حشرة السيكادا
حشرات مزعجة ولكن غير مؤذية تخرج من التراب كل 17 سنة في الولايات المتحدة
ستغزو الملايين من حشرة "السيكادا" الساحل الشرقي للولايات المتحدة في الاسابيع القليلة المقبلة فتحدث
ضجيجا هائلا ورعبا شديدا بين السكان الذين يعرفون ان هذا الغزو بات وشيكا لكنهم عاجزون تماما عن وقفه
ومن لا يقدر منهم على تحمل ما سيحدثه ذلك من ازعاج ومعاناة سيضطر للنزوج الى الغرب.
تقول عالمة متخصصة في علم الاحياء في جامعة كونيتيكت الاميركية ان هناك نحو ثلاثة آلاف فصيلة من حشرة
"السيكادا" (ويسميها بعضهم "زيز الحصاد") في العالم، ولكل فصيلة صوت مميز. ومعظم هذه الفصائل
تعيش فوق سطح الارض فتنمو وتتزاوج وتموت بعد فترة كغيرها من الحشرات.
الا ان فصيلة واحدة تشذ عن هذه القاعدة وتعرف
"بالسيكادا الدورية" Periodical Cicada
وهذه الحشرة الشبيهة بالجنادب تعيش 17 سنة في التراب تتغذى بعصارة جذور الشجر ولا تخرج الى سطح الارض
إلا بعد أن تبلغ تماماً وتصبح جاهزة للتزاوج. وتعرف علمياً بـ "الحضنة اكس" Brood X
وعند خروجها من التراب تتخلى عن جلدها وينبت لها جناحان لتطير
ولا يعرف احد بالضبط لماذا تلتزم نظام السنوات الـ17 الدوري هذا
وتبدأ هذه الحشرة دورتها الحياتية ببويضات تزرعها امهاتها البالغات (التي تموت فورا بعد ذلك) داخل شقوق
في اغصان الشجر. وبعد ان تفقس البويضات تسقط الى الارض في شكل ديدان طول الواحدة منها بضعة ميلليمترات
فتخترق التراب وتطمر نفسها على عمق بضع بوصات تحت سطح الارض بكثافة خمسين دودة تقريبا في القدم المربعة
ثم تمضي الديدان السنوات الـ17 اللاحقة داخل التراب حيث تتغذى بعصارة جذور الاشجار
حتى تبلغ مرحلة البلوغ التام
يبدأ تاريخ "الحضنة اكس" عام 1715 حين تم تسجيله للمرة الاولى. ومنذ ذلك التاريخ تظهر اجيال جديدة منها
كل 17 سنة بدقة كالساعة. وآخر مرة ظهرت فيها عندما كانت مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا سابقا
تدير حملة الانتخابات العامة الثالثة في عهدها، وكان رونالد ريغان، رئيس الولايات المتحدة حينذاك يفاوض ميخائيل
غورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفياتي السابق، حول معاهدات الاسلحة النووية. والمرة السابقة لذلك حدثت خلال
حرب فيتنام. والآن تستعد جحافل جديدة من هذه الحشرة الصغيرة التي تشبه
"النملة الطنانة" Bumblebee بعينيها الحمراوين وقوائمها الصفراء، للخروج من تحت التراب
ويتهيأ سكان منطقة واشنطن، حيث تعشش "السيكادا الدورية" لمواجهة فوضى ومعاناة لا مفر منهما
الا بالنزوح عن المنطقة
وهذه الحشرات السوداء اللون قد لا تبدو جميلة في نظرنا لكنها في منتهى الجاذبية بالنسبة الى الذكور في الحضنة
ولاستمالة الاناث تكمن الذكور في الاشجار في شكل تجمعات كالعناقيد تسمى
"مراكز التغريد" Chorusing Centres فتطلق اصواتا تشير الى الرغبة في التزاوج
فاذا كانت الانثى راغبة تطلق صوتا ذا نغمة معينة فتهجم الذكور في شكل جنوني. وتحدث هذه الهجمة ازيزا هائلا
قد يحجب ضجيج السيارات على الطرق وحتى ازيز الطائرات واصوات الموسيقى الصاخبة. غير ان ما تسببه هذه
الضوضاء لا يتعدى الازعاج لأن هذه الحشرات لا تؤذي البشر اطلاقا اذ لا تعض ولا تلدغ ولا تنقل امراضا
وبما ان البالغة منها لا تقتات بالمرة فهي لا تؤذي المزروعات والنباتات كبعض الحشرات الاخرى. غير ان الخطر الوحيد
الذي تشكله "السيكادا" يتناول الجهاز الهضمي للكلاب والقطط التي تجد الكميات الهائلة من هذه الحشرات
نعمة من السماء فتزدرد الآلاف منها، ولان جسد "السيكادا" بالغ القساوة يمكنه ان يحدث عسر هضم شديد
ا اذا ما التهم بكميات كبيرة. وهذه الحشرة هي في الواقع طريدة من السهل جدا اقتناصها اذ لا تجيد الطيران
بل تترنح في الهواء كأنها سكرانة، وتبدو فاشلة تماما في الابتعاد عن الضواري والطيور الجائعة
التي تلتهم اعدادا ضخمة منها
يتبــــــــــــــــــع
كيف تصدر حشرات السيكادا أصواتها
إن أعلى الحشرات المعروفة أصواتا
هي ذكور السيكادا، وتمكِّنها من ذلك
آلية داخلية معقَّدة التركيب بدرجة مذهلة
في أماكن كثيرة من العالم يمكن أن يكون حلول الغسق في أمسيات الأواخر من فصل الربيع مجلبةً للصخب والضجيج
ففي مثل هذا الوقت كل 17 عام تنشق الأرض عن العديد من حشرات السيكادا التي تعد ببضعة آلاف نوع
وتبدأ ذكورها بترديد أغاريدها الجَشّاء التي تكاد تصم الآذان. ومن بين هذه الثلة من فناني مملكة الحشرات تتميز
ذكور نوع واحد من حشرات السيكادا الأسترالية
(هو سيكلوكيلا أسترالازيي Cyclochila australasiae
بكونها صاحبة أعلى صيحات نداء حشرية أمكن قياسها حتى الآن إن لهذا النوع من السيكادا
صيحةً تماثل في قوتها intensity وجهارتها volume صوت انطلاق جهاز تنبيه شخصي فهي تنتقل
بمعدل مئة ديسيبل decibel عبر مجال يبلغ المتر في مداه وبتردد قدره 4.3 كيلوهرتز على أن هذه الذكور
لا تطلق أغاريدها فرادى، بل إن كل ذكر يصاحبه غالبا فريق إنشاد (كَوْرَس) من عشرات وربما مئات الذكور غيره
وهكذا يكون أثر هذا «الإنشاد» الجماعي أشبه بصوت مجموعة من أجهزة التنبيه تملأ حجرة وتعمل في وقت واحد
كيف تستطيع هذه المخلوقات ـ التي لا يزيد طول الواحد منها على ستة سنتيمترات ـ أن تصدر كل هذه
الضوضاء المزعجة؟ لقد ظل هذا سرا إلى وقت قريب.
وعلى الرغم مما يحظى به ظهور هذه الحشرات من اهتمام ـ حيث في
الولايات المتحدة يكون ظهورها الدوري حَدَثًا تهتم به وسائل الإعلام ـ
لم تُدرس بعد الجوانب الصوتية من بيولوجيتها جيدا
ففي عام 1954 قام الباحث <S .W .J. يرنجل> بنشر بحث مبدئي عن عملية إصدار
الأصوات في حشرات السيكاداثم أعقبت ذلك فترة صمت نسبي عن الخوض في هذا المجال.
ولكن في أثناء السنوات السبع الفائتة شرعتُ مع <D. يونگ> (من جامعة ملبورن)
بتوجيه جل اهتمامنا إلى دراسة الجوانب الآلية والصوتية لهذه الحشرات. وباستعمال مسابر دقيقة مكبِّرة
للصوت ـ قمتُ شخصيا بصنعها وتطويرها ـ تمكنّا من وصف بعض جوانب ذلك الجهاز العجيب الذي يُحدث الصوت في حشرة السيكادا الأسترالية (C. australasiae) هذه
جهارة صوت غريبة
حشرات السيكادا هي من مجموعة البق الماص لعصارة النبات، وهي قريبة الصلة بحشرات «المَنّ» وقافزات الأوراق
وأصغر أنواع السيكادا لا يكاد طوله يبلغ نصف البوصة (نحو سنتيمتر واحد)، وأكبرها يبلغ طوله عشرة أضعاف هذا القدر
ولهذا تعتبر حشرات السيكادا ذات حجم كبير بالقياس إلى الحشرات التي تغتذي بعصارة النباتات، ناهيك عن كونها كثيرة
الضوضاء. وتقوم إناثها بوضع بيضها داخل سوق النباتات أو في الأشجار، وبمجرد الخروج من البيض تتساقط اليرقات الصغيرة
على الأرض وتدفن نفسها في التربة بحثا عن جذور نباتية تمتص عصارتها. وهي تبقى تحت التربة طوال عمرها اليرقي الذي
يمكن أن يمتد سنوات كثيرة، قد تبلغ ثلاث عشرة وأطولها سبع عشرة سنة، وهي المدة التي تمضيها يرقات السيكادا الأمريكية
الدورية وعندما تخرج اليرقات من مكمنها تنسلخ وتتحول إلى أفراد بالغة مجنَّحة لا تمتد حياتها لأكثر من أسابيع قليلة
تظل الذكور في أثنائها تعبّر عن «مكنون قلوبها» بهذه «الأغاريد» لتجذب إليها الإناث للتزاوج
(وهي تستطيع أيضا أن تطلق نداءات أخرى مثل صيحات الاحتجاج وحتى صرير غزل هادئ.)
إن السبب في ارتفاع صيحات النداء التي تطلقها هذه الحشرات مازال غير مفهوم تماما. وأحد الاحتمالات هو أن علو الصوت
«يشوش» على أسماع المفترسات فيصعب عليها تحديد مكان الحشرة المستهدفة فريسةً. أو ربما كان السبب هو
أن حشرات السيكادا الأكبر حجما تحتل نطاقا استيطانيا أرحب، مما يجعل رفع الصوت في صيحات النداء ضروريا لإمكان توصيل
هذه الصيحات إلى آذان الإناث التي قد تكون بعيدة الموقع؛ وإن كنا نعلم بالفعل أن إناث حشرات السيكادا ليست ضعيفة السمع
فهي تلتقط بوضوح كافٍ تلك الصيحات التي تقل حدتها إلى الحد الحرج، وهو يقع ما بين ثلاثين وأربعين ديسيبل. وفضلا عن ذلك
فليس من المستبعد أن تكون إناث السيكادا ـ مثل الجداجد قادرة على التمييز بين الذكور على أساس
التباين في مفردات الأغرودة أو النداء كيفا وكمًّا
صوت مُجَسَّم
كيف «تُصدر» الذكور أصواتها القوية تلك؟ إن مفتاح هذا اللغز يكمن في دراسة جوانب آلية إنتاج الصوت كل على حدة. وأول الوسائل
المستخدمة لإتمام هذه العملية يتمثل في مِعْزَفَيْن tymbals مُقَبَّبَيْن، كليهما عضو مرن رنّان شبيه بالطبلة على جانب السطح
السفلي من مقدمة منطقة البطن. ولكل معزف صف من أربع أضلاع محدبة (تشبه الأوتار) تمتد طوليا على سطحه من أعلى
إلى أسفل. وهذه الأضلاع يتصل بعضها ببعض وكذلك بقرص بيضي الشكل في مؤخرة المعزف اتصالا يسمح بالانثناء
ويتصل بكلا القرصين البيضيين عضلة كبيرة متينة يسبب تقبضها تغييرا في درجة تحدب المعزف، وينتج منه نشوء نبضة صوتية
ومن حيث إن هاتين العضلتين تتقبضان بالتناوب وبقوة توازي مئة وعشرين «هرتز» لكل منهما
لذلك فإن قوة تردد الأغرودة التي يصدرها المعزفان تساوي مئتين وأربعين هرتز.
وبسبب السرعة والقوة اللتين تتوالى بهما تقبضات العضلتين، فإنه في أثناء الملّي ثانيات الثلاث الأولى بعد كل عملية تقبّض
تتولد طاقة لإحداث انبعاج ضلعين أو ثلاث في كل معزف على التوالي؛ وينتج من ذلك تحرك القرص البيضي إلى الداخل مرتين
أو ثلاث بالتتابع نفسه. ويكون انطلاق طاقة المرونة المختزنة في أثناء هذه الحركات المتتابعة سببا في إحداث «طقطقة» قصيرة
عالية عند انبعاج كل ضلع على حدة. ومن هذه السلسلة من الطقطقات تتكون سلسلة من الاهتزازات المتتابعة ـ تتابع عربات
القطار ـ بتردد قدره أربعة كيلوهرتز وثلاثة أعشار الكيلوهرتز، وهو تردد أغرودة حشرة السيكادا.
إن كل طقطقة من كل ضلع في كل معزف تولِّد في تجويف بطن الحشرة ضغوطا صوتية يصل ارتفاعها إلى ما يعادل 158 ديسيبل
(وهذا الضغط مكافئ لما يتولد من انفجار عبوة ناسفة على بعد متر واحد). وفي معظم أنواع السيكادا يوجد كيس هوائي يشغل
الجانب الأكبر من التجويف البطني، وفي النوع الأسترالي الذي نتحدث عنه يُقَدَّر حجم هذا الكيس بنحو 1.8 ملّيمتر مكعب
أي إنه يشغل نحو 70% من التجويف البطني: وعلى جانبي منطقة البطن طبلتا أذنين رقيقتان تمتدان عبر السطح السفلي
لمقدمة البطن بالكامل، وتعملان كنافذتين صوتيتين تصلان الكيس الهوائي بالعالم الخارجي.
ومن النبضات الصوتية ذات الضغط العالي والتي يولدها المِعْزَفان وأضلاعهما يتولد في الكيس الهوائي صدى صوتي تجاوبي وبما أن
طبلتي الأذنين أكبر حجما من المعزفين فإنهما يبثان الصوت خارج جسم الحشرة بفاعلية مع تكبيره عشرين ضعف الصوت الصادر عن المعزفين الضئيلين، وبهذا تتمكن الحشرة من بث ندائها على نطاق أبعد بكثير مما كان مقدرا في غياب هاتين الطبلتين
ومن الغريب أن هذا الصوت الذي تبلغ حدته 158 ديسيبل لا يتسبب في انفجار أذنيْ الذكر وجعلهما حطاما. صحيح إن بث الصوت
يتم عبر طبلتيْ الأذنين؛ غير أن الجزء الحساس للصوت مدفون في محفظة منفصلة، وإن كانت متصلة بطبلة الأذن عن طريق قناة
صغيرة. وهذا الانفصال يحمي الذكور من الصمم، ولكننا لسنا على يقين من ذلك
التوزيع الأُرْكِسْترالي للأغرودة
على أن البطن وطبلة الأذن لا يقتصر عملهما على مجرد بثّ الصوت إلى العالم الخارجي؛ بل إنهما أيضا يعملان على تشكيل
نوعية أغرودة التزاوج التي هي أهم شيء بالنسبة إلى الحشرة. فعن طريق تمديد منطقة البطن وفتح وِصادي (غطاءي)
opercula الطبلتين يمكن للحشرة أن تضبط نغمة الرنين على نفس مستوى تردد النبضات الصوتية الصادرة عن المعْزفين
وقدره 4.3 كيلوهرتز، ومن ثم فإن التراكيب البطنية يمكنها أن تزيد من درجة نقاء الأغرودة أو من ارتفاعها. وعلى حدّ التعبير
المستعمل في علم المصطلحات الموسيقية، فإن التراكيب البطنية تولِّد حِملا صوتيا رناناresonant acoustic load بالنسبة
إلى المعْزفيْن، أي إنها تتولى تصحيح جهاز الصوت والعمل على ضبطه وتوازنه.
ويبدو أن هناك آلية مماثلة في أنواع أخرى كثيرة من حشرات السيكادا، وكذلك فقد تم وصف أجهزة مماثلة لإنتاج الصوت
في حشرات أخرى عالية الصوت. ومع ذلك فإن ذكور هذا النوع من السيكادا الأسترالية مازالت ـ فيما نعلم
هي الأكثر ضجيجا، وهذا هو ما يعلمه جيدا المقيمون في سيدني وملبورن
مشكوووووووووووووره