وجاءت السنة النبوية مؤكِّدة هذا المعنى بالأدلة والشواهد التي تدلُّ على أن رحمته – صلى الله عليه وسلم – اتَّسعت حتى شمِلت جوانب عديدة، ومن تلك الأمثلة:
ما ورد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: قبَّل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحسنَ بن علي وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: ((مَن لا يَرحم، لا يُرحم))[1].
وما ورَد عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: تُقَبِّلون الصِّبيان؟ فما نُقبِّلهم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أوَأمْلِك لك أن نزَع الله من قلبك الرحمة؟!))[2].
وذكر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن الرحمة صفة من صفات الله تعالى، وأنه على الناس أن يتراحَموا فيما بينهم:
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمِعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسَك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحَم الخَلقُ، حتى تَرفَع الفرس حافرَها عن ولدها؛ خشية أن تُصيبه))[3].
ومن رحمته – صلى الله عليه وسلم – بأصحابه أنه كان يتعهَّدهم بالموعظة؛ فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: "كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا"[4].
أي: إنه – صلى الله عليه وسلم – كان يعِظ الصحابة في حين بعد حينٍ، لا في كل حين.
وعن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا))[5].
وأنه – صلى الله عليه وسلم – ما خُيِّر بين أمرين قط، إلا أخَذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعدَ الناس منه، وما انتقَم – صلى الله عليه وسلم – لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تُنتهك حُرمة الله، فينتَقم بها لله"[6].
أي: كان – صلى الله عليه وسلم – يتلقَّى الناس بوجهٍ بَشوش، ويُباسطهم بما لا يُنكره الشرع، أو يُرتكَب فيه الإثم.
وكان – صلى الله عليه وسلم – أحسنَ الأُمة أخلاقًا، وأبسطهم وجهًا؛ لذلك كان – صلى الله عليه وسلم – يُلاطف أصحابه بطلاقة الوجه والمُزاح، ويتواضع معهم، ويَزورهم، ويُداعب صغارهم؛ فهذا أنس – رضي الله عنه – كان له أخٌ صغير، كان له طائر صغير، فمات الطائر، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُلاطفه كلما رآه بقوله: ((يا أبا عُمَير، ما فعَل النُّغَير؟))[7].
• ومِن صُوَر رحمته – صلى الله عليه وسلم – بالخَدم: ما رواه أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: خدَمت النبي – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين، فما قال لي: أُفٍّ، ولا: لِمَ تَصنع؟ ولا: ألاَ صَنعت"[8].
• ومن رحمته – صلى الله عليه وسلم – بأنس – رضي الله عنه – أنه كان يناديه قائلاً: ((يا بني))؛ أي: إنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة[9].
ومما يؤكد هذا المعنى: ما ورَد في الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "ما ضرَب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء قطُّ، فينتَقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيءٌ من محارم الله – عز وجل – فينتَقم لله"[10].
• وتبلغ الرحمة أيضًا مَداها، فيُنكر على مَن يدعو قائلاً: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا تَرحم معنا أحدًا؛ كما ثبت عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في صلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهمَّ ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلَّم النبي – صلى الله عليه وسلم – قال للأعرابي: ((لقد حجَّرت واسعًا))[11].
فرحمة الله – عز وجل – واسعة وَسِعت كلَّ شيء.
ولم تَقتصر رحمته – صلى الله عليه وسلم – على البشر، بل امتدَّت لتشمل الحيوانات والطيور، وكل ذات كبدٍ رَطْبة.
فهذا أبو هريرة – رضي الله عنه – يروي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((بينما رجل يمشي بطريقٍ، اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرِب ثم خرج، فإذا كلب يَلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلَغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلَغ بي، فنزل البئر، فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بفِيه، فسقى الكلب، فشكَر الله له، فغفَر له))، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟! فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((في كل ذات كبدٍ رَطْبة أجْر))[12].
وأخبر أن امرأة دخلَت النار في هِرَّة حبسَتها، فلم تُطعمها، ولم تَدَعها تأكل من خَشاش الأرض[13].
ونهى – صلى الله عليه وسلم – مَن همُّوا بإحراق قرية النمل، وأنكر على من أخَذ أفراخ الطيور من أُمهاتها، وأمرهم بردِّها إليها، فقد ثبت عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفرٍ، فانطلَق لحاجته، فرأينا حُمَّرة – طائر صغير كالعصفور أحمر اللون – معه فرخان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الحُمَّرة، فجعلت تَفرُش، فجاء النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((مَن فجَّع هذه بولدها؟! ردُّوا إليها ولدها))، ورأى قرية نمل قد حرَّقناها، فقال: ((مَن حرَّق هذه؟))، قلنا: نحن، قال: ((إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بالنار إلا ربُّ النار))[14].
وأخبر – صلى الله عليه وسلم – بأن مَن لا يَرحم لا يُرحم، وأن الرحمة لا تُنزع إلا من شقي، وبشَّر – صلى الله عليه وسلم – الراحمين بالرحمة من الله تعالى.
فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((إنما يَرحم الله – عز وجل – من عباده الرحماء))[15].
وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((الرحم شِجْنَة، فمَن وصَلها وصَلتُه، ومن قطَعها قطَعتُه)) [16].
إلى غير ذلك مما لا يتَّسع المجال هنا لاستقصائه، فصلى الله وسلَّم على نبي الرحمة والهدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
_______________________________
[1] رواه البخاري 5997، مسلم 2318.
[2] رواه البخاري 5998، مسلم 2317.
[3] رواه البخاري 6000، مسلم 2752.
[4] رواه البخاري 68، مسلم 2821.
[5] رواه البخاري 69، مسلم 1734.
[6] رواه البخاري 3560، مسلم 2327.
[7] رواه البخاري 6129، مسلم 2150.
[8] رواه البخاري 6038 مسلم 2309.
[9] رواه مسلم 2151 عن أنس – رضي الله عنه.
[10] رواه مسلم 2328.
[11] رواه البخاري 6010
[12] رواه البخاري 2363 ، مسلم 2244.
[13] رواه البخاري 3318، مسلم 2242، عن ابن عمر – رضي الله عنهما.
[14] رواه أبو داود (2675- 5268) عن ابن مسعود – رضي الله عنه – وصححه الألباني في الصحيحة 25.
[15] رواه البخاري 1284، مسلم 923 عن أسامة بن زيد – رضي الله عنه.
[16] رواه البخاري 5989، مسلم 2555 عن عائشة – رضي الله عنها.
منقووووووول
اتمنى ان تكتبي المزيد عن النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم