تخطى إلى المحتوى

العقوبات الإلهية وأسباب رفعها 2024

العقوبات الإلهية وأسباب رفعها

الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وبعد:
فمما ابتليت به مجتمعات المسلمين في هذه الأزمان كثرة المعاصي والذنوب، وانتشار المنكرات على اختلاف أنواعها، وهذا نذير شر وهلاك للأمة، وقد تُبتلى بعقوبات في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى عن الأمم السابقة: ﴿ َفَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «يَا مَعْشَرَ المْهَاجِرينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهنَّ وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْم حَتَّى يُعْلِنُوا بهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطًّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلاَّ أُخِذُوا بالسِّنِينَ وَشِدَّةِ المَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أمْوالِهمْ إلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا»[1].

فبيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعضاً من العقوبات التي تصاب بها أمته في آخر الزمان، إذا وقعوا في المحرمات وجاهروا بها.

والذي يتأمل في أحوال الناس في هذه الأيام يجد أن العقوبات قد حصلت بالفعل، فما النكبات المالية التي وقعت وتقع على الدول والأفراد، وانتشار الأمراض الخطيرة في الإنسان والحيوان، وغلاء الأسعار، ونزع البركات، وقلة الأمطـار، والجو الخانق والغبار، والزلازل، والبراكين، والآثار الناتجة عن إشعال الحروب والفتن هنا وهناك، إلا دليل واضح وبرهان ساطع لمن تدبر وعقل، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، فإن سألت عن الدواء النافع والعلاج الناجع، فإليك بعضاً مما دل عليه القرآن والسنة من الأسباب الواقية من هذه الشرور:
أولاً: الإقــلاع عن المعاصي والتوبة الصادقة إلى الله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

قال بعض السلف: «لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طريقها بالمعاصي».

قال الشاعر:

نحنُ ندعُو الإَلهَ في كلِّ كربٍ الونشريس
ثمَّ ننساهُ عِنْدَ كَشْفِ الكروبِ الونشريس

كيفَ نرجُو إجابةً لدعاءٍ الونشريس
قدْ سدَدْنَا طريقَهَا بالذنوبِ الونشريس

قال علي – رضي الله عنه -: «ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة».
وقال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

قال أبو العتاهية:

لَهَوْنا لعمرُ اللهِ حتى تتابَعتْ الونشريس
ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ الونشريس

فيا ليتَ أن اللهَ يغفرُ ما مضَى الونشريس
ويَأذَنُ في توباتِنَا فنتوبُ الونشريس

ثانياً: كثرة الاستغفار، فهو سبب للإمداد بالأمطار والأموال والبنين ورغد العيش، قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10- 12].

قال الفضيل بن عياض: «استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين»، وروى مسلم في صحيحه من حديث الأغر المزني – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَه فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ»[2].

فإذا كان هذا حال سيد الأولين والآخرين، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيكف بنا نحن المذنبين المقصرين؟!.

ثالثاً: البعد عن المال الحـرام، ومن أعظمه الربا الحرام الذي هو حرب على الله ورسوله، قال تعالى: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278- 279].

وللأسف: إن كثيراً من الناس يُودِعون أموالهم في هذه البنوك، ويأخذون عليها ربا يسمونه فوائد، أو يقترضون بزيادة ربوية، أو يشترون ويبيعون بِأسْهُم البنوك الربوية.

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّباً، وَإنَّ اللهَ أَمَرَ المْؤْمِنينَ بمَا أَمَرَ بهِ المْرُْسَلينَ»، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَارَبِّ! يَارَبِّ! وَمَطْعَمُه حَرَامٌ، وَمَشْربُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!»[3].

فبيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن أكل المال الحرام مانع من قبول الدعاء.

رابعاً: الابتعاد عن الشبهات ومنها الأسهم التي تهافت الناس عليها، وهي أشبه ما تكون بالقمار، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْماَلَ: أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟»[4].

قال ابن المبارك: «لأن أرد درهماً واحداً من شبهة أحب إليّ من أن أتصدق بمائة ألف»، وقال عمر: «كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام»، قال بعض أهل العلم: إذا اشتبه عليك شيء هل هو من الحلال أو من الحرام فانظر إلى ثمرته ونتيجته، فإن الخير يأتي بالخير والشر لا ينتج عنه إلا شر.
قال – صلى الله عليه وسلم -: «استَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ المفُتْوُنَ»[5].

خامساً: إخراج الزكاة في وقتها، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام.
روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «بُنِيَ الإْسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلَاةِ، وَإيتاَءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[6].

وما أكثر الذين يمتنعون عن الزكاة أو يتحايلون على عدم إخراجها، وقد جاء في الحديث السابق ذكره قوله – صلى الله عليه وسلم -: «وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا ُمنعُوا الْقَطْرَ منَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا»[7].

قال الشاعر:

وأحسبُ الناسَ لو أَعْطَوا زكاتَهمُ الونشريس
لَمَا رأيت َ بَني الإعدامِ شاكينا الونشريس

وكذلك الصدقة والإنفاق على الفقراء والمساكين والأقارب والمحتاجين، فإن الله يدفع بذلك شروراً عظيمة، قال – صلى الله عليه وسلم -: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفُئ الْخَطيئَةَ كَمَا تُطْفِئُ المْاَءُ النَّارَ»[8].

سادسًا: إخراج القنوات الفضائية التي تنشر الرذائل وتدعو إليها وتحارب الفضائل وتقلل من شأنها، فكم هتكت من أعراض؟، وكم ضُيّعت من صلوات بأسبابها؟!.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللُه عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»[9]، وهذه الرعاية تشتمل الرعاية الكبرى والرعاية الصغرى، وتشمل رعاية الرجل في أهله، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيتَّه»[10]، وعلى هذا فمن مات وقد خلف ببيته شيئاً من صحون الاستقبال، «فإنه قد مات وهو غاش لرعيته وسوف يحرم من الجنة، كما جاء في الحديث، ولهذا نقول: إن أي معصية تترتب على هذا «الدش» الذي ركبه الإنسان قبل موته، فإن عليه وزرها بعد موته، وإن طال الزمـان وكثرت المعاصي»[11].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_______________________________
[1]ص 432 برقم 4019، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (2/370) برقم 3246.
[2]ص 1083، برقم (2702).
[3] ص 391، برقم (1015).
[4] ص 393، برقم (2083).
[5] البخاري في التاريخ (1/144-145) من حديث وابصة، وحسنه الشيخ الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (1/224) برقم 948.
[6] صحيح البخاري ص 25 برقم 8، وصحيح مسلم ص 40 برقم 16.
[7]سبق تخريجه.
[8] جزء من حديث في سنن الترمذي ص 425، برقم 2616، قال الترمذي عنه: حديث حسن صحيح.
[9]صحيح البخاري ص 1364، برقم 715، وصحيح مسلم ص 81، برقم 142، واللفظ له.
[10] صحيح البخاري ص 179، برقم 893، وصحيح مسلم ص 763، برقم 1829.
[11] خطبة للشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بتاريخ 25/3/1417هـ.

    بارك الله فيكى

    ماشاء الله ياأماني الله يجعله في ميزان حسناتك
    والله الواحد بيفرح لما يقرا موضوع صاحبته أهتمت بذكر تخريج الأحاديث وذكر اسم السورة ورقم الآية , ماشاء الله تبارك الله

    بارك الله فيك

    شكـــرًا على المـــرور الجميــــــل

    جزاك الله خيرا

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.