آثار عقد النكاح
الآثار المترتبة على عقد النكاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول هو الحقوق والواجبات المشتركة.
القسم الثاني حقوق وواجبات تخص الرجل.
القسم الثالث حقوق وواجبات تخص المرأة.
وسنناقش كل قسم من هذه الأقسام على حده.
أولاً: الآثار المشتركة
حل المعاشرة والاستمتاع:
الأثر الأول من آثار عقد النكاح الصحيح هو حل المعاشرة والاستمتاع، ونعني بالمعاشرة الخلطة والسكنى تحت سقف واحد والحياة معاً، ونعني بالاستمتاع التلذذ البدني والنفسي لكل من الزوجين بالآخر. وهذا حق مشترك للزوجين بالآخر، وواجب أيضاً على كل طرف نحو الآخر.
وقد جاء الإسلام بما يكفل سعادة الزوجين وإحسان معاشرة كل منهما للآخر، واستمتاعه به على أكمل وجه وأحسن صورة. فقد جاءت الآيات الكثيرة التي تأمر الرجال بإحسان معاشرة النساء، وإمساك المرأة التي يرى الرجل فيها ما يكرهه رجاء أن يبارك الله له فيها كقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}.. وحث النبي على حسن معاشرة النساء وأوصى بهن كثيراً كما قال صلى الله عليه وسلم: [خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي].. وقوله: [استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج. وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، وإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء]. متفق عليه، وفي حديث آخر: [لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر]. (رواه أحمد ومسلم)، والفرك هو الكراهية.. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مثال على حسن المعاشرة وطيب الخلق. وجاءت الأوامر الكثيرة في القرآن والسنة أيضاً للمرأة كقوله تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله}. والقنوت هنا فسره العلماء بطاعة الزوج.
هذا في المعاشرة والطاعة والعطف والحنان والحب وأما في الاستمتاع البدني فهدى الإسلام في هذا أحسن هدى، فقد جاء في الأمر العام بالاستمتاع بالنساء على أي كيفية كما قال تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين}. غير أن الله سبحانه وتعالى نهى عن إتيان النساء وقت الحيض لما في هذا من الأذى والضرر على الزوجين كليهما وليس هذا مجال تفصيل ذلك كما قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}. ولقد جاءت السنة الصحيحة بجواز الاستمتاع بالحائض في غير مكان الحيض، وجاءت السنة والآثار الصحيحة أيضاً بحرمة إتيان النساء في أدبارهن. وهذا من كمال الإسلام وطهارته.
كما جاءت السنة أيضاً بآداب تجعل المباضعة عبادة يتقرب بها إلى الله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [وفي بضع أحدكم صدقة].. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: [أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيها وزر وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر]. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم معلماً ومؤدباً: [لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإن قدر بينهما في ذلك ولد لن يضر ذلك الولد الشيطان أبداً] (رواه الجماعة إلا النسائي).
هذا وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إفشاء أسرار الجماع ونشر أخباره وهذا من كمال الأدب والأخلاق كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه: ثم ينشر سرها]. (رواه أحمد ومسلم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث آخر إن مثل هذا كمثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما بالسكة (الطريق) فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه، وهذا معناه أن الخبر في أمر النكاح كالعيان.
وبهذه الأخلاق والآداب يرسي الإسلام قواعده النظيفة الكاملة، في أول أثر من عقد النكاح وهو المعاشرة وحل الاستمتاع.
وهذا مما تجدر الإشارة إليه أنه لم يصح شيء عن تحريم نظر الرجل إلى أي جزء في امرأته ولا المرأة كذلك، هذا ولم يصح أيضاً شيء في نهي عن تجرد المرأة والرجل. وبهذا نجد أن الإسلام لم ينه في هذا إلا بما يعيب على الحقيقة وأباح ما سوى ذلك مما يعد سعادة واستمتاعاً، وأحاط كل ذلك بحسن المعاشرة وطيبها.
ومن الآثار المشتركة التي تترتب على عقد النكاح: الاستمتاع والمعاشرة، وقد فصلنا ذلك سابقاً ثم التوارث، وثبوت نسب الأولاد هذا مقام تفصيله بحمد الله وتوفيقه.
2- التوارث:
إذا تم عقد النكاح صحيحاً ومات أحد طرفي العقد (الرجل أو المرأة) ثبت الميراث في مال الميت للحي وقد جعل الله في هذا فريضة محكمة في كتابه فجعل للزوج نصف مال زوجته المتوفاة إذا لم يكن لها ولد منه أو من غيره، وجعل له الربع من مالها إذا كان لها ولد منه أو من غيره.
وأما الزوجة فقد فرض الله لها ربع تركة زوجها إذا لم يكن له ولد منها أو من غيرها ولها الثمن إذا كان له ولد منها أو من غيرها، غير أنها تشترك مع ضرائرها في هذا الثمن إن كان لزوجها المتوفى زوجات غيرها لم يفارقهن. وهذا مفصل في قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين}.
وهذا الميراث حق في مال الزوجة والزوج بمجرد العقد وحتى لو لم يحصل دخول (ولهذه المسألة مزيد تفصيل مستقبلاً إن شاء الله).
3- ثبوت النسب:
عقد النكاح وثيقة تثبت صحة نسب المولود لرجل معين ولكن ذلك لا يتم إلا بشرطين.
أولاً: أن يكون هذا المولود قد ولد بعد مدة كافية لتخلقه جنيناً في بطن أمه وولادته حياً. وجمهور علماء المسلمين أن أقل مدة يثبت فيها صحة النسب هي ستة أشهر، وقد فهموا هذا من الجمع بين النصوص الشرعية، واستقراء الحالات التي كانت في أزمانهم فقد جاء في الحديث الصحيح: [إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح..] الحديث. وهذا يدل على أن حياة الجنين الإنسانية (الروح) لا تكون إلا بعد مائة وعشرين يوماً أي أربعة أشهر، وأما الحياة الحيوانية فالجنين حي منذ كان حيواناً منوياً وكذلك بعد إخصابه للبويضة وانفصال خلاياه لصناعة الجسم. ولكن الحياة الإنسانية أي الروح لا تكون إلا بعد أربعة أشهر، ويبدو أن حالات الولادة قبل الشهور الستة لا يكتب لها الحياة، وعلى كل حال فعلوم الطب تستطيع الآن الحكم على عمر الجنين وبذلك يعلم صحة النسب بكونه قبل العقد أو بعده.
ثانياً: وأما الشرط الثاني لثبوت النسب فهو الدخول بالمرأة، وهذا الشرط اشترطه جمهور العلماء إلا الإمام أبو حنيفة رحمه الله الذي لم يعد هذا شرطاً ولذلك فصحيح في مذهبه أن يعقد رجل قرانه وهو في المشرق بامرأة في المغرب ولم يلتقيا مطلقاً بعد عقد النكاح ثم جاءت بولد أن ينسب هذا الولد له شاء أم أبى ولا يخفى شذوذ هذا القول ومجانبته للصواب وإن كان قائله قد راعى مصلحة الولد في هذا الأمر ولكن لا يجوز لكي نراعي مصلحة الولد والأم أن نهدر مصلحة الأب الذي يجبر على أن ينسب له غير ولده الذي يعلم قطعاً أنه ليس ولده، وكذلك مصلحة المجتمع المسلم الذي يجب التمييز فيه بين أولاد النكاح وأولاد السفاح.
والذين اشترطوا الخلوة من العلماء اكتفوا بأن يثبت خلو الرجل بزوجته أي وقت بعد العقد، وعلى كل حال هذه مسألة اعتبارية خاضعة للعرف والظروف، والمهم في هذا الصدد أن عقد النكاح ضمان للمرأة أن ينسب مولودها إلى نكاح صحيح لا إلى سفاح، وإلزام للرجل أن ينسب له من ولد على فراشه من زوجته التي دخل بها.
وبهذا نرى أن عقد النكاح يترتب عليه من الأمور المشتركة ما لا يترتب على أي عقد في الدنيا فإنه يترتب عليه المخالطة والاستمتاع والتوارث وثبوت النسب وكلها أمور في غاية الأهمية والحساسية، ولذلك كان الاحتياط في هذا العقد والميثاق الغليظ كما سماه الله سبحانه وتعالى واجباً وكان إيقاعه كما أمر الله بشروطه وانتفاء موانعه في غاية الأهمية، ولهذا نقول أيضاً إن هدم القواعد التي يبني عليها عقد النكاح معناه هدم للحضارة الإنسانية الأخلاقية وإرجاع للإنسان إلى مرتبة الحيوان الذي يكتفي بالتناسل فقط دون هوية واسم ودون شخصية مستقلة.
ولذلك نجد أن الإسلام في توجيهه لهذا العقد قد أرشد إلى الإحسان والبر وهي منزلة متقدمة فوق الحقوق والواجبات ومعنى هذا أن الرجل والمرأة كليهما يجب أن ينظرا ويجتهدا نحو تحقيق الإحسان والفضل وأنهما لا ينبغي لهما أن يقفا فقط عند الحق والواجب، وباب الإحسان والفضل والبذل والتضحية والوفاء باب واسع جداً لا تحده الحدود ولا تقف أمامه السدود فكلما كان الرجل معطاء كريماً شجاعاً متسامحاً كان أحظى عند الزوجة وأعظم مكانة وأكثر استفادة بزواجه وكلما كانت المرأة وفية مخلصة متفانية في خدمة زوجها ملغية ذاتها في ذاته كانت سعيدة محبوبة مبجلة، وإذا وجد العكس وهو الشح ومطالبة كل منهما بما له أولاً عند الطرف الآخر وتأخير سداد ما عليه نحو الآخر كلما كان الزواج فاشلاً والحياة صعبة ثقيلة متكلفة.
وعلى ضوء من هذين الأمرين نناقش قضية الحق والواجب في عقد الزواج وهما:
أولاً: نحن لا نملك حداً فاصلاً بين ما للزوج وما عليه نحو زوجته وما للزوجة وما عليها نحو زوجها ولكننا نملك خطوطاً عريضة فقط.
ثانياً: لا يجوز بتاتاً أن يقام عقد الزواج على ما الذي لي وما الذي لك ولكن يجب أن يقوم على: ما المقدار الذي أستطيع أن أبذله لك وما المدى الذي يستطيع الطرف الآخر أن يقدمه لي وهذا هو باب الإحسان والفضل والحب والرحمة والوداد ومن هذا المنطق نستطيع تحديد واجبات الرجل نحو زوجته بما يلي:
1- النفقة:
وهذا يعني أن يقوم الزوج بالإنفاق على زوجته منذ عقد العقد وحتى الانفصال عنها بأي صورة (كما سيأتي هذا مفصلا إن شاء الله) وهذه النفقة تشمل كل لوازم الزوجة من طعام ومسكن وكسوة ونحو ذلك وأن لا يلزم المرأة شيئاً من هذا أصلاً سواء كانت مالكة وغنية أم لا. وأن العمل بقصد الكسب ليس واجباً على المرأة بحال وعلى ضوء القواعد السابقة فلا تحديد لحجم النفقة وكيفيتها وفي هذا يقول تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه لينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها}.
2- إحسان المعاشرة:
وهذه أيضاً قضية عامة لا نستطيع تحديدها في قوالب قانونية لأن قضية المعاشرة أمر أخلاقي والأخلاق كثيرة منها ما لا يستطيع أن يضبطه القانون فهل تطالب المرأة زوجها مثلاً أن يبتسم إذا رآها وأن يهش للقائها؟..
وهذا لا نشك أنه من حسن المعاشرة ولكن لا نستطيع أن نسن ذلك بقانون ولا أن يجبر إنسان على فعله. ولذلك فأمر إحسان المعاشرة أمر واسع خلاصته وجوب اتباع مكارم الأخلاق في المعاشرة وهذا يعني أن لا تقبيح للزوجة، ولا سباب ولا لعن، وإنما لين جانب، وبذل معروف.
3- القوامة:
ونعني بالقوامة كون الرجل مسؤولاً عن تقويم زوجته وأن له الكلمة الأخيرة في شئون الحياة الزوجية، وهذا الأمر قد ينظر أناس إليه أنه حق للرجل ولكن يحسن بنا أن نجعله واجباً لا حقاً، فالرجل مسئول عن زوجته لأنها رعية استرعاها الله إياها كما قال صلى الله عليه وسلم: [والرجل في بيته راع وهو مسئول عن رعيته].
والقوامة لا تعني التسلط والقهر ولا إنفاذ رأي الرجل صواباً كان أو خطأ وإنما تعني حسن السياسة وإدارة دفة الحياة الزوجية على وجه الشورى والإحسان والحرص الدائم على بذل النصح والخير، والوقوف الحازم أمام الانحراف والنشوز.
هذه هي أهم واجبات الرجل نحو زوجته ولا شك أن رجلاً يستطيع أن يقوم بهذه الواجبات على الوجه الأكمل إلا أن يكون زوجاً صالحاً.
ثالثاً: آثار عقد الزواج على المرأة خاصة
يفرض عقد النكاح حقوقاً للرجل نحو زوجته أو واجبات على الزوجة نحو زوجها، ونستطيع إيجاز هذه الواجبات في الأمور الثلاثة الآتية:
1- الطاعة:
بما أن القوامة على الأسرة واجب من الله سبحانه وتعالى يسأل عنه الرجل يوم القيامة ويسأل عنه الرجل في الدنيا أيضاً أمام المجتمع وولي الأمر فإن من مستلزمات القوامة للرجل أن يطاع من قبل من جعلهم الله سبحانه وتعالى في كفالته ورعايته، ولا نتصور أن يكون الرجل قواماً في بيته متكفلاً بشئون أسرته (زوجته وأولاده) ولا يكون مطاعاً من زوجته وأولاده، ولذلك فطاعة المرأة لزوجها حق يفرضه الله سبحانه وتعالى أولاً وتقتضيه مصالح الأسرة ونظامها ثانياً، وتفرضه الضرورة والواجب ثالثاً. ونعني بالضرورة الخلقة والجبلة والفطرة وهذا لا يماري فيه إلا مكابر، ونعني بالواجب الالتزام الأدبي والخلقي الذي يفرضه إنفاق الرجل على زوجته وكفالته لها فلا أقل من الطاعة والإذعان لأمره.
والطاعة بالضرورة لا تعني الاستعباد والتسلط والقهر وتبرير الخطأ لأنه صدر من الرجل. لا وإنما تعني الطاعة في نظام الإسلام الطاعة في المعروف إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والالتزام حيث يحسن الالتزام ولا نعني مطلقاً السير في الخطأ والاستبداد بالرأي، والإكراه، وميادين الطاعة الواجبة لا تحصرها غير أنها مقيدة كما قلنا بالمعروف والاستطاعة ومن ميادين الطاعة الواجبة الخدمة (وسنفرد لها فصلاً مستقلاً وإن كانت هي بذاتها فرداً من أفراد الطاعة) وكذلك الطاعة في الفراش وقد جاءت أحاديث بخصوص الطاعة في هذا الأمر كقوله صلى الله عليه وسلم: [إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح]. (متفق عليه)، وهذا زجر شديد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تمتنع المرأة عن فراش زوجها علواً أو نشوزاً ونفوراً. واللعن هذا لا يكون إلا في فعل حرام أو ترك واجب.
2- الخدمة:
الخدمة المنزلية من ميادين الطاعة وقد سبق أن هذا حق من حقوق الرجل، وواجب على المرأة، وليس هناك تحديد شرعي أيضاً لمواصفات الخدمة والذي يحدد هذا أيضاً هو العرف والمعروف، وقد أبعد جداً من ظن أن الخدمة المنزلية ليست واجباً على المرأة نحو زوجها إلا طاعة الفراش فقط، وهذا الفهم إساءة بالغة لمعنى عقد النكاح في الإسلام، وقد كانت الصحابيات بما فيهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمن أزواجهن، ويلقين العنت والتعب في هذه الخدمة ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن لا يجب على امرأة أن تخدم زوجها بل على العكس من ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بطاعة أزواجهن كما أمر الأزواج بالإحسان إلى النساء. والخدمة أيضاً قضية فطرية جبلية من المرأة نحو زوجها وموافقة الفطرة هي السعادة الحقيقة ولا شك أن أسعد النساء حظاً في الحياة الزوجية أكملهن طاعة وخدمة لأزواجهن وأشقاهن في حياتهن الزوجية من يتخلين عن هذه المهمة الفطرية التي جاء عقد الزواج ليوجبها ويحقها.
ومن فضلة القول أن هذه الخدمة واجبة على المرأة نحو زوجها فقط وليست واجبة نحو أهل الزوج إلا أن يكون هذا تطوعاً منها وإحساناً وإرضاءً للزوج وتحبباً إليه.
3- القنوت:
والقنوت يطلق في اللغة إطلاقات كثيرة ونعني به هنا حبس المرأة نفسها على زوجها فقط حيث لا يكون في قلبها ووقتها شغل بغيره.
فعقد الزواج ينقل طاعة المرأة من والديها إلى الزوج رأساً ليكون هو الولي المباشر وليكون برها وطاعتها بوالديها من بعد طاعتها لزوجها. وهكذا أيضاً في الآخرين فلا يجوز لامرأة أن تجعل من نفسها نصيباً في خدمة أو تطلع لغير زوجها إلا بإذنه. فالمرأة أسيرة عند الرجل محبوسة عليه وحده ولاءً وطاعة وخدمة، وهذا هو الموقف الشرعي والموقف الفطري والأخلاقي الكامل. ومن هذا الباب كان الرجل مطالباً في الإسلام برعاية زوجته رعاية كاملة لهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم] والعاني هو الأسير أي أسيرات.
فيجب أن تعلم المرأة المسلمة أن عقد الزواج يفرض عليها هذا الأسر الاختياري وهو أسر محبب ولا شك عند المرأة. والزوجة التي تستطيع أن تراعي حقوق وواجبات هذا الأسر هي المرأة المثالية ولا شك أن الرجل والمرأة إذا بذل كل منهما ما أسند إليه من مهمات وتفاني كل منهما في إسعاد الآخر وإدخال السرور على نفسه فإنهما سيحققان السلام الحق والسعادة المنزلية الكاملة.
ضمانات لاستقرار الأسرة
أولاً: موافقة الفطرة:
كان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل السعادة في الأسرة والاستقرار لها منوط بالقيام بالوظائف والتكاليف التي وزعها على أفرادها. فإذا كان الرجل رجلاً وفي مكانه الصحيح قائماً بما عليه من واجبات والمرأة امرأة وفي مكانها السليم من حيث الخلق والتشريع وقائمة بما أوجب الله عليها، وكذلك الأبناء أبناء حقيقيون قائمون بما أوجب الله عليهم من طاعة لوالديهم وحب وتقدير لهم. أقول إذا كان كل واحد من هؤلاء في مكانه الصحيح استقامت أحوال الأسرة فإذا اختل شيء منها اختل الآخر. فلو تأبت المرأة مثلاً أن تنجب أولاداً بدعوى أن في هذا تعطيلاً لملاذها وشهوتها فإنها أول من تشقى بذلك نفسياً وروحياً. وإذا قامت الزوجة بهذا الذي خلقها الله سبحانه من أجله فإنها مع شقائها وتعبها ووهنها تسعد أيما سعادة، وليس هناك سعادة عند المرأة تعادل إحساسها بتحرك الجنين في أحشائها، وبصراخ الطفل نحوها، وبسهرها ليلة في جوار سريره. مع تعبها العظيم من كل ذلك. ولكن الرب الرحيم جعل في هذه المشقات التي كتبها عليها كتابة كونية قدرية سعادة نفسية هائلة وهذا الأمر نفسه متحقق في طاعة الزوجة للواجبات الشرعية التي كلفها الله بها. فسعادة المرأة في طاعة زوجها، وترك رأيها لرأيه وإذعانها أحياناً لرغباته وإرضائها له فليس هناك أسعد من زوجة وفية مخلصة في كنف زوج بار مخلص عفيف – واليوم الذي تظن فيه المرأة أنها أصبحت نداً للرجل وأن رأيها يجب أن يكون قبل رأيه، وأن رأسها يجب أن تكون معادلة لرأسه أقول هذا الوقت تبدأ شقاوتها وتعاستها.
نخرج من كل هذا بفائدة هامة وهي أن نعلم جميعاً أن سعادتنا رجالاً ونساءً منوطة بأن نكون عند الأوامر الشرعية التي وزعها الله علينا فالرجل السعيد في حياته الزوجية هو الرجل القائم بالواجبات التي كلفه الله بها والمطالب بالحقوق التي أعطاها الله له، والمرأة السعيدة هي المرأة القائمة بالواجبات التي كلفها الله بها والمطالبة بالحقوق التي منحها الرب إياها. وأي إخلال أو اختلال بهذه الحقوق والواجبات الشرعية معناه الهدم للنظام الأسري وبالتالي الهدم للسعادة والاستقرار.
ثانياً: الحكمان عند الخلاف:
الزوج والزوجة قد يختلفان ويصل الخلاف إلى نقطة لا يستطيعان علاجها بمفردهما. وهنا أمر الله سبحانه وتعالى برد هذا الخلاف إلى حكم من أهل الزوج وحكم من أهل الزوجة. قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريداً إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً}.
وذلك أن الفرد قد يملك القدرة أحياناً على حل مشاكل الآخرين ولكنه يعمى عن مشكلة نفسه. فمهما كان الرجل حكيماً عالماً فإنه في مشاكله الخاصة يكون أقل قدرة على الحل ولذلك نجد أن كثيراً من النساء ينجحون كثيراً في الصلح والتوفيق بين الناس، ولكنهم قد يفشلون أحياناً في حل مشاكلهم أنفسهم، ولذلك كان واجب الاستعانة بالآخرين وخاصة المرأة يساعدها كثيراً أن ينوب عنها في حل بعض مشاكلها المعقدة مع زوجها أن تلجأ إلى أب أو عم أو أخ يملك القدرة على فهم أمورها والوصول إلى حلول لمشاكلها مع زوجها. فإذا عجز الزوج أن يصل مع زوجته إلى حل لمشكلة ما. فإن الواجب أن يرد هذه المشكلة إلى حكم من أهله وحكم من أهلها.
والحكمة في اختياره من الأهل ألا تنتشر أسرار البيوت، وأن لا يعير الأبناء بما كان من أخلاق في الآباء، فاللجوء إلى المحاكم والقضاة في كل مشاكل الزواج أمر في غاية الخطورة لأن علاقة الزوج بزوجته علاقة خاصة جداً، وتنشأ المشاكل كثيراً في هذه العلاقات الخاصة. ونشر هذه العيوب في المحاكم وأمام القضاة والشهود إنما هو فضح للأسرار، وكسر للقلوب فحتى لو تم الصلح أمام القاضي فإن المشكلة ستبقى لأنه ولا بد أن يخرج إلى الناس أسراراً كان يحب كل من الزوج والزوجة أن تظلا مخفية ولذلك كان من رحمته وإرشاده سبحانه وتعالى أمرنا بدعوة الحكمين عند الخلاف المستعصي والأمر في بعث الحكمين قال بعض العلماء هو خطاب للزوجين، وقال آخرون بل خطاب لولي الأمر، قول ثالث إنه خطاب للمؤمنين الذي يطلعون على ما حدث بين الزوجين من خلاف والصحيح أنه خطاب عام وذلك أن استقرار الزواج لا يهم الزوجين فقط وإنما يهم ولي الأمر، لأن هذا من شئون الرعية التي استرعاه الله إياها، ويهم كل مسلم لأن المؤمنين كالجسد الواحد ولا بد أن تفزع إذا اشتكى عضو، وشقاق الأزواج من أعظم الآلام والمشاكل ولذلك كان لا بد من الاهتمام به ولا شك أن مشاكل الزوجين تهمهما أولاً ولذلك وجب عليهما في المقام الأول أن يلجأ إلى الحكمين إذا تعذر عليهما الحل وبهذه الضمانة تبقى الأسرة الإسلامية في إطارها الصحيح من الاستقرار والثبوت ونستطيع أن نلخص هذه القواعد فيما يأتي:
(أ) أن يؤدى عقد الزواج بشروطه كما أمر الله سبحانه وتعالى من رضا وشهود، وولي، ومهر، وكفاءة وغير ذلك من شروط.
(ب) أن نمتنع عن كل ما يبطل هذا العقد كفقد شرط من الشروط السابقة أو نلجأ إلى نكاح محرم كنكاح الشغار والتحليل والنكاح المؤقت.
(ج) أن نحذر من أن نضع في عقد النكاح شرطاً ليس في كتاب الله كاشتراط العصمة وغير ذلك من الشروط الفاسدة التي تفسد العقد أو تمنع نفاذه وأن نوفي بالشروط التي التزمنا بها كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم من الفروج].
(د) أن يقوم كل من الرجل والمرأة بالحقوق والواجبات التي كلفهم الله بها وأن يعلم كل منهما أن تعديه على حق الآخر إنما هدم لنظام رباني وهو تماماً كهدم الفطرة والخلق لأن الحكم من عند الله والخلق من عنده فكما خلق فهو يحكم سبحانه تعالى كما قال جل وعلا: {له الخلق والأمر}، فكما أن الخلق له فالأمر له سبحانه وتعالى، وكل من عارض الخلق شقى وكذلك كل من عارض أمره سبحانه وتعالى شقى ولا بد.
(هـ) أن يعلم كل من الرجل والمرأة الفطرة التي فطرها الله سبحانه وتعالى عليهما، فإذا عرف المرء نفسه عرف كيف يعالجها ويقومها وإذا جهلها جهل سبل التقويم والعلاج بل والصلاح أيضاً، فكيف يسعد نفسه من يجهلها؟ وكذلك أن يعرف الرجل شيئاً عن طبيعة المرأة ونفسيتها، وأن تعرف المرأة شيئاً عن طبيعة الرجل الخاصة ونفسيته وكيف يحب وكيف يكره وهذا العلم ضروري لإحسان التعامل بين كل من المرأة والرجل.
(و) أن يلجأ الزوج والزوجة إذا استشرى بينهما خلاف إلى أقرب حكم ناصح من أهله ليساعدها على الخروج من خلافهما وبذلك يضمنان سعادة وحلاوة لزواج إسلامي نظيف طاهر.
الخلاف بين الزوجين وطرق علاجه
يندر في الواقع أن يعيش زوجان دهراً من عمرهما دون أن تطرأ في حياتهما مشكلات وخلافات.
ولذلك فعلينا أن نتقبل الخلافات الزوجية على أنه أمر لا مفر منه أو هو شر لا بد منه ولا يعني ذلك أن نستسلم للخلاف وألا نأبه له عند حدوثه فالخلاف شر وهو يعكر النفوس ويقتل بهجة الحياة الزوجية وعلينا أن نفر منه بكل سبيل ولكن ينبغي أيضاً أن لا نظن أن الكارثة قد وقعت عند أي خلاف مهما كان ويجب أن نعلم أيضاً أن لكل جرح دواء وعلينا أن نحاول دائماً ولا نيأس من علاج مطلقاً وفوق هذه القاعدة نستطيع أن نؤسس حياة زوجية سعيدة.
وهذه مجموعة من قواعد وإرشادات ونصائح أرجو إن اتبعها الزوجان أن يسعدا ويقضيا على كل خلاف ينشأ بينهما:
أولاً: إذا أردت أن تحكم حكماً صحيحاً في أي خلاف فضع نفسك موضع الآخر، وقدر ظروفه وإمكانياته تماماً ثم احكم عليه وبهذا تعلم موقفك أنت ممن يخالفك في شيء ما.
ثانياً: على الرجال أن يعلموا تماماً أن في المرأة، جنس المرأة عوجاً بوجه من الوجوه وهذا ليس فيه تعصب وإنما هو طبيعة الخلق والفطرة التي فطر الله المرأة عليها، ولا يمكن أن تكتمل المرأة من كل وجه خلقاً وطباعاً ولو أنها كانت كاملة لعبدها الرجال من دون الله عز وجل وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه وإن جئت تقيمه كسرته، وإن استمتعتم بهن استمتعم بهن وفيهن عوج].
وأخذ هذا الأمر على علاته يفيد الرجال كثيراً فافتراض الكمال في المرأة ومحاسبتها على هذا النحو يعني التغاضي عن كثير من النقص ضار بالمرأة والرجل كذلك. وهذا الذي لا بد وأن يعتور الحياة الزوجية ومطالبة المرأة بإكمال هذا النقص مطالبتها بالمستحيل.
ثالثاً: كم من الرجال من يرزقون زوجات هن أرجح منهم عقولاً وأكثر منهم صبراً وحكمة وأكثر منهم سداد رأي ولا يخرق هذا القاعدة العامة في الرجال والنساء ولا يعني هذا أيضاً أن تأخذ المرأة صلاحيات الرجل وأن يقف الرجل من عقد الزواج مكان المرأة لأن هذا يعني إفساداً للفطرة، وهدماً للسعادة الزوجية وأسلوب إصلاح المرأة لزوجها عند نشوزه وإعراضه هو النصح والاستعانة عليه بالأقربين كما قال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير}، وأما أن تقوم المرأة بتقويم عوج زوجها ونشوزه وإعراضه بتعاليها عليه، وهجرها لفراشه أو بضربه وتأديبه فذلك هو غاية الفساد والإفساد.
رابعاً: الرجل الذي أعطى حق القوامة عليه الواجب الأول في أن يكون راعي وقواماً ولا يكون راعياً وقواماً إلا بأن يكون قدوة في نفسه، قادراً على تقويم غيره.
والقوامة لا تعني البطش والتعالي وإنما تعني الرعاية والحفظ والتربية والرأفة والرحمة ووضع كل أمر في موضعه شدة وليناً. ولا شك أن سوء استخدام الرجل لصلاحياته المعطاة له يؤدي إلى النقيض.
خامساً: الوسائل التي أعطاها الله وأرشد إليها الرجال لتقويم نشوز زوجاتهم يتلخص في الأمور الأربعة الآتية:
(أ) الوعظ: وهو كلام رقيق يصيب القلب والوعظ نافع للزوجة إذا جاء في الوقت المناسب بالقدر المناسب، وأما أن يجعل الرجل من نفسه خطيباً بالليل والنهار فذاك فساد وإفساد فالوعظ في التربية كالسم في الدواء قليله يفيد وكثيره يقتل الشعور والإحساس.
(ب) الهجران في المضاجع: وهو ترك فراش الزوجة وقت النوم فقط وهو نافع إذا لم تفلح الوسيلة السابقة.
(ج) الضرب: والمقصود به إيقاظ شعور امرأة بليدة الطبع لم تستفد شيئاً بالوسيلتين الآنفتين وهي وسيلة لا يلجأ إليها الأخيار عادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما اشتكى إليه بعض النساء من ضرب أزواجهم لهم وعظ الرجال وقال: [إنه قد طاف بآل محمد نساء يشتكين أزواجهن..] ثم قال: [وليس أولئك بخياركم] أي من يضرب زوجته.
وبالطبع فالمقصود بالضرب هو غير المبرح الذي يتقي صاحبه به الوجه وفي تحريم ضرب الوجه أحاديث كثيرة مشهورة.
(د) الاستعانة بالمصلحين من أقارب الزوج والزوجة. وهذا آخر المطاف إذا عجز الرجل عن التقويم فعليه أن يستعين بحكم من أهله وحكم من أهل زوجته فيكونا أقدر على تفهم مشاكلهما لأن صاحب المشكلة كثيراً ما يعمى عن حلها.
وفي هذه الأمور الأربعة الآنفة جاء قول الله تبارك وتعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً}.
كيف ينتهي عقد الزواج
ينفصل الأزواج بعضهم عن بعض بواحد من الأمور والحالات السبعة الآتية: الوفاة – والطلاق – والفراق – واللعان – والظهار – والفسخ – والردة.. وفي كل حالة من هذه الحالات هناك قواعد وحدود وآداب شرعية يجب أن يحسن التزامها وسنبين كل ذلك تفصيلياً بحول الله وقوته.
أولاً: الوفاة:
الموت سنة من سنن الحياة التي لا تتخلف ولا يمكن الفرار منها وهو يصيب الأزواج كما يصيب الأطفال ويدهم الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم. والوفاة تفرق الأزواج بعضهم عن بعض ولكنها لا تهدم عقد الزواج الشرعي نهائياً بل الأزواج المسلمون أزواج في الآخرة إن ماتت على الصلاح والتقوى وكان هو كذلك، كما قال تعالى حاكياً دعاء الملائكة للمؤمنين: {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم}، وقال تعالى أيضاً: {الذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين}.
ومن هنا أخذ عقد الزواج قدسيته ومكانته.
آثار الوفاة على الأزواج:
نستطيع إجمال الآثار والآداب والحقوق التي تعقب وفاة أحد الزوجين بما يلي:
(أ) الميراث: توجب الشريعة الإسلامية حقاً ثابتاً للرجل في مال زوجته المتوفاة وللمرأة في مال زوجها المتوفى.. فللرجل النصف من مال زوجته إذا توفيت ولم تترك أولاداً منه أو من غيره، وأما المرأة فلها ربع مال زوجها المتوفى إن مات ولم يترك أولاداً منها أو من غيرها ولها الثمن إن ترك أولاداً.
(ب) العدة (عدة الوفاة): توجب الشريعة على المرأة أن تمكث في بيت زوجها بعد وفاته أربعة أشهر وعشرة أيام لا تتزوج ولا تخطب خطبة صريحة، ولا تتزين، ولا تخرج في غير حاجة وهذه العدة ثابتة في القرآن والسنة. قال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير}. والحكمة في هذه العدة أنها استبراء كامل للرحم، ووفاء واجب مفروض من المرأة وزوجها.
وأما الرجل فليس عليه عدة بعد وفاة زوجته لذكراها مسألة اعتبارية شخصية لم يفرض عليه الدين فيها وقتاً محدوداً ولا شكلاً معيناً. وله أن يتزوج بعد وفاة زوجته بأي مدة غير أن مراعاة شعور الآخرين وخاصة أهل الزوجة المتوفاة مما أمر به الدين أمراً عاماً ومما يتناسب أيضاً مع العرف الصالح والأخلاق والآداب الإسلامية.
(ج) حفظ الجميل والعهد: يتطلع الرجل والمرأة في خلال حياتهما الزوجية على أدق وأخص أسرار بعضهما البعض، ولا يعني الافتراق بالموت نشر هذه الأسرار وهتك العهود السابقة بل الالتزام بالعهود وكتمان الأسرار فريضة إسلامية على كل من الرجال والنساء.. ولا يكفي هذا فقط بل الرجل الصالح هو الذي يحافظ على ود زوجته بعد وفاتها كما كان يفعل في حياتها والمرأة كذلك. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك فتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "ما غرت على امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما غرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وثنائه عليها".. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة فيقول أعطوا صديقات خديجة أولاً. وكانت تدخل عليه امرأة في المدينة فيكرمها لأنها من صديقات زوجته. وهذا من عظم وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الزوجة الصالحة. وفي هذا قدوة وأسوة لمن أراد مكارم الأخلاق؟..
ثانياً: الطلاق حكمته ومشروعيته
مما لا شك فيه أن الطلاق عملية هدم لبناء أسرة وقد يأتي هذا الهدم عند بداية الطريق وعند وضع أول اللبنات في الأساس وقد يأتي متأخراً بعد أن يكون البناء قد فرغ وتعددت الحجرات ووضع السقف أعني بعد النسل وكثرة الأولاد. والذين ظنوا أن الإسلام أباح الطلاق مطلقاً بلا ضوابط، وفتح للناس الأبواب على مصراعيها في أن يتزوجوا كما يشاءون ويطلقوا وقتما يشاءون فقد أخطأوا وتجنوا على هذا الدين، وكذلك الذين يريدون حجر الطلاق ومنعه وتقييده بغير الطرق الشرعية ظناً منهم أن ذلك عمل إنساني وأنه في صالح المرأة فهم أيضاً جاهلون مغرون، وسنبين إن شاء الله تعالى بالدليل والبرهان فساد الطريقين وأن العدل هو ما جاء به الدين الصحيح بلا إفراط ولا تفريط.
ومع إقرارنا بأن الطلاق عملية هدم إلا أنه في الإسلام هدم منظم يحافظ على اللبنة فينقلها من مكان إلى مكان آخر أكثر تلاؤماً دون كسرها أو إهمالها.
إن الزواج عملية إنسانية وهو عمل اختياري والإنسان رجلاً كان أو امرأة صندوق مقفل والمظهر الخارجي لا يدل على الداخل مطلقاً بل كثيراً ما يخالف الباطن الظاهر فقد يكون الظاهر جميلاً حسناً والباطل بضد ذلك. والذين يتزوجون لا يتزوجون الأجسام فقط وإنما أيضاً الروح والنفس والطوية والأخلاق وكل هذه أشياء لا تظهر إلا بعد العلاج والصحبة الطويلة واحتكاك المرأة بالرجل والرجل بالمرأة يتدخل في كل شيء في الأجسام والنفوس والأسرار والغايات والأهداف والمستقبل والحياة. إنه امتزاج كامل لكل عناصر الروح والدم وكلما كان التوافق كاملاً كانت السعادة تامة كاملة وكلما اختلف الزوجان في ناحية من هذه النواحي كلما تباعد الزوجان خطوة عن بعضهما البعض. وما إيماننا أن التوافق لا يكون بين زوجين من كل وجه إلا نادراً فإن الدين قد أمر بإبقاء العلاقة الزوجية وحث على ذلك حتى مع تحقيق أقل عناصرها كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر]. (والفرك) بفتح الفاء والراء هو الكراهية والإبعاد. بل قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}.
ومع هذا الحرص من الدين والتشديد ببقاء العلاقة الزوجية إلا أن الأمر يصل أحياناً مع الاختلاف وعدم إمكان الإصلاح إلى القطيعة والشر ثم الكراهية والعناد وقد يصل ذلك إلى المضارة والإفساد وعدم قيام كل منها بما يجب عليه نحو الآخر وبذلك يتحول الزواج بعد ما كان طريقاً إلى مرضاة الله والسعادة في الدنيا ليكون طريقاً إلى سخط الله والشقاوة فيها. فالله لا يرضى عن زوجة فقط تهجر فراش زوجها ليلة واحدة معاندة له كما قال صلى الله عليه وسلم: [ما من زوجة يبيت زوجها عليها غضبان إلا ما كان الذي في السماء ساخطاً عليها]، وقال: [أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه إلا لعنتها الملائكة حتى تصبح]، وكذلك لا يرضى الله سبحانه وتعالى عن رجل يظلم امرأته أو يضيع من يعول.
وأظن أنه لا يقول عاقل بتاتاً بأن كل زوجين تزوجاً قد توافقا طباعاً وحباً وأهدافاً في الحياة نفساً وروحاً وإلا فهذه مكابرة ممقوتة.. ولذلك شقى النصارى بذلك ثم للحس الواقع والفطرة ولا يصنع هذا إلا جاهل أو مبطل أو مغرور، ولذلك شقى النصارى بذلك من ثم كسروا أبواب المنع ولم يفتحوها فقط فهدموا العلاقات الزوجية إلى الأبد في أوساطهم.
نخلص من ذلك أن الطلاق ضرورة إنسانية تحتمها الفطرة البشرية ويقتضيها الإصلاح الاجتماعي وذلك لزوجين ظنا أن يعيشا في سعادة فأقدما على الزواج اختياراً ثم اكتشفا أنهما كانا مخطئين، وأنه يستحيل بقاؤهما إلى الأبد زوجين. فكيف يكون الانفصال الشرعي وهل للرجل وحده أن يقرر الانفصال؟ أم يجوز للمرأة أيضاً أن تقرر الانفصال عن زوجها وقتما تشاء؟.
متى يجوز لك طلاق زوجتك؟
الصورة السيئة التي تعلو أذهان كثير من النساء عن الطلاق لا تمت بصلة إلى الإسلام، وقد تكونت هذه الصورة من المعلومات المشوهة التي فهمها سطحيون تافهون عن رسالة الإسلام أو من ممارسات خاطئة لكثير من الجهلة الظالمين الذين يحملون اسم الإسلام بلا مضمون، وعندما نستعرض خطوات الطلاق الشرعي كما شرعه الله سبحانه وكذلك آدابه وقواعده سنرى البون الشاسع بين هذا وتلك الممارسات والأفكار الظالمة. وإليك بعضاً من هذه القواعد والآداب:
1- متى يجب إيقاع الطلاق؟
قد يظن بعض الناس أن الرجل يستطيع أن يوقع الطلاق على زوجته في كل وقت وإن هذا خطأ فاحش بل لا يجوز لرجل يؤمن بكلام الله وكلام رسوله أن يوقع الطلاق على زوجته إلا إذا كانت طاهراً وأن لا يكون قد مسها في هذا الطهر. أو تكون حاملاً حملاً قد استبان وعلم. فمن طلق امرأته وهي حائض فطلاقه باطل وهو غير واقع لأنه جاء في غير الوقت الذي حدده الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على ذلك حديث ابن عمر الذي رواه الجماعة.. أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: [ليرجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر. فإن بدا له أن يطلقها فيطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء..] وهذا الحديث نص في عدم جواز الطلاق وقت الحيض ووجوب رد هذا الطلاق. وقد ذهب المحققون من العلماء إلى أنه لا يحتسب أيضاً، ومن هؤلاء المحققين ابن تيمية وابن القيم وابن حزم وغيرهم ويدل على ذلك القرآن الكريم حيث قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}.
وكذلك قال تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}، والتسريح هو الطلاق ولا يكون بإحسان إلا إذا كان كما أمر الله.
2- أين تمكث المطلقة وقت العدة؟
يظن كثير من الناس أيضاً جهلاً وظلماً أن المرأة يجب أو يجوز أن تخرج من بيت زوجها إذا أوقع الطلاق وأن يمضي وقت العدة في بيت غير بيت زوجها وهذا خطأ فاحش وجهل بالدين. وكذلك تظن كثير من النساء أنه يجوز لهن الخروج من بيت الزوجية عند سماع كلمة الطلاق أو يجب عليهن الخروج وهذا أيضاً خطأ فاحش ومخالفة صريحة لأمر الله سبحانه وتعالى.. بل لا يجوز لرجل أن يخرج امرأته من بيتها بعد أن يعلمها بالطلاق إلا إذا انتهت عدتها (وسيأتي تفصيل لمعنى العدة) وكذلك لا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تفارق بيت زوجها عندما تسمع منه كلمة الطلاق إلا إذا انتهت عدتها. وذلك كله تحقيقاً لقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}، فقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} دليل على عدم جواز إخراج المرأة من بيت الزوجية إلا إذا أكملت العدة بدليل قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}، والأجل في هذه الآية هو نهاية العدة، وكذلك لا يجوز للمرأة أن تخرج بنفسها مغاضبة لزوجها نافرة منه إذا طلقها وذلك لقوله تعالى: {ولا يخرجن} أي بأنفسهن دون طرد ونحو ذلك فالمرأة عند سماع الطلاق ما زالت ملزمة بعقد النكاح الشرعي وذلك حتى تنتهي عدتها وإرجاعها إلى الزوج ما زال ممكناً ومحتملاً.
هاتان خطوتان أساسيتان في سبيل إنهاء عقد الزواج الشرعي وهما أولاً: يجب أن يقع الطلاق في طهر لم يمس الرجل زوجته أو حال حمل ظاهر، وثانياً: لا يجوز للرجل أن يطرد زوجته من بيتها إلا بعد كمال عدتها ولا يجوز للمرأة أيضاً أن تخرج مغاضبة لزوجها قبل استكمال عدتها في بيته.
لا يطلق ثلاثاً في مرة واحدة إلا جاهل:
لا يجوز للمسلم أن يطلق زوجته ثلاثاً في مرة واحدة، والدليل على ما نحن بصدده ما يأتي:
أولاً: قال تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ولا يكون الطلاق مرتين إلا إذا كان مرة بعد مرة وفي كل مرة تكون هناك رجعة جائزة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} وهذه هي الطلقة الثالثة التي إذا وقعت فلا يحل للزوج أن يعيد زوجته إلى عصمته إلا بعد أن تتزوج بزوج آخر ثم إن طلقها جاز لها أن ترد إلى الزوج الأول.
فالآية دليل على أن مع كل طلاق (من هذين الطلاقين الأولين) رجعة جائزة بدليل ما سبق وبدليل قوله تعالى أيضاً: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} أي أن مع كل طلاق إمساك بمعروف وذلك لمن أراد أن يعاود زوجته قبل انقضاء عدتها، أو تسريح بإحسان وذلك لمن أراد أن يستمر في إنفاذ طلاقه لامرأته حتى تخلص منه بانقضاء عدتها وقوله سبحانه وتعالى: {الطلاق مرتان} دليل على أن الطلاق يكون هكذا أي: هذا هو الوجه الشرعي لتنفيذ الطلاق وإنفاذه وهذا البيان من الله سبحانه وتعالى واجب والمصير إليه فرض لازم، بدليل قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.
وقوله أيضاً في سورة الطلاق: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}.
ومعنى هذا أن الذي يجمع التطليقات الثلاث في كلمة واحدة أو مجلس واحد فقد هدم الحدود والقواعد والآداب الشرعية التي فرضها الله وبينها وأرشد إليها. وهذا الهدم ليس حقاً خاصاً من حقوق الرجال في هذا العقد الشرعي يستعملونه كيف شاءوا. بل هذا هدم للقواعد والحدود الشرعية في هذا الأمر. ثم إن الطلاق يتعلق أيضاً من حقها أيضاً أن لا ينتهي هذا العقد إلا وفق الضوابط الشرعية التي حدها الله لذلك وقبلت على أساسه الزواج.
ثانياً: من المعلوم أن المرأة تطلق من زوجها بقوله مرة واحدة (أنت طالق) أو بعبارة أخرى مقصودة من الرجل تفهم هذا المراد (الطلاق) كقوله: (أنت مسرحة) أو (أنت خلية) ونحو ذلك.
ومعلوم أيضاً أنها تبين منه وتصبح مالكة لأمرها إذا مضى على هذه الكلمة فترة العدة الشرعية ولم يردها فيها.
ومعنى هذا أننا لا نحتاج في الطلاق إلى الفلسفة الزائدة من الرجل والتطاول السيئ بأن يقول لزوجته: أنت طالق ثلاثاً، وأنت طالق ألفاً، أو عدد نجوم السماء أو أنت حرام عليّ مطلقاً فكل هذه الأقوال تعد ظلماً وجهلاً وإساءة بالغة وجحوداً للعشرة والمفروض أن يعزر فاعل ذلك بالضرب والإهانة والسجن ونحو ذلك. فالالتجاء إلى جمع التطليقات الثلاث في مرة واحدة جهل وغباء إذ الواحدة تكفي ثم هو إساءة وظلم يجب أن تسن القوانين لتعزيز فاعله، وحتى تصان العشرة وإذا كان لا بد من الفرقة بين الزوجين فلتكن الفرقة بإحسان كما قال تعالى: {أو تسريح بإحسان} ولا يمكن أن يكون من طلق زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، وجرحها برفض العيش مطلقاً معها محسناً في ذلك بل هو جاهل سيئ يستحق التأديب والتعزيز.
ثالثاً: ينبني على الطلاق الرجعي حقوق الزوجة وهي السكنى والنفقة وأما الطلاق البائن فلا نفقة فيه للمرأة ولا سكنى بل يجب على المرأة فيه أن تعتد خارج منزل الزوجية ولا نفقة لها. والذي يطلق الثلاث دفعة واحدة يهدم حقوق المرأة الشرعية في جواز الرجعة وفي النفقة والسكنى إلى جانب الإهانة المعنوية البليغة التي يقذف بها الرجل على ذلك النحو في وجه امرأته، وبذلك يجمع الرجل المطلق ثلاثاً في دفعة واحدة بين الإهانة المعنوية وهدم الحقوق الشرعية المادية لزوجته وبذلك يرتكب مجموعة من الإساءات في وقت واحد وهي على وجه الإجمال:
1- هدم الحدود والقواعد والخطوات الشرعية لهذا العقد، والتلاعب بكتاب الله وسنة رسوله.
2- الإهانة البالغة للزوجة المطلقة على هذا النحو لأنه رفض سيئ للعشرة وجحود ونكران لحق المعاشرة.
3- هدم الحقوق المادية للزوجة (وإن كان الزوج يلزم بهذا الآن قضاء) وهذا الهدم تعد وظلم.
4- الجهل والتطاول فعقد الزواج ينتهي بكلمة واحدة من الرجل للمرأة. أنت طالق، فلماذا التطاول والقول ثلاثاً ومائة وألف إلا أن يكون هذا سفاهة وجهلاً.
ذكرنا أنه لا يجوز لمسلم أن يطلق امرأته ثلاثاً في مرة واحدة سواء قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، أو قال لها: أنت طالق طالق، أو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو زاد على ذلك إلى مائة أو ألف وأن كل ذلك سفاهة يستحق قائلها العقوبة والتعزيز، وأن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه وتعالى هو الطلاق مرة واحدة في بدء طهر المرأة إذا كانت ممن تحيض ثم الانتظار مدة العدة فإما أن يرجعها إلى عصمته في أثنائها وإما أن ينتظر حتى نهاية العدة فيقع الطلاق وتملك المرأة شأن نفسها، وللرجل أن يكرر هذا العمل مرتين يحق له فيهما الرجعة فإذا أوقع الطلاق الثالث فلا يجوز له بعد ارتجاعها حتى تنكح زوجاً غيره بنكاح صحيح وليس بنكاح تحليل.
ولكن ماذا لو ركب جاهل رأسه وطلق امرأته علي هذا النحو الفاسد ثلاثاً في مرة واحدة هل يقع الطلاق ثلاثاً ويلزم بذلك. أم يقع طلقة واحدة فقط ليكون موافقاً للطلاق الشرعي الصحيح أم لا يقع له طلاق أصلاً. وهذا القول الثالث والأخير قول مخالف لأقوال أهل السنة والجماعة ولذلك فليس موضوعاً لبحثنا وإنما النظر والبحث في القولين الأولين.
القول الأول: طلاق الثلاث يقع ثلاثاً:
الذي أفتى به الأئمة الأربعة واختاره كثير من الصحابة والتابعين وكثير من السلف أن طلاق الثلاث وإن كان بدعياً ومحرماً إلا أنه يلزم الرجل به وتطلق به المرأة من زوجها طلاقاً بائناً لا رجعة فيه إلا أن تنكح زوجاً غيره.
وقد استدلوا لذلك بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمضى طلاق الثلاث ثلاثاً كما روي عنه أنه قال: أرى أن الناس قد تتابعوا في أمر كانت لهم فيه فسحة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، وفرق رضي الله عنه بين كل رجل طلق امرأته ثلاثاً في مرة واحدة وبين امرأته.
القول الثاني: طلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة:
وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وقول كثير من التابعين ومن بعدهم كطاووس ومحمد بن إسحاق – وهذا القول هو الذي ذهب إليه الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله ونصره في فتاويه وهو الموافق للكتاب والسنة كما أسلفنا. يقول ابن تيمية في فتاويه: (لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعاً، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقاً بائناً). ويقول أيضاً: (وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله في المدخول بها طلاق بائن يحسب من الثلاث). ويقول أيضاً: (ولا نعرف أن أحداً طلق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة فألزمه النبي صلى الله عليه وسلم بالثلاث، ولا روي في ذلك شيئاً بل رويت في ذلك أحاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث بل موضوعة، بل الذي في صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم".
وفي رواية لمسلم وغيره عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر فقال ابن عباس: نعم وفي رواية أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلما كان في زمن عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم).
وتابع الإمام ابن تيمية إيضاحه لهذه المسألة قائلاً: (وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه قال طلق ركانة بن عبد زيد أخو بني عبدالمطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف [طلقتها؟] قال: طلقتها ثلاثاً. فقال: [في مجلس واحد] قال: نعم. قال: [فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت] قال: فرجعها). انتهى.
ولهذا ذهب الإمام ابن تيمية بعد أن ساق هذه الأدلة إلى أن طلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة وقال: (ليس في الكتاب والسنة ما يوجب الإلتزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقدة بل إنما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله، وعلى هذا يدل القياس والاعتبار بسائر أصول الشرع) أ.هـ.
وقد اعتذر الإمام ابن تيمية رحمه الله عن الأئمة المجتهدين في افتياتهم ذلك بأن ما رآه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كان داخلاً في باب العقوبة حتى لا يفعل الناس ذلك كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق الرأس، وينفي. وقد ذهب إلى مثل ذلك أيضاً في متعة الحج. ولكن لا شك في أن الأولى والأحرى هو الرجوع إلى ما مضت به السنة وخاصة وأن الناس لم ترتجع بتلك العقوبة بل حدث من جراء ذلك فساد كبير في اللجوء إلى التحليل وهو عقد فاسد وغير شرعي.
وهذا الذي نرجحه هنا أخذاً بالكتاب والسنة واتباعاً لمن قال بذلك من السلف والخلف هو الذي عليه العمل الآن في معظم أمصار المسلمين ومن أفاضل مجتهديهم وأهل النظر منهم في الكتاب والسنة. والعجب أن الإمام ابن تيمية قد كفره الناس لفتواه هذه وزعموا أنه بذلك قد خالف إجماع المسلمين لزعمهم أن قول الأئمة الأربعة إجماع وهذا غاية في الفساد والجهل لأن اتفاق الأئمة الأربعة على قول واحد لا يعد إجماعاً في الشرع ولا الإصطلاح.
وأظن بعد هذا البيان والإيضاح يتضح أن الحق إن شاء الله فيمن طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد أن هذا يقع طلاقاً واحداً ويلزم بذلك.
متى يحل للرجل إرجاع زوجته وكيف تعتد المطلقة:
قدمنا أن الطلاق يقع صحيحاً إذا أعلنه الرجل لامرأته في بدء طهر لم يمسها فيه أو كانت حاملاً (ويكره الطلاق وقت الحمل) وأنه لا يجوز لرجل أن يطلق امرأته ثلاثاً في وقت واحد وأنه إن فعل ذلك كان آثماً ولزمته طلقة واحدة، والآن نأتي إلى تقرير كيفية إعادة الرجل زوجته إلى عصمته؟ وكذلك كيفية اعتداد المطلقة.
أولاً: يجوز للرجل أن يطلق زوجته بعد عقد النكاح وإن لم يدخل بها وإذا حدث ذلك فلا عدة على المرأة ويصح لها أن تتزوج زوجاً غيره متى تشاء، وإذا أراد الرجل العودة إلى زوجته هذه التي طلقها قبل الدخول فلا بد من عقد جديد ومهر جديد ولكنها تعود إليه وليس له عندها إلا طلاقين اثنين فقط، لأنه بالطلاق الأول يكون قد استنفذ واحدة من رصيده. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً}.
ثانياً: المطلقة بعد الدخول بها يجب أن تعتد في بيت زوجها ولا يجوز لها الخروج منه بنفسها ولا يجوز للرجل إخراجها (وقد قدمنا أدلة ذلك) وتظل زوجة حتى انتهاء عدتها. وللرجل الحق في إرجاعها إلى عصمته طالما كانت في العدة.
ثالثاً: عدة المطلقة تحتسب على النحو التالي:
(أ) المرأة التي تحيض فإن عدتها تحتسب من الطهر الذي أعلن فيه الرجل لها الطلاق وتنتهي العدة بانتهاء ثلاثة أطهار وبذلك ستكون العدة على النحو التالي: طهر ثم حيض، ثم طهر ثم حيض، ثم طهر فإذا انتهى هذا الطهر الثالث وشرعت المرأة في الحيض فقد وقع الطلاق وتم، وأصبحت المرأة بذلك مالكة لشأن نفسها.
(ب) وأما إن كانت المرأة قد بلغت سن اليأس وأصبحت ممن لا يحيض أو كانت صغيرة لم تحض بعد أن كانت لا تحيض لعذر ما غير الحمل فإن عدتها ثلاثة أشهر قمرية.
(ج) وأما إن كانت المرأة حاملاً فعدتها وضع الحمل سواء قل عن ثلاثة أشهر أو زاد.
وقد جاء هذا في كتاب الله. قال تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} (الطلاق:4).
رابعاً: يجب على الرجل عند طلاق زوجته أن يشهد رجلين عدلين، وكذلك يجب عليه الإشهاد أيضاً عند إرجاعها إلى عصمته عملاً بقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} والوجوب الذي نقول به هنا هو الأولى والأحرى وذلك لضبط هذه الأمور وحسم الخلاف فيها. ولا يشترط هذا الإشهاد البدء بالطلاق أو الرجعة بل يجوز حصوله بعد ذلك.
خامساً: تحصل الرجعة بأي قول أو فعل من الرجل يدل على ذلك فقوله: ارجعتك أو راجعتك أو نحو ذلك كل هذا تقع به الرجوع عن الطلاق وكذلك الجماع وهو أعظم الأدلة في هذا الباب، بل واللمس لشهوة والنظر بشهوة، ومعلوم أن المرأة في وقت العدة تكون في بيت الزوج.
سادساً: لا يملك الرجل زوجته إلى عصمته بعد طلاقه لها إلا مرتين فقط فإذا أوقع عليها طلاقاً ثالثاً فعند ذلك تكون قد بانت منه نهائياً، وأصبحت أجنبية عنه ولكنها لا تتزوج رجلاً غيره إلا إذا انتهت عدتها (كما مر في تفصيل العدة) وفي هذه العدة لا تمكث المرأة المطلقة في بيت زوجها ولا نفقة ولا سكنى لها.
آثار عدة الطلاق
قدمنا أن عقد الطلاق لا يقع صحيحاً إلا إذا وقع من الرجل في بدء طهر زوجته، أو في وقت حمل (مع كراهية ذلك) وأنه يجب على المرأة البقاء في منزل الزوجية مدة العدة، وقدمنا تفصيل العدة للحائض والحامل واليائسة، بقي أن نعرف أنه إذا انقضى وقت العدة وبقي الرجل على موقفه من العزم على الطلاق فإن الطلاق يعتبر نافذاً بانقضاء العدة وتصبح المرأة بعد ذلك حكمها حكم الأجنبية بالنسبة للرجل. ولكن ثم أمور معلقة وحقوق رتبها الشارع الحكيم على عقد الطلاق وهذه الحقوق تختلف باختلاف حال المرأة وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: النفقة والسكنى مدة العدة:
وهذا في الحقيقة حق المرأة على زوجها لأنها ما زالت في عصمته، بل ما زالت زوجة له، ويجوز له أن يراجعها في أي وقت شاء، ثم هي ما زالت في بيته لا يجوز له إخراجها. ولذلك فالإنفاق على زوجته وأن يسكنها مدة العدة سواء كانت ثلاثة قروء (كما أسلفنا) أو ثلاثة أشهر أو مدة الحمل التي قد تطول أكثر من ذلك. فإذا انتهت العدة انتهى وجوب النفقة والسكنى.
ثانياً: متعة الطلاق:
فرض الله على الرجال هدية مناسبة لحالتهم المالية يجب على كل منهم أن يعطيها لزوجته إذا أمضى عقد طلاقه من زوجته. ولا تخفى الحكمة من إيجاب هذه الهدية وهو جبر خاطر الزوجة المطلقة، ورأب الصدع الحاصل بالطلاق، وإعطاء هذه الهدية دليل على أن الطلاق كان ضرورة وحلاً وحيداً.. بين رجل وامرأة أرادا أن يعيشا فما استطاعا لسبب ما، وليس نزوة عارضة.
أقول هدية الطلاق التي أوجبها الله على الرجال عند الطلاق جبراناً لخاطر زوجاتهم، ووصلاً نفسياً بعد أن انقطع حبل الحياة المشتركة تشريع إلهي يرشدنا الله تعالى إليه ليعلمنا كيف نتراحم ونتعاطف ونجتمع إذا اجتمعنا في ظل التراحم والتآلف والعدل والإحسان ونفترق إذا افترقنا في ظل العدل والإحسان كذلك. وهذه المتعة (متعة الطلاق) كما أسلفت القول هدية واجبة أوجبها الله في آيتين من كتابه قال تعالى: {لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين}.
وفي هذه الآية يبيح الله لنا الطلاق من الزوجات ولو قبل الدخول بهن وكذلك ولو لم يكن قد سمينا مهراً معيناً، ويوجب علينا لهن متعة مناسبة جبراً لخاطرهن. وقد يقول قائل إن هذه المتعة ليست مطلقة وإنما هي للمطلقة قبل الدخول التي لم يفرض لها مهر فتكون المتعة المناسبة هذه في مقابل نصف المهر المسمى الذي تستحقه المرأة، لأن الله فرض للمطلقة التي لم يدخل بها وقد سمى (عين) الرجل لها مهراً معيناً. أقول فرض الله لمثل هذه المرأة نصف المهر وجوباً كما قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} أي فلهن نصف ما فرضتم، أي ما اتفقتم عليه من مهر أقول قد يقول قائل إن متعة الطلاق المذكور في الآية السالفة هي في مقابل نصف المهر للمطلقة التي قد سمى لها مهر معين. والجواب على هذا الاعتراض من وجوه كثيرة لا يتسع لها المقام هنا، والصحيح إن شاء الله أن هذه المطلقة قبل الدخول التي لم يسم لها مهر أن لها نصف مهر مثيلاتها ولها كذلك المتعة، وكذلك التي سمى لها مهر فلها نصف المهر وجوباً، وكل المهر المسمى استحباباً ثم لها المتعة أيضاً جمعاً بين الآيات. وعلى كل حال لو خالف في هذه الآيات مخالف فإن هناك نصاً عاماً آخر يشمل كل مطلقة سواء قبل الدخول أو بعده، سمى المهر أو لم يسم وهو قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين}.
وهذا يشمل كل مطلقة، ولا يجوز تخصيص هذا إلا بمخصص وليس هناك فيما أعلم مخصصاً في القرآن أو السنة يخصصه.
والشاهد من كل هذا الاستطراد هو أن نعلم علماً يقيناً أن متعة الطلاق (الهدية المناسبة) واجب وفرض فرضه الله تعالى بآية محكمة لكل مطلقة، وقد عرفنا الحكمة والغرض من هذه المتعة ولا يخفى ما فيها من ظلال نفسية وروحية جميلة تبلل الطلاق الذي هو مثار للفتنة، والخلاف والشقاق، وأقول الآن كم من المسلمين في زماننا امتثل هذا الأدب القرآني الواجب؟ بل كم من الجهلة والفسقة من يعمد إلى الزوجة المطلقة فيجردها مما أعطاها، ويهين كرامتها ويخرجها من بيته مهينة مكسورة الجناح ثم يتبجح بعد ذلك بأنه رجل وأن الله قال: {الرجال قوامون على النساء} فيجعل معنى الآية (الرجال ظالمون للنساء) وهذا تلاعب بكلام الله ووضع له في غير مواضعه!!.
ثالثاً: إيفاد الحقوق:
من الحقوق المقررة في الشريعة أيضاً إعطاء المطلقة جميع حقوقها المالية المعلقة في ذمة الرجل سواء كانت مهراً لم يدفعه. أو وعوداً مالية لم يف لها أو هدايا أعطاها إياها وقت الزواج، ولا يجوز للزوج أن يسترد من زوجته المطلقة شيئاً من هذا أصلاً، ولا أن يجحد شيئاً مما وعد به أو التزم وهذا وإن كان من الأمور الفطرية التي جبل الله النفوس الطيبة عليها إلا أنه قد جاء في الشريعة أيضاً ما يوجب ذلك ليكون دليل القرآن مؤيداً لدليل الفطرة قال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} وفي هذه الآية من المعاني والأحكام والإيحاءات علوم كثيرة لا يتسع لها المقام والمهم الآن أن لا يجوز أن يأخذ الرجل من مطلقته شيئاً مما أعطاها (سواء كان مهراً أو غيره فاللفظ عام) ولو كان قنطاراً من ذهب ولو لم يمكث معها غير ساعة واحدة.
أقول إن هذا الآن من اللي واللف والدوران وحجب الحقوق والجري في المحاكم واللهث وراء المحامين طلباً من الرجل في منع حقوق مطلقته ولهثاً من المرأة وراء حقها الضائع أو ما ليس بحق لها.
ولا يعني كل ما أسلفت أن الرجل هو الذي يتأتى منه الظلم مطلقاً وأن المرأة لا مجال عندها للظلم والابتزاز، وكذلك لا يعني أن يكون الرجل وحده هو الكريم المعطاء وأن المرأة لا مجال عندها لتكون عزيزة النفس كريمة.
لمن الحضانة:
قدمنا أنه يترتب على عقد الطلاق آثار أهمها (متعة الطلاق) والنفقة والسكنى مدة العدة، وإنفاذ الحقوق المعلقة للزوجة تأتي إلى الأثر الرابع والأخير للطلاق وهو حضانة الأولاد.. مَنْ مِنَ الزوجين أحق بحضانة أولاده؟ وضمهم إليه، الرجل أو المرأة. ولبيان هذا الموضوع إليك الخطوات الآتية:
أولاً: إذا كانت المرأة حاملاً وقت الطلاق وجب على الرجل الإنفاق عليها حتى تضع. فإذا وضعت كانت المرأة بالخيار بين حضانة ولدها أو دفعه إلى أبيه. وإذا تولت المرأة حضانة ولدها وجب على الرجل أن يكفلها وولدها وأن ينفق عليها النفقة المناسبة لحاله.
والرضاع الكامل يستغرق عامين. وقد نص الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف -لا تكلف نفس إلا وسعها- لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير}.
وفي هذه الآية أوجب الله النفقة على الرجل لأنه هو المولود له، وأوجب نفقة زوجته المرضع على الوارثين إذا مات الرجل وزوجته حامل أو مرضع. وأباح الله للرجل والمرأة أن ينفقا على إرضاع المولود من غير أمه إذا كان هذا برضاها.. وليس للرجل أن يجبر مطلقته على إرضاع ولده ولكن الله نهى المرأة أن تضار زوجها بذلك وخاصة إذا لم يجد مرضعة وحاضنة لابنه مثلاً، أو إذا كان الولد لا يهدأ ولا يسكن إلا لأمه التي ولدته، ونهى الله الرجل أيضاً أن يضار زوجته بوليدها فيعتمد على حنانها الفطري ورحمتها بولدها فيمنعها حقها من النفقة أو ينزع الولد منها – وليس له ذلك بالطبع وهذا معنى قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده}.
ثانياً: إذا أتم الطفل عامين وانفصل عن أمه.. فهنا يأتي دور الحضانة والكفالة وقد شرع لنا الإسلام في ذلك أكمل الطرق وأكثرها تحقيقاً للعدل والرحمة والإحسان فجعل المرأة أحق بكفالة أولادها وضمهم إليها ما لم تتزوج بعد الطلاق، يدل على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عمرو بن العاص) أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أن ينزعه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنت أحق به ما لم تنكحي] (رواه الإمام أحمد والبيهقي والحاكم وصححه).
ثالثاً: ولكن الأولاد إذا كانوا مميزين يستطيعون التفريق بين أهمية البقاء في كنف الأب أو الأم فإنه يجوز تخييرهم في ذلك فإذا أحبوا البقاء مع الأم بقوا وإن استحبوا العيش في كنف أبيه كان لهم ذلك. وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه.
وفي رواية: أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة (أي صار كبيراً ويافعاً يأتيهما بالماء من مكان بعيد) وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [استهما عليه] (أي اجعلا قرعة) فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيدك أيهما شئت] فأخذ بيد أمه فانطلقت به.
وهذا الحديث والذي قبله هما العماد في هذا الباب وخلاصتهما أن الأم أحق بولدها ما لم تتزوج وأحق برضاعته أيضاً، وأنه يجب التخيير إذا وصل الأولاد حد التمييز سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً وبهذا يراعي الإسلام مصلحة الأم أولاً لأنها أشد عناية ورحمة بولدها فطرة وخلقاً، ثم يراعي مصلحة الولد بعد التمييز لأنه يدرك بفطرته أيضاً وبإحساسه المكان الملائم لنشأته في كنف الأم أو كنف الأب. وهذه نهاية العدل والمرحمة وذلك بدلاً من التقسيم التعسفي الذي لا يراعي الفطرة ولا الأولويات.
رابعاً: هذا وثمة أقوال كثيرة واختلافات للفقهاء في هذه المسألة أعرضنا عنها لمخالفتها أولاً الأدلة الصحيحة التي قدمناها ولأنها تنبني على الظن والاجتهاد وعدم الاعتماد على نص في المسألة وإنما عموميات فقط كالقول أن التخيير لا يجوز، أو الأم أحق بالأنثى من أولادها حتى تبلغ سن الزواج وتتزوج، وأن الذكر حتى يصل إلى البلوغ ويستغني بنفسه.
موقف المرأة من الطلاق
قدمنا تفصيلاً كاملاً – بحول الله عن المنهج الشرعي حسب الكتاب والسنة للطلاق، وحيث إن الطلاق يكون من جهة الرجل فقد بينا الموقف الحق للرجل منذ أول خطوة فيه إلى آخر خطوة.
والآن ما موقف المرأة؟.. هل أعطت الشريعة المرأة مجالاً للإحسان عندما يقع عليها الطلاق؟.. وهل يتأتى من المرأة إضرار الزوج والتضييق عليه مع أن الطلاق بيده؟.
والحق أن الشريعة لم تهب للمرأة فقط أن تكون في جانب العدل بل ندبتها أن تكون أيضاً في مجال الإحسان، وكذلك حذر الله سبحانه وتعالى المرأة أن تضار زوجها المطلق وهي تستطيع هذا في بعض المواقف. ولنبدأ بجوانب الإحسان:
أولاً: المطلقة قبل الدخول بها فرض الله لها نصف المهر الذي سماه (عينه) زوجها لها، وجعله الله جبراً لخاطرها، وتعويضاً لها عن فقدها للزوج الذي أراد الارتباط بها وحالت الحوائل دون ذلك، ونصف المهر هذا هو العدل وهو الوسط الذي ليس بظلم للرجل ولا بظلم للمرأة ولكن الله دعا المرأة للإحسان إن شاءت وهي تتنازل عن نصف المهر هذا قائلة: رجل لم يتزوجني ولم يعش معي كيف أستحل جزءاً من ماله؟ ودعا الله سبحانه وتعالى الرجل أيضاً في هذا المقام إلى الإحسان وذلك بأن يتنازل للمرأة التي طلقها قبل الدخول عن النصف الآخر من المهر جبراناً لخاطرها، وحمداً لله أن جعل عقدة النكاح بيده وجعل فعل الرجل هذا هو الأقرب للتقوى، قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، وأن تعفوا أقرب للتقوى، ولا تنسوا الفضل بينكم}. ومثل هذا التشريع على هذا النحو لا يقدر عليه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى.
ثانياً: فرض الله سبحانه وتعالى المهر حقاً للزوجة على زوجها ولم يحدد الله سبحانه وتعالى حداً لأقله أو أكثره وجعل ذلك شرطاً في صحة عقد النكاح (وقد مر بنا هذا) ولكنه مع ذلك جعل للمرأة التنازل عن بعض المهر أو كله لزوجها كما قال تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً}، وهذا جانب من الإحسان ومعلوم أن تنازل المرأة لزوجها عن بعض المهر أو عن كله قد يكون لاستمرار حياتهما. وتوثيق صلاتهما ولكن ليس هناك ما يمنع أيضاً أن يكون التنازل مع الطلاق، مع العلم أن الرجل مفروض عليه أن لا يأخذ مما أعطى زوجته شيئاً إذا أراد طلاقها كما قال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً}. ومع ذلك فليس هناك ما يمنع أن يتسامح المرء في بعض حقه للآخر، ولا سيما إذا كان في أخذ هذا الحق ضرر بالغ بالطرف الآخر.
وأما الأحوال والمواقف التي من الممكن أن تكون بها المرأة ظالمة فكثيرة منها:
أولاً: أن تخرج من بيت زوجها بمجرد سماعها لفظ الطلاق منه أو عزمه على ذلك (وقد فصلنا هذا فيما مضى).
ثانياً: أن تطالب بالنفقة اللازمة لها في العدة أو عند القيام بالحضانة بأكثر مما يحتمله الرجل كما قال تعالى: {فلينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها}.
ثالثاً: أن تمتنع عن إرضاع طفلها وحضانته رغبة في الزواج بعد الطلاق وإعناناً للرجل، وإرهاقاً له، ولربما لم يقبل الطفل الرضاع إلا من ثدي أمه، فيتعذب الرجل بابنه، وقد تطغى شهوة الانتقام عند المرأة على عاطفة الأمومة فتفعل ذلك أو يدفعها أهلها إلى ذلك وهذا من الإضرار كما قال تعالى: {لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده}.
رابعاً: أن تمنع المطلقة زوجها السابق وأبا أولادها من رؤيتهم إذا آل إليها أمر الأولاد وحضانتهم وفي هذا مضارة وإضرار بالأب، وكم من امرأة طلقت فعلت ذلك. حجبت الأولاد عن أبيهم بل غرست كرهه في نفوسهم انتقاماً لنفسها، وليس بخاف أن بعض الرجال يفعل ذلك أيضاً وكل هذا من الأضرار التي جاءت الشريعة بالتحذير والتنفير منه.
خامساً: أن تمتنع المرأة من العودة إلى زوجها الذي طلقها وتركها حتى انقضت عدتها وقد يعود إلى رشده بعد ذلك فيتقدم لخطبتها فتمتنع، وتأبى بعد ذلك إن ملكت نفسها، وهذا إضرار أيضاً وذلك أن عودة المطلقة إلى زوجها الذي عرفته وعرفها خير لها من الزواج برجل آخر. ولذلك حث الله أولياء المرأة على ردها لزوجها الذي طلقها إذا أراد العودة إليها ثانية بعد نفاذ الطلاق كما قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
وبعد فلا نعلم شريعة في شأن الطلاق أرقى ولا أطهر ولا أنظف ولا أعدل من ذلك.
ثالثاً: الفراق أو الخلع
عرضنا في الصفحات السابقة، صورتين من صور الفرقة بين الزوجين وهما الوفاة، والطلاق. وقد فصلنا قضية الطلاق بحمد الله تفصيلاً كاملاً من حيث الحكمة والمشروعية، والخطوات الشرعية والآثار المترتبة على الطلاق، والحقوق والواجبات على كلا الزوجين بعد الطلاق. وقد علمنا أن الطلاق إرادة وتوجه من قبل الرجل نحو إنهاء عقد الزواج. وأن آثار هذه الفرقة تتقبلها المرأة وتلزم بها سواء كانت موافقة لرغبة الرجل في ذلك أو مخالفة له. والآن يسأل سائل: ألم يجعل الإسلام أيضاً للمرأة حقاً في ترك زوجها إن هي أرادت ذلك أو كرهت الحياة معه؟ أم أنه مكتوب على المرأة ومفروض عليها أن تعيش مع زوجها مكرهة ولو كرهته وسئمت الحياة معه؟ والجواب أن الإسلام قد أعطى المرأة هذا الحق ولكن ذلك بأصول وضوابط وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: ثبوت مشروعية ذلك: يثبت ذلك ما رواه البخاري، والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم: [أتردين عليه حديقته]، قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اقبل الحديقة وطلقها تطليقة]. وهذا دليل أنه يجوز للمرأة أن تطلب إنهاء عقد الزواج مع زوجها الذي لا بأس بخلقه ولا دينه ولا حرمان لها معه من حق شرعي كالسكن والنفقة والاستمتاع ولكنها أبغضته لسبب ما.
ثانياً: يجوز للرجل في هذه الحالة أن يسترد من المرأة ما أعطاها من صداق وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي ذكرت في الحديث الآنف وهي جميلة بنت سلول: [أتردين عليه حديقته] وكانت هذه الحديقة هي الصداق الذي أصدقها إياه قيس بن شماس.. ولقوله تعالى أيضاً: {لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.
فقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي لا جناح على المرأة أن تدفع لزوجها فداء لنفسها ولا جناح على الرجل أن يقبل ذلك ما دام أنها لن تقيم حدود الله معه وذلك بطاعتها لزوجها وعيشها معه وقيامها بحقه. فكان إخلالها بمستلزمات عقد النكاح أصبح مبرراً لوجوب تنازلها عن واجبات الرجل نحوها فيكون عليها مثل مالها.
ثالثاً: ما تدفعه المرأة لزوجها لتفتدي به فيطلق سراحها يجب أن يكون هو المهر لا زيادة، وذلك ثابت بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الدارقطني بإسناد صحيح عن أبي الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة قيس: [أتردين عليه حديقته التي أعطاك]. قالت: نعم. وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أما الزيادة فلا ولكن حديقته؟] قالت: نعم. وقد ذهب بعض الصحابة وكثير من الفقهاء أنه يجوز له أن يأخذ منها أكثر من ذلك وأنه لا حد لهذه الكثرة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به}. و {ما} هنا علامة لأنها اسم موصول بمعنى الذي، ومعلوم أن أسماء الموصول من صيغ العموم فتعم المهر وغيره. وهذا الفهم غير صحيح لأمرين:
أولاً: تخصيص هذا العموم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، [أما الزيادة فلا]. وثانياً: أن هذا حكم ظالم فالمرأة التي اختارت الزواج بالرجل ثم تبين لها أنها لا تستطيع العيش معه فالعدل أن تعطيه ما أصدقها، وبذلك تبرأ ذمتها، والظلم أن يطالبها بأكثر من ذلك وكأنها قد فعلت جريمة.
رابعاً: هل يجبر الرجل على فراق زوجته؟.
والصحيح أيضاً أن المرأة إذا لم تستطع العيش مع زجها، وأن كراهتها له مانعة لها من القيام بحقه فإن الرجل يجبر على فراقها ولو كان محباً لها شغوفاً بها فضلاً عن أن يكون مريداً للإضرار بها، أو ممسكاً لها إذلالاً وعضلاً والدليل على ذلك أمر الرسول لقيس بن شماس بفراق زوجته وحكمته بذلك فحتى قبل أن يراه ويسمع منه.. فقول الرسول له: [خذ الحديقة وطلقها تطليقة] دليل على الإلزام بذلك وأمر الرسول يقتضي الوجوب ومن هذا نعلم أن ما ذهب إليه عامة الفقهاء من وجوب إجبار المرأة على العيش مع زوجها الذي تبغضه باطل لا أساس له وأن نظرة هؤلاء الفقهاء إلى الحياة الزوجية على أنها سكن ونفقة وزوج قادر على الباءة نظرة غير صحيحة وأن هناك ما هو أهم من ذلك وهو التوافق النفسي والروحي. وكذلك الصورة الجميلة التي من الممكن أن تكون المرأة قد وافقت على الزواج ولما تتبين الرجل كما ينبغي وهذه العلة نفسها العلة التي من أجلها فارقت جميلة بنت سلول زوجها فقد نظرت يوماً فوجدت زوجها راجعاً مع جماعة من أصدقائه وهو أقصرهم وأدمهم (أقبحهم) خلقاً فكرهته لذلك. ومع ذلك فرق الرسول بينهما.
باختصار أقول ما ذهب إليه كثير من الفقهاء بعدم اعتبار تلك الأمور الآنفة مبرراً للفراق واعتبار السكن والنفقة والباءة فقط ليس بصحيح بل هو مخالف للفطرة والعقل والواقع.
أيضاً فكم من امرأة كرهت زوجها بعد الزواج وإجبارها على العيش معه هو من الإفساد في الأرض لأن الحياة الزوجية لا تقوم إلا على التوافق والرضا، ولا تقوم مطلقاً على الإجبار والقصر والرجل الذي يحتاج إلى الشرطة لنقل زوجته بالقوة لتعيش معه -في نظري- ليس إنساناً، وكذلك القول بإجبار المرأة على الحياة مع زوجها الذي تمقته وتكرهه ليس قولاً جديراً بالقبول والتقدير. بل هو قول خارج عن دائرة الشرع وإن قال به بعض الفقهاء فإنما هو للتأثر بالبيئة المحيطة ولم يستنبط أحد منهم من كتاب أو سنة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أعطى الرجل حق تقويم المرأة الناشز بالموعظة الحسنة والهجران في المضاجع والضرب فإن كل هذا يأتي في مقام التقويم فقط.
والإجبار، والقهر ليس تقويماً وإنما هو انتقام وفرق هائل بين التقويم والانتقام.
وهذا الذي ذهبنا إليه هو رأي المحققين من العلماء كما قال الشوكاني بعد سياق لأحاديث الخلع (وظاهر أحاديث الباب أن مجرد وجود الشقاق من قبل المرأة كاف في جواز الخلع) وقال الشوكاني أيضاً رداً على ابن حجر العسقلاني الذي قال قوله: (اقبل الحديقة هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب) قال الشوكاني تعقيباً على ذلك: (ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته) أي عن الوجوب وقال أيضاً رداً على الذين لم يميزوا الخلع إلا بأن يقع الشقاق من جانب الرجل أيضاً، ويؤيد عدم اعتبار ذلك من جهة الزوج: (أنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتاً عن كراهته لها عند إعلانها بالكراهة له) أ.هـ.
ولا شك أن الذي ذهب إليه الشوكاني هذا هو مقتضى العدل الذي ذكره الله في حقوق كل من الزوجة حيث قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} فكما كان للرجل الحق أن يطلق زوجته فإن للمرأة أن تفتدي من زوجها إذا لم تستطع أن تقيم حدود الله معه. وقال ابن القيم أيضاً هذا المعنى بعد أن ساق الآية الآنفة: (ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس خالفت النص والإجماع وفي الآية دليل مطلق على جوازه بإذن السلطان وغيره ومنعه طائفة بدون إذنه من الأئمة الأربعة والجمهور على خلافه) أ.هـ (زاد المعاد).
خامساً: إذا تمت المخالعة أو المفارقة أو المفاداة وكل هذه أسماء لشيء واحد وهو إنهاء عقد الزواج من قبل المرأة على النحو السالف فإن هذا يكون طلاقاً بائناً وليس للرجل الحق في أن يعيد زوجته إلى عصمته في عدتها مرة ثانية. ولكن له أن يعود إليها بعقد زواج جديد ومهر جديد – إن هي أرادت ذلك.
سادساً: عقد المختلعة (المفارقة) هذه حيضة واحدة فقط وليس ثلاث حيضات كعدة الطلاق وهذا ثابت في حديث الربيع بنت معوذ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر امرأة اختلعت من زوجها أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها" رواه النسائي.
فسخ عقد النكاح وبطلانه
قدمنا طريقين لإنهاء عقد الزواج: الطريق الأول هو الطلاق، وهو إنهاء عقد الزواج من قبل الرجل والطريق الثاني هو الفراق (الخلع) وهو طلب إنهاء المرأة. الآن نأتي إلى طريق ثالث لإنهاء عقد الزواج وهو الفسخ أو البطلان. وهذا الطريق ليس من قبل الرجل أو المرأة ولكنه يحصل لوجود فساد في عقد النكاح وهذا الفساد إما أن يكون موجوداً من الأصل ولم يتفطن إله وإما أن يطرأ الفساد على العقد. وكذلك يتأتى فساد العقد وبطلانه أيضاً باكتشاف عيوب في أي من الزوجين تفسد أو تلغي آثار الزواج.
وإليك تفصيل هذا الإجمال:
أولاً:
(أ) اكتشاف الزوجين في أحدهما كان محرماً للآخر كأن يكونا قد اجتمعا في الرضاعة على ثدي واحد (أمها أو أمه، أو امرأة أخرى) فإذا اكتشف الزوجان ذلك كان باطلاً لأن العقد على المحارم باطل، وهما معذوران عند الله فيما سلف لجهلهما ولا يعذران بعد ذلك بالاستمرار وبالطبع يترتب على ذلك أن لا يسترد الزوج شيئاً من محرمته التي انفصل عنها كزوج، وأولاده ينسبون إليه.
(ب) أن يكتشف الزوجان أن نكاحهما كان نكاحاً باطلاً لنهي الشرع عنه كأن يكون نكاح تحليل أو نكاح متعة وقد قدمنا أدلة فساد هذه الأنكحة سابقاً. فإذا اكتشف الزوجان ذلك كان لهما الاستمرار بعقد جديد في نكاح المتعة والتحليل وأما نكاح الشغار ففيه للعلماء خلاف معروف.
(ج) أن تكون الزوجة قد زوجها وليها (أبوها أو غيره ممن تصح منه الولاية) وهي صغيرة لم تبلغ ومثل هذه لا يعتد بموافقتها في عقد النكاح وحيث أن التراضي من شروط العقد كما مر بك فإن لهذه الزوجة إذا بلغت أن تطلب فسخ عقد النكاح لأنها وقت العقد كانت صغيرة وقد زوجت بغير إرادتها أو أن إرادتها في ذلك الوقت لا يعتد بها. ويلحق في هذا الشأن ما لو كانت الفتاة قد أجبرت على الزواج بغير رضاها فإن لها فسخ عقد النكاح، ولها أن توافق على دوامه إن شاءت.
وهذه الأمور التي قدمناها آنفاً كلها من باب واحد لأن العقد فيها جميعاً باطلاً أو فاسداً من أساسه ولكنه لما وقع بجهل كان هذا عذراً فإذا ارتفعت الجهالة وجب فسخ عقد النكاح والتفريق بين الزوجين إلا فيما يمكن استئنافه كما قدمنا.
ثانياً: القسم الثاني مما يوجب الفسخ هو اكتشاف عيب مخفي جحده أحد الزوجين أو أولياؤهما عند العقد.. وقد اختلف فقهاء الإسلام في العيوب الشرعية التي توجب الفسخ في الزوجين وما يجب أن يصار إليه ولا يختلف فيه هو الجنون والمرض (الساري) وكون الرجل ليس ذكراً بمفهوم الذكورة أي عنّيناً، وكون الأنثى ليس أنثى بمفهوم الأنوثة أي فيها ما يمنع الاجتماع، وثمة عيوب أخرى فيها مجال للاختلاف كنتن الفم والمخارج. والحق أن مثل هذا فيه نظر في فسخ عقد النكاح به.
ثالثاً: طروء ما يوجب الفسخ:
القسم الثالث مما يوجب الفسخ هو طروء أمر من شأنه أن يبطل عقد الزواج ونستطيع أن نحصر هذه الأمور فيما يلي:
(أ) الردة: كأن يكفر رجل وتحته امرأة مسلمة وفي هذه الحالة لا بد من فسخ النكاح. أو أن تكفر المرأة وهي تحت زوج مسلم وذلك لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} ومعلوم أن المسلم لا يكفر إلا بأمور محددة شرعاً وتفصيل ذلك في غير هذا الموضع وقد شرحناه بحمد الله في كتاب (الحد الفاصل بين الإيمان والكفر).
(ب) الإعسار بالنفقة: وهو أن يصبح الرجل غير قادر على كفالة زوجته والقيام بالإنفاق عليها ومعلوم أيضاً أن المرأة يحسن بها أن تصبر على عجز الرجل وإعساره في الإنفاق وأنها يحسن بها أيضاً أن تساعده في ذلك إن استطاعت كما أن على الرجل أن يساعد المرأة ويصبر معها وعليها فيما تعجز عنه من حقوقه عليها كالاستمتاع والخدمة لمرضها وكبرها مثلاً فإن الزواج الأصل فيه التراحم والوفاء والمشاركة وليس هو تجارة وبيعاً من كل صوره ونواحيه.. ولكننا نقول هنا إن الإعسار من موجبات الفسخ لأن المرأة قد تصر على هذا وتطالب به وتقول: رجل لا يستطيع إعاشتي والإنفاق علي لا أريده زوجاً وإجبارها في مثل هذه الحالة ظلم لها ولو صبرت وأعانت كان ذلك إحساناً منها ومعلوم أن الإجبار على الإحسان والفضل ظلم. لأن الإحسان والفضل الأمثل فيه الاختيار والأريحية والدافع الذاتي.
(ج) الأمر الثالث الذي يوجب الفسخ هو اتهام الرجل زوجته بالزنا إن هذا الأمر له تفصيلاته ومشكلاته فنرجؤه إلى الفصل الآتي.
اللعان
اتهام الرجل زوجته بالزنا
الصورة الثانية لإنهاء عقد الزواج بسبب طروء ما يفسد عقد النكاح هو اتهام الرجل زوجته بالزنا فكيف يتم ذلك؟ وما الخطوات الشرعية التي يجب اتباعها إذا حدث مثل هذا ونستطيع بحول الله بيان هذا الأمر في النقاط التالية:
أولاً: عفة الزوجة وحصانتها وكونها خالصة للرجل حق شرعي يوجبه عقد الزواج فضلاً على أنه واجب شرعي على كل مكلف في الشريعة الإسلامية سواء كان ذكراً أم أنثى وهو حق للزوج على زوجته لأنها فراشه ومن تلدهم على فراشه ينسب إليه ويشاركونه طعامه وشرابه وحياته، وإدخال الزوجة غريباً من حملها على فراش زوجها من أعظم الإثم ثم هو من أعظم هدم المجتمعات وإيجاد الفرقة والبغضاء. إذ كيف نحافظ على شعور الأب نحو أولاده والأخ نحو إخوته والأبناء نحو آبائهم دون نظافة النسل وطهارته؟ ولذلك كان من حق الزوج إلزام زوجته بالعفة وقصرها عليه فقط، وإعلان فسقها وفجورها إن كان متحققاً من ذلك.
ثانياً: من الأمور المشدد عليها في الشريعة الإسلامية اتهام شخص ما بالزنا وقد رتب الله على من فعل ذلك، إما أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون بذلك وإلا جلد ثمانين جلدة وأسقطت شهادته أبداً، ووصم بالفسق كما قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون}.
ولكن لما كان هذا متعذراً أحياناً بالنسبة لزوج يرى زوجته على فجور، ثم هو لا يستطيع أن يصبر على ذلك لأن الأمر يعنيه من ناحية شخصية كما أسلفنا. ولذلك أباح الله للرجل أن يعلن فجور زوجته إذا تحقق من ذلك وأن لا يترتب عليه عقوبة حد القذف إذا لم يستطع إثبات ذلك بشهود أربعة وهذا ما نحن بصدده وهو ما يسمى في الشريعة "بـ اللعان".
ثالثاً: إذا اتهم الرجل زوجته بالزنا ولم يستطع إثبات ذلك بالشهود فإن المرأة تستدعي وتذكر بالله سبحانه وتعالى فإما أن تقر بما ادعاه الزوج وفي هذه الحالة ينفذ عليها حكم الله في الزاني الثيب وهو الرجم، وإما أن ترفض ما ادعاه الرجل من اتهامها.
رابعاً: إذا لم يكن مع الرجل شهود يثبتون اتهامه فإن دعواه على زوجته لا تقبل إلا إذا حلف بالله أربع مرات أنه صادق فيما رمى به زوجته من الزنا، ويحلف بالله يميناً خامساً أن لعنة الله عليه إن كان كاذباً في دعواه. وأما المرأة فإما أن تقر كما أسلفنا فينفذ فيها الحد وإما أن ترفض الدعوى وفي هذه الحالة لا يخلي سبيلها إلا بأن تقسم أربعة أقسام بالله أنه كاذب فيما رماها به من الزنا، وتحلف يميناً خامساً أن غضب الله عليها إن كان صادقاً فيما قال، وقد اشتملت الآية التالية على هذه الأحكام حيث يقول الله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين}.
خامساً: لا شك إذا انتهى الأمر على هذا النحو أن أحد الزوجين كاذب فإما أن يكون الرجل مدعياً كاذباً أو أن تكون المرأة جاحدة كاذبة ومع ذلك فإن الحكم في الإسلام يمضي بمقتضى الظاهر ولم يؤمر الحاكم في الإسلام أن يفتش البيوت ويشق الصدور ويعمد إلى وسائل الاعتراف لتقرير أحد الزوجين إذ كل ذلك من الفساد في الأرض، ولكن إذا وقع اللعان هذا وأكذب كل زوج صاحبه وأصر على موقفه فإن الحياة بينهما تصبح مستحيلة ولذلك يفرق بينهما فرقة أبدية لا رجعة فيها ولا بعقد جديد أو مهر جديد فإن كان الرجل كاذباً على هذا النحو فليس جديراً بأن تعيش معه، وإن كانت المرأة كاذبة فليست جديرة بأن يضمها بيت هذا الزوج ثانية.
سادساً: لا يحل ولا يجوز أن يسترد الرجل شيئاً مما أعطاه لزوجته لا مهراً ولا غيره لأنه إن كان كاذباً فلا يحل له، وإن كان صادقاً فقد استمتع من الزوجة واستحل منها سابقاً ما هو جزاء المهر، وما أعطاه.
والدليل على ذلك حديث ابن عمر في البخاري ومسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: [حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها]، قال (أي الزوج): يا رسول الله مالي؟ قال: [لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها].
سابعاً: ليس للمرأة التي يلاعنها زوجها نفقة ولا سكنى وإذا وضعت حملها -إن كانت حاملاً- فالولد لها ولا ينسب للزوج الملاعن ويدل لذلك حديث ابن عباس الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين هلال بن أمية وامرأته وفرق بينهما وقضى أن لا يدعي ولدها لأب ولا يرمي ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد.
وفي هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً من أحكام اللعان تتبدى عظمة تشريع الإسلام ونظافته وقيامه على حفظ الحقوق، وعدم تفتيش السرائر، وتوزيع الحقوق والواجبات بالعدل. والمحافظات على نظم الاجتماع ومكارم الأخلاق. وما ضلت البشرية إلا بالخروج على هذه القيم والتعاليم.