الحمدُ لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فإن من الصفات الذميمة التي نهى الله ورسوله عنها الغرور، قال الراغب: الغَرور هو كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وغير ذلك[1]، وقال الكفوي: كل من غر شيئاً فهو غرور بالفتح، والغرور بالضم الباطل[2]، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
وقد حذر سبحانه من الغرور فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: 5]، أي: لا يغرنكم الشيطان فيقول لكم: إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم أو رئاستكم وغناكم أو سعة رحمته لكم، فتسرعوا في المعاصي، وأخبر سبحانه أن الغرور من عمل الشيطان، فقال: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً﴾ [الإسراء: 64].
قال ابن القيم رحمه الله: فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا لذتك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول، ستكون لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها، والفرق بين وعده وتمنيته أنه يعد الباطل ويمنّي المحال، والنفس المهينة التي لا قدر لها تغتذي بوعده وتمنيته، كما قال القائل:
منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا [3]
قال حسان بن ثابت:
دلاهم[4] بغرور ثم أسلمهم
إن الخبيث لمن والاه غرار
وقال إني لكم جار فأوردهم
شر الموارد فيه الخزي والعار
والغرور على أقسام:
القسم الأول: غرور الكفار فمنهم من غرّته الحياة الدنيا بشهواتها وملذاتها، قال تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأنعام: 70]، وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة، فالدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فإِذَن الدنيا خير منها ولا بد من إتيانها، وقالوا: اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا نترك اليقين بالشك، ويرد عليهم بقوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96]، وبقوله: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ [الضحى: 4].
القسم الثاني: غرور العصاة من المؤمنين بقولهم: إن الله كريم وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء، و ظنِّهم أن هذا هو الرجاء المحمود في الدِّين، وهذا جهل بالفرق بين الرجاء والغرة، وقد قيل للحسن: قوم يقولون: نرجو الله، ويضيعون العمل! فقال: هيهات.. هيهات، تلك أمانيهم يترجحون[5] فيها، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه.اهـ.
وقد بين الله الرجاء المحمود فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218].
القسم الثالث: «غرور طوائف لهم طاعات ومعاصٍ، إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يتوقعون المغفرة، ويظنون أنهم بذلك تترجح كفة حسناتهم، مع أن ما في كفة السيئات أكثر، وهذا غاية الجهل؛ فترى الواحد يتصدق بدراهم من الحلال والحرام، وما يأكله من أموال المسلمين أضعاف ذلك، ويظن أن إنفاق عشرة في الصدقة يكفر عنه مائة من مشبوه المال، وذلك غاية في الجهل والاغترار»[6]، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً»[7]، وروى البخاري في صحيحه من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة»[8]؛ قال عبدالله بن المبارك: «لأن أرد درهماً واحداً من شبهة، أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف».
وقد أخبر سبحانه أن الغرور من شأن الظالمين والكفار، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً﴾ [فاطر: 40].
فمن الناس من إذا أعطي مالاً أو منصباً أو جاهاً، ظن أن هذا دليل على إكرام الله له ورضاه عنه، وأن هذا المنصب أو المال إنما حصل عليه باجتهاده وتعبه، وهذا يشبه قارون عندما قال عن ماله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا﴾ [الفجر: 15 – 16] أي: ليس الأمر كذلك، وآخرون إذا أُعطي أحدهم نصيباً من العلم الشرعي أو الدعوة أو العبادة اغترَّ بذلك، وأعجب بعمله، وترفعت نفسه عن الآخرين، بل إن بعضهم يرى أن إخوانه ينبغي أن يخدموه ويوقروه؛ تقديراً لعلمه أو لنشاطه في الدعوة، أو لعبادته، وهذا هو الغرور.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبان قال: أتيت عثمان بن عفان – رضي الله عنهم – بطهورٍ وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء ثم قال: «من توضأ مثل هذا الوضوء، ثم أتى المسجد، فركع ركعتين، ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه»، قال: وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تغتروا»[9].
قال الزهري: «من استطاع ألا يغتر فلا يغتر، ولما حضرت عبدالعزيز بن مروان الوفاة وكان والياً على مصر قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال: مالي كثير وما أخلف من الدنيا إلا هذا، ثم ولى ظهره وبكى، وقال: أفٍ لك من دار! إن كان كثيرك لقليل! وإن كان قليلك لكثير! وإن كنا منك لفي غرور»[10].
وبالجملة فالناس على صنفين:
الأول: غرور أهل الدنيا بدنياهم حيث تلهيهم أموالها ومناصبها وزينتها وزخارفها، حتى يدركهم الموت وهم غافلون، قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: 1- 8].
الثاني: غرور أهل العبادة والطاعة، وسببه إعجابهم بأعمالهم، فالواجب على العبد أن يحمد الله على توفيقه، وأن يخلص له وأن يصدق معه، وأن يعلم أن المنة لله وحده، قال تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17].
والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________________________
[1] المفردات للراغب ص359.
[2] الكليات ص663.
[3] إغاثة اللهفان (1/107).
[4] قال القرطبي: يقال أدلى دلوه: أرسلها، ودلاها: أخرجها، وقيل دلاهم: دللهم من الدالة وهي الجرأة، أي: جرأهم. الجامع لأحكام القرآن (7/116).
[5] هكذا في الأصل، ولعل الصواب يترددون.
[6] إحياء علوم الدين (3/376-368) بتصرف.
[7] قطعة من حديث في صحيح مسلم ص 391، برقم 1015.
[8] ص 596، برقم 3118.
[9] ص 1235، برقم 6433، وصحيح مسلم ص121، برقم 232.
[10] الدر المنثور (4/193).