الحمدُ لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فإن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، يُبتلى فيها المؤمن بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والشهوات والشبهات، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، أي: نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم تارة أخرى، فننظر من يشكر ومن يكفر ومن يقنط ومن يصبر.
ومن هذه الابتلاءات التي يصاب بها الناس السحر والعين والمس, وهي ثابتة بالشرع والحس، وقد كثر المتشكون منها في هذه الأزمان، وهذه الأمراض لها أسباب أذكر بعضاً منها:
1- ابتلاء من الله وهذا قد يحصل لبعض الصالحين والصالحات، وقد وقع ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – وهو سيد البشر، كما روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سَحَر النبي – صلى الله عليه وسلم – يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى جاءه الملكان وأخبراه بموضع السحر، فأمر به فدفن[1].
والسحر الذي أصابه – صلى الله عليه وسلم – كان مرضاً من الأمراض عارضاً شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجهٍ ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء فقد أغمي عليه – صلى الله عليه وسلم – في مرضه، ووقع حين انفكت قدمه، وجحش شقّه، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس، فليس ببدع أن يبتلى النبي – صلى الله عليه وسلم – من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلي بالذي رماه فشجه، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد، وغير ذلك فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله[2].
2- المعاصي والذنوب، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79] قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في نفسي ودابتي.
3- الغفلة عن ذكر الله، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]، روى مسلم في صحيحه عن جابر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«إذا دخل الرجل بيته فذكر الله – عز وجل – عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء»[3].
4- الحسد، قال تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54]، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً»[4].
والعائن والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضاً، ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه وربما أصابت عينُه نفسَه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.
وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ﴾ [القلم: 51]: إنه الإصابة بالعين، فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنظر إليه قوم من العائنين، وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجته، وكان طائفة منهم تمر بهم الناقة والبقرة السمينة فَيَعِينُها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر[5].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «العين حق»[6].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم؟ قال: «نعم، فلو كان شيء يسبق القضاء، لسبقته العين»[7].
وروى ابن عدي في الكامل من حديث جابر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن العين لتدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر»[8].
وأرشد النبي – صلى الله عليه وسلم – المؤمن إذا رأى شيئاً أن يبرّك أي يقول: اللهم بارك عليه، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل بن حنيف – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلّا إذا رأيت ما يعجبك برَّكت؟»[9].
ومن أسباب الحفظ والوقاية من السحر أو العين أو غيرها:
أولاً: التوكل على الله فهو أعظم ما تدفع به الآفات وأنفع ما تحصل به المطالب، فمن توكل على الله كفاه أموره كلها، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
ثانياً: امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، فمن حفظ الله في أوامره ونواهيه حفظه الله في دينه ودنياه وأهله وماله، قال تعالى: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«احفظ الله يحفظك»[10].
ثالثاً: كثرة ذكر الله عند دخول المنزل وعند الخروج وفي الصباح والمساء، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك» [11].
رابعاً: تعويذ الصبيان، فقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعوذ الحسن والحسين ويقول:«إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة»[12].
خامساً: أن يتصبح المؤمن بسبع تمرات عجوة، وهو نوع من تمر المدينة، روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«من تصبح سبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر»[13].
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: يرجى أن يعم ذلك جميع أنواع التمر، فإن المعنى موجود فيه[14].
سادساً: المحافظة على صلاة الفجر جماعة مع المسلمين في المساجد، روى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبدالله – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«من صلى الصبح فهو في ذمة الله»[15]، ومن كان في ذمة الله لم يكن للشيطان عليه سبيل.
سابعاً: قراءة سورة البقرة في البيت، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة»[16].
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة»[17]، قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
ثامناً: المحافظة على قراءة المعوذتين في الصباح والمساء، وقد أوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – عقبة بن عامر – رضي الله عنه – بهما وقال له: «تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما»[18]، قال ابن القيم رحمه الله: حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النَّفَس والطعام والشراب واللباس[19].
تاسعاً: الإكثار من التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، في الليل والنهار، وعند نزول أي منزل في البنيان أو الصحراء أو الجو أو البحر، روى مسلم في صحيحه من حديث خولة السلمية رضي الله عنها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره فيه شيء حتى يرتحل منه»[20].
عاشراً: قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي مسعود – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»[21].
الحادي عشر: قراءة آية الكرسي عند النوم، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«من قرأها إذا أوى إلى فراشه، فإنه لا يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح»[22].
الثاني عشر: إمساك الصبيان ساعة الغروب، روى البخاري ومسلم من حديث جابر- رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً»[23].
الثالث عشر: تطهير البيت من الصلبان والتماثيل وصور ذوات الأرواح والكلاب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:«لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة»[24]، وفي رواية «تماثيل»[25]، وتطهيره من آلات اللهو والمعازف فإن الغناء مزمار الشيطان.
قال ابن القيم رحمه الله: ولقد مرَّ بي وقت بمكة سقمت فيه وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها أي الفاتحة آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها عليها مراراً ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع[26]. ا هـ.
ومن السور التي يرقى بها: الفاتحة والمعوذتان وآية الكرسي، ومن الأدعية المأثورة قوله – صلى الله عليه وسلم -:«اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً»[27].
ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم – للمريض: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل باسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»[28][29].
والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________________________
[1] ص 1129 برقم 5766، وصحيح مسلم ص 901 برقم 2189.
[2] بدائع الفوائد (2/ 742).
[3] ص 837 برقم 2024.
[4] ص 1035 برقم 2564.
[5] بدائع الفوائد (2/ 751ـ 752)
[6] ص 1125 برقم 5740، وصحيح مسلم ص 900 برقم 2187.
[7] ( 6/ 438) وسنن الترمذي ص 342 برقم 2059، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[8] الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 408)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 761) برقم 4144.
[9] ( 25/ 356) برقم 15980، وقال محققوه: حديث صحيح .
[10] ص 409 برقم 2516.
[11] ص 629 برقم 3293، وصحيح مسلم ص 1080 برقم 2691.
[12] ص 646 برقم 3371.
[13] ص 1130 برقم 5769، وصحيح مسلم ص 847 برقم 2074.
[14] نقلاً عن كتاب السحر والمس والعين، للشيخ فهد القاضي، ص 9.
[15] ص 358 برقم 657.
[16] جزء من حديث ص 306برقم 780.
[17] جزء من حديث ص 314 برقم 804.
[18] سنن أبي داود ص 176برقم 1463، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود ( 1/ 275) برقم 1299.
[19] بدائع الفوائد ( 2/ 426)، نقلاً عن كتاب بائع دينه للدكتور/ عبدالمحسن القاسم.
[20] ص 1086 برقم 2708.
[21] ص 995 برقم 5009، وصحيح مسلم ص 315 برقم 807.
[22] جزء من حديث ص 433ـ 434 برقم 2311.
[23] ص 63 برقم 2304، صحيح مسلم ص 835 برقم 2024.
[24] ص 620 برقم 3227، وصحيح مسلم ص 872 برقم 2106 واللفظ له.
[25] صحيح مسلم ص 873 برقم 2106.
[26] الطب النبوي ص 301.
[27] صحيح البخاري ص 1125 برقم 5743، وصحيح مسلم ص 902 برقم 2191.
[28] صحيح مسلم ص 905 برقم 2202.
[29] انظر رسالة لطيفة لأخينا الشيخ / فهد القاضي «السحر والمس والعين»، ورسالة د. عبدالمحسن القاسم بعنوان «بائع دينه».