة لمكانتها عند اللهكيف لا وقد قال عنها النبّي((الصلاة عبادة )) و قال أيضا: ((رأس عمود الإسلام الصلاة))و قال كذلك : ((مِفتاح الجنّة الصلاة )) و ((نور المؤمن الصلاة )) ، و قد سُئِل النبّي عن أفضل الأعمال و أرفعها درجةً ! فقال (( الصلاة على وقتها )).
ثم نزل جبريل على النبّيبثلاث سورٍ بعد سورة العلـق و هم المزمـل فالمدثـرو الفاتحـة أي علـم فطاقـة روحيـة و عبادة ثم تحرك على أساس المنهـج ، فانتقى النبّي نِقَاطًا بَناَءة رَسَم على إثرها طريقه الصحيح و ثبّت عليه مُخطّطه المتين في تبليغ رسالته العالميّة مُستعينًا في ذلك باللهجَلّ جلاله و عَظُم سُلطانه .
و بعد ذلك توقف الوحيُّ و لم ينزل على الرسول مُدّة شهرين ،فتأثّر النبّي و خاف و ظنّ أنّه قد أخطأ في مًوضعٍ ما فاستبدله الله أو استغنى عنه،وقتها نزل عليه جبريل بسورة الضُحى ليُشيد بقيام الليل و يقول الرسول عن قيام الليل لعبد الله بن عمر نِعم العبد أنت يا عبد الله لو كنت تقوم الليل ، فلم يَبرَحْ عبد الله القِيام من يومها ، و قال النبّي أيضا لأبي ذر الغفاري و هو يُشيد بقيام الليل يا أبا ذرإذا أردت سفرًا ألا تُعد له العدّة ؟فقال أبو ذر نعم يا رسول الله، فقال الرسولفكيف بسفر يوم القيامة فأحكِمْ السفينة فإنّ البحر عميق و أكثر الزاد فإنّ الطريق طويل ،فقال أبو ذر و ما أفعل يا رسول الله؟ ، فقال الرسولصُمْ يومًا شديد الحرِّ ليوم النُشور و قُمْ ليلة في ظُلمة لظلمة القُبور و حُج حجةً لعظائم الأمور .
و قد كان الرسول يدعو الناس بالنّهار و يقوم الليل بالليل حتى تتورمُ قَدماه و هو المغفور له و الموعود بالجنّة فكم ليلةً قد قُمناَها نحن ! إن لم أقل كم من ركعة صليناها في جوف الليل نستغفر الله و نُناجيه و مَصائرنا مُعلقة بين الجنّة و النار بحبلٍ أرقُّ من الشَعرة و أحدُّ من السَيف ؟ !
فمِن هنا بدأ الرسولرسالته الدعويّة و اختار أوّل دُفعة من المتميّزين ذوي الأخلاق الحسنة و الناجحين في حياتهم و هم زوجته السيّدةخديحة و صاحبه أبو بكر و ابن عمّه علّي بن أبي طالب ، فقام الإسلام بذلك على ثلاثة أنفار رجـل و امـرأة و طفـل ليبلغ الإسلام عَناَنَ السماء و يتَخطى كل الحُدود و يَصير الثلاثة أنفار أمّـة بأكملـها .
بُعِثَ النبّي في قومه و اختاره الله نبّيًا للأمّة جمعاء ، فقام الإسلام في بادئ الأمر على رجلٍ و امرأة و طفلٍ صغير ، فيحكي أشعث بن قيس فيقول أتيت مكة في تِجارة لي مع العبّاسعمّ النبّي فرأيت محمد يُصلي و من ورائه رجل و امرأة و طفل فسألت العباس عن الرجل و من معه و ما يفعلونه ، فقال لي الرجل ابن أخي محمد و يزعم أنّه نبّي آخر الزمان و الرجل من ورائه صاحبه أبو بكر و المرأة زوجته خديجة و الطفل ابن أخي الآخر علّي و هم يُصَلُون غير أنّك إذا أردت أن تُكلّمه أخُذك إليه ،فقال له أشعث لا دعنا في تِجارتنا ، و بعد مِضِّيِ عِشرينَ سنة رجع أشعث إلى مكة بعد فَتحِها فأسلم و بكى بُكاءًا شديدًا ،فقال له النبّي لمِاَ تبكي يا أشعث و الإسلام يزيد يومًا بعد يوم ؟ فقال له أشعث لستُ أبكي لذلك يا رسول الله و إنّما أتتني الفرصة أن أُسلم قَبْلاً و أكون رابع أربعة غير أني ضيعت فُرصتي و أَبَيتُ أن أسمع منك ، فيا ليتني قد فعلتها يومها .
فهكذا بَدَأ الإسلام معرجل و امرأة وطِفل ليُصبح الثلاثة بعدها عشرة ، فيأتي أبوبكربستة رجالعثمان بن عفان _ طلحة بن عبيد الله _ الزبير بن العوام _ سعد بن أبي وقاص _ أبو عبيدة الجراح و عبد الرحمن بن عوف و تكون هذه الأسماء أوّل الأسماء إسلامًا و تبشيًرا بالجنّة .
و بعد خمسة أشهر زاد عددهم و بلغ خمس و أربعين نفرًا بين رجلٍ و امرأة مُتباين سِنُّهم بين الصغير و الكبير و مُتباين نًسبهم بين الغنّي و الفقير و مُتباينة أجناسهم بين ستة عشرة قبيلة ، و بعد ذلك أصبح الخمسة و أربعينمائة و كل هذا و قريش لا تعلم بالأمر لأنّ النبّي انتهج في دعوته أُسُسًا قويّة و خُطَطًا فَعالة جعلته يتوغّل في قريش سِرًّا .
ثم انتقل النبّي إلى الخُطوة الثانية و هي إعلان الإسلام في عَشِيرته ، فأقام النبّي وَليمةً جمع فيها آل عبد المطلب برِجالها و نِساءها و بلغ عدد الحاضرين فيها خَمسٌ و أربعين بمن فيهم عمّه أبو لهب الذي قام من مَقعده و قال للنبّي اسمع يا محمـد و اعلم أنّه ليس لنا في العرب طاقة و إنّك إن بقيت على ما أنت عليه لوقفت العرب و قريش على مُعاداة قومك و إني لا أعرف من العرب من آتى على قومه بِشًرْ كما أتيت أنت على قومك ،ثم نظر للجمع و قال لهم خُذوه على يده و على لسانه و أكتموا على هذا الفمّ قبل أن تُعاديكم العرب ، فسكت النبّي لحظة ثم قال للجمع إذا أردتم الانصراف فلكم ذلك ، فانصرف الجميع وفَشِل النبّي ربّما أي نعم في مُحاولته الأولى إلاّ أنَّ هذا الفشل كُلِّلَ بالنجاح بسبب إسراره و صبره و سعيه ، فكرّر النبّي المُحاولة و أقام وليمةً أخرى جمع فيها ثلاثين نفرًا من عشيرته و هذه المرّة أيضًا لم يستثني أبا لهب من الحضور بل دعاه أيضًا على غِرَارِ ما فعله معه في المرّة السابقة ،و لكن في هذه المرّة كان النبّي هو السبّاقُ إلى الحديث و أوّلُ المُتكلمين فقال للجمع الحمد لله أحمده و أستعينه و أؤمن به و أتوكل عليه و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ثم قال والله لو كَذبتُ على الناس جميعًا لما كذبت عليكم و لو غًررتُ على الناس جميعا ما غررتكم ،والله الذي لا إله غيره إني رسول الله إليكم خاصةً و إلى الناس عامةً و والله لا تموتون كما تَنامون و لتُبعثونَ كما تستيقضُون و لا تُحاسَبون على ما تفعلون و إنها لجنّةٌ أبدا ؟ أو نارٌ أبدا ؟ ثم قال يا بني هاشم أنقضوا أنفسكم من النار …يا بني عبد المطلب أنقضوا أنفسكم من النار ..يا عباس عم الرسول أنقض نفسك من الناّر فإني لا أملك لكم من الله شيئا ، ثم نظر إلى ابنته فاطمةو قال لها يا فاطمة بنت محمداسأليني من مالي ما شئتِ لكني لا أملك لك من الله شيئا ، فسكت الجميع ووضعوا عُينوهم في الأرض بمن فيهم عمّه العباس و حمزة غير أنّ مُربيه بعد أمّه و جدّه أبا طالب وقف وقال للنبّي امضِ بما أُمِرت به و إني أُحيطك و أمْنعُك ما بقيت ، فغضب أبو لهبلمساندة أبي طالب للنبّي و قال له إنّ هذه لهي السوءة فخذوه على يده ، فردّ عليه أبو طالب و قال و الله لأمنعنّه ما بقيت ، فسكت الجمع كلّه بعد كلام أبي طالب لأنّهم فهِمُوا من رَدّة فعله أنّه سيحمي محـمد ما حيا ، فانتهز النبّي فُرصة كسب عمّه إلى صفّه و قال لعشيرته فمن منكم يُؤمن بما جئت به ؟ !، فسكت الجميع و قال أبو طالب أمّا أنا فعلى دين أبي عبد المطلب و سائر أجدادي ، فنهض علّي و عمره ثلاثة عشرة سنة و قال للنبّي أنا معك أَتَبِعُك و أسير معك ، فضحك عليه القوم لصِغَرِ سنّه ، فابتسم له النبّي و قال له ضع يدك في يدي فشدّ النبّي على يد علّي و ضرب عليها .
و بعدها نفّذَّ النبّي الخُطوة المُوالية و هي إعلان الإسلام و الجَهْرُ بدعوته في قُريش ، فاختار النبّي جبل الصَفَا نُقطة انطلاق دعوته في قُريش و لأوّل مرّة عَلَنًا ، فصعد النبّي الجبل ثمّ نادى على قُريش فقال يا بني عبد منَاف ..يا بني عًدِّي ..يا بني فِهر ..يا بني عبد المطلب …أرأيتم إن أخبرتكم أنّ وراء هذا الجبل جيشًا ضخمًا جاء ليَغِيرَ عليكم أكنتم مُصًدّقيا ؟ فقالوا له نعم فما جربنا عليك كًذِبًا ، فقال لهم النبّي((إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فقاطعه عمّه أبو لهب و قال له تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟، فنزل النبّي من على الجبل ، فنزلت سورة المسد في أبي لهب لأنّه كان أوّل من تجرأ على النبّي و اجترأ عليه و قال له تبًّا لك ، و كل هذا إلاّ أنّ النبّي لم يتَكِل و لم يتواكل بل أسَّرَّ على دعوته و توكّل على الحيّ الذي لا يموت ، فحمّسَ الناس على الإسلام ووعدهم بالجنّة فقال لهم يا معشر قُريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكوا بها العرب و العجم ، قولوا لا إله إلاّ الله تدخلوا بها الجنّة ، فتعرضت قُريشللنبّي و آذته بشَتى الطُرق و عذّبته بمختلف الأساليب و أعنف الوسائل ، فانتهجت قُريش أسوأ أسلوب و هو أُسلوب الأذِية المعنويـة ، فشَكَّكُوا في صِدقِ رسالته و في سلامة عقله فقالوا عليه مجنون و ساحر و كاهن و حرّضُوا عليه الأطفال ليَسخروا منه ، فسَمِعَ الوليد بن المُغيرة بالأمر فأتى أهل قُريش و قال لهم يا أهل قريش ما عرِفناه مجنون و سمعنا الكثير من الشُعَّارْ و لم نسمع مثلما سمعنا منه و رأينا السحرة و الكهنة و لم نرى أبدًا مثلما رأينا منه ، فقالوا له يا أبا الوليد فماذا ترى أنت فيه ؟، فقال إنّ لكلامه حلاوة و إنّ عليه لطلاوة و إنّ أعلاه لَمُثمر و إنّه يُعلى و لا يُعلى عليه ، فقالوا له أ اتبعت دينه ؟ فقال لا ، فقالوا له إذن قلْ عنه إنّه ساحر و يُفرقُ بين المرء و زوجه و بين المرء و آبيه .
وهكذا واصلت قُريش أذِيَّتَها للرسول طيلة الثلاث سنوات الأولى للبعثة لتمتد في تعذيبها له و تتجاوزه إلى ثاني ثلاث سنوات من بعثته
لقد امتدت أذيّة النبّي إلى ثاني ثلاث سنوات من بعثته ، فتفنَّنُوا في تعذيبه و انتهجوا في ذلك كلَّ السُبُل و مُختلف الأساليب ، فقامت زوجة أبي لهب أمّ جميل بتأليب قُريش عليه و رَمتهُ بالشَوكِ و الحِجارة خاصةً لمّا سمَِعت أنّ القرآنقد نزل فيها ، فذهبت أم جميل إلى الكعبة تترقب و صول النبّي لتَرجُمَهُ بالحجارة فوجدت أبا بكر فصاحت به قائلة أين صاحبك؟ ووقتها كان النبّي أمامها إلاّ أنّ الله أعمى بَصرَها فلم ترَهُ ،فسألت أبا بكر عن مكانه فسكت و لم يُجبها ، فقالت له يا أبا بكر لقد بلغني أنَّ صاحبك قد هَجاني فلو رأيته لأضربّنه بهذا الحجر و إن كان هو شاعر فأنا أيضا شاعرة ، ثم قالت في النبّيمُذَّمَّمْ عصينا و أمرهُ أبَّيْنا و دينه قَلَيْنا و رَحَلَت ، فاتفقت سائر قريش على مُناداته مًذَّمم كلّما مرّ بهم ، فتوجع الصحابةلهذا الأمر ، فقال لهمالنبّي دَعُوهم فإنّما يَشتمون مُذّمَّمَا و أنا لست إلاّبمحمدَا .
و مرّة كان الرسول يطوف بالكعبة فتجمعت قريش حوله و أطلقوا فيه النُكت و صَخِرُوا منه و ضَحِكُوا عليه فاقترب منهمالنبّي و قال لهم أتعرفون يا معشر قريش إن لم تنتهوا فقد جِئتُكم بالذبح ، فتوقفوا و قالوا له امضِ يا أبا القاسمفما عرِفناك إلاّ حليمَا.
ثم أطلقوا عليه الإشاعات و قالوا عليه أبْتَرْ لأنّ أولاده الذُكور كانوا يموتون فإن مات ماتت معه رسالته ،كما طلَّقَ أبو لهبابنيه من ابنتي الرسول ، ثم تجرأت قريش أكثر فأكثر على النبّي و امتد بهم الأمر إلى استعمال التعذيب البـدني ، فقام عُقبة بن أبي مُعيط بنزع عِباءته ليخنِقََ بها الرسول و هو يُصلي ، فسقط النبّي على رُكبتيه فبكت ابنته فاطمة الزهراءفمسح النبّي دُمُوعَها و قال لها لا تبكي يا بُنيّتي فإنَّ الله ناصرٌ أباكِ ، و مرّة أتى بأمعاء جمل ميّت ورماها على ظهر النبّي .
كما كذَّبَهُ أبو جهل و استهزأ به فقد قال له يا محمد أتريد أن أشهد لك عند ربّك أنّك قد بلغت الرسالة ؟ ! فلو رأيت أنّك صادق لصدقتك و لكنّك كذاب ، فنظر النبّي إليه ثم ذهب و تركه ، فقال أبو جهل في نفسه و الله لإني أعلم أنّك صادق و لكنّك من آل عبد المطلب ، ثم توعده و أقسم بالات و العُزة على أن يضع يديه على رأسه ، فترصده يومًا و بينما النبّي يُصلي باغتهليفعلها و لكن سُرعان ما تراجع إلى الوراء و صرخَ لأنّه رأى أنّ بينه و بين النبّي خندقًا من نار كلما اقترب منه زاد لهيبه و كاد أن يحرقه .
و ذات مرّة دخلأعرابّي الكعبة و هو حزين لأنّ أبا جهل سَلَبه ماله عُنوّة ، فأشارت عليه قريش أن يذهب إلى محمد إن أراد استرجاع ماله حتى تستمتع قريش بالصُخرية عليه ، فذهب الرجل إلى النبّي و قصّ عليه قصته فقال له النبّي تعال معي و أنا سأسترد لك مالك ، فذهبا معًا إلى أبي جهل ، فقال الرسول لأبي جهل هل سلبته ماله ؟فردّ أبو جهل نعم ، فقال له الرسول رُدَ عليه ماله ،فسارع أبو جهل و أرجع مال الأعرابي ، فرآه نفرٌ من قومه فقالوا له لقد جَبُنت يا أبا جهل أمام محمد و ما رأيناك ذليلاً قبل اليوم فرد عليهم و قال لا تصخروا مني يا قوم فقد رأيت وراء محمدثُعبانٌ برأسين فلو لم أرد عليه ماله لإلتهمني.
و مرّة بينما كان النبّيبالكعبة تجمّعَ حوله عشرة أنفار من قريش فأخذوا يصخَرُون منه ثم عمَدُوا إليه يضربونه فأقبل عليهم أبا بكر و دفعهم عن الرسول و قال لهم أتضربون رجلاً يقول لا إله ألاّ الله !فتركوا النبّي و انقضوا على أبي بكر فأبرحوه ضربًا و ضربه عقبة بن أبي معيط بالنعل على وجهه فأُغشيَ عليه ، فأتت قبيلته و أخذوه إلى بيته و توعدوا عقبة بالقتل إذا وقع له شيء ، كما أوصوْا أمّه أن تسهر عليه و تُطعمَه و تُشربَه و لا تدعه يخرج من البيت ،و بعد ثلاثة أيّام استيقظ أبو بكر فسأل عن حالِ النبّي فقالت له أمّه أتركنا في حالك أنت ، فأبى أبو بكر أن يأكل أو يشرب حتى يطمئن بنفسه عن النبّي ،فأتت فاطمة و طمأنته على حال النبّي فقال لها أبو بكر و الله لن آكل و لن أشرب حتى أطمئن عليه بنفسي، فحملوه إلى بيت النبّي فلمّا رآه النبّي احتضنه ، فقال له أبو بكر لا تقلق عليّ يا رسول الله فليس بي شيء يُذكر.
فهذه المواقـف تُعدُّ عيّنة قليلة من المواقف الكثيرة و العسيرة التي تعرضَ لها النبّي في بداية دعوته و بالرغم من مُعاناته المَريرة إلاّ أنّه لم يَمَلْ و لم يَكَلْ بل ثبتَ و ازداد قوّةَ يومًا بعد يوم ، فواجه قومه و ضحَّى بنفسه و بيومه من أجلنا و من أجل غَدٍ مُشْرق لا مَحَالة سَتَسْطعُ فيه شمس الإسلام الغابرة لتُضيء ليس فقط على أشراف مكة بل على أشراف البشريّة و الدُنيا جمعاء .