وعلى هذا السَّنَن القرآني جاء قوله تعالى: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} (الرعد:31)، فقد ذكر المفسرون بخصوص هذه الآية، أن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح؛ فإنها أرض ضيقة، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن، وفساد رأي الكفار، حيث لم يقنعوا به، وأصروا على تعنتهم وطلبهم، ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية، من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد.
وها هنا قولان في المراد من هذه الآية الكريمة:
أحدهما : أن الكلام موصول بما قبله، وجواب (لو) مقدم، وهو قوله سبحانه في الآية السابقة لهذه الآية: {وهم يكفرون بالرحمن} (الرعد:30)، أي: أنهم يكفرون بالله، ولو سير لهم الجبال بهذا القرآن. قالوا: هو من المؤخر الذي معناه التقديم؛ وذلك أن الكلام على معنى: ولو أن هذا القرآن سُيِّرت به الجبال، أو قُطِّعت به الأرض، أو كُلِّم به الموتى لكفروا بالرحمن. والتقديم والتأخير أسلوب معهود في كلام العرب، والقرآن نزل على وفق لغتهم.
ثانيهما : أن الكلام مبتدأ، ومنقطع عما قبله، وجواب (لو) محذوف، قالوا: وكثيراً ما تحذف العرب جواب (لو)، إذا دل عليه سياق الكلام، ومنه قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفساً
أي: لهان عليَّ ذلك.
ويكون المعنى على هذا، كما قال ابن كثير: لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تُقطَّع به الأرض وتنشق، أو تُكَلَّم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به جاحدون له.
وقال ابن عاشور في المراد من الآية: لو أن كتاباً من الكتب السالفة، اشتمل على أكثر من الهداية، فكانت مصادر لإيجاد العجائب، لكان هذا القرآن كذلك، ولكن لم يكن قرآن كذلك، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك؛ إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية.
فيكون حاصل معنى الآية: أنه لو كان بالإمكان تسيير الجبال، وتقطيع الأرض وتكسيرها، وتكليم الموتى بكتاب ما، فلن يكون هذا الكتاب التوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، بل يكون القرآن. وهكذا يوجه الله سبحانه من خلال هذه الآية الأنظار إلى القرآن الكريم.
وقد ذكر ابن عاشور أن مجيء الآية بهذا الأسلوب، يفيد معنى تعريضيًّا بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم؛ إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله، والحال لو أن قرآناً أمر الجبال أن تسير، والأرض أن تتقطع، والموتى أن تتكلم، لكان هذا القرآن بالغاً ذلك، ولكن ذلك ليس من شأن الكتب.
ثم فَصَلَ سبحانه في الأمر فصلاً نهائياً، وقرر أن الأمر بداية ونهاية هو إليه سبحانه، وأن الآيات لن تغني عن أمره سبحانه شيئاً، { بل لله الأمر جميعا}. قال الطبري: الأمر كله إليه سبحانه، يهدى من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له، ويضل من يشاء فيخذله.
وقال الرازي: يعني إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وليس لأحد أن يتحكم عليه في أفعاله وأحكامه.
وقال القرطبي: هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله.
وقال ابن كثير: مرجع الأمور كلها إلى الله عز وجل، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل فلا هادي له، ومن يهد الله فلا مضل له.
وقال الشوكاني: لو أن قرآناً فُعل به ذلك، لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل، بل فُعل ما عليه الشأن الآن، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإذا لم يشأ أن يؤمنوا، لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات، فالإضراب (بل) متوجه إلى ما يؤدي إليه كون الأمر لله سبحانه، ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته.
وقال ابن عاشور: أي ليس ذلك من شأن الكتب، بل لله أمر كل مُحْدَث، فهو الذي أنزل الكتاب، وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند سؤالكم. فأمر الله نبيه بأن يقول هذا الكلام؛ إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم؛ لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم؛ تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا، هل كان في الكتب السابقة قرآن يتأتى به مثل ما سألوه.
وهكذا، فإن قوله سبحانه: { بل لله الأمر جميعا} يوجه الأفكار المنحرفة، ويُعلن ويحدد من يجب أن يُسأل، ومن ينبغي أن يُطلب، وأن جميع القوى المادية والمعنوية وكل وسائل التأثير بيده سبحانه وتعالى. وأنه متى ما شاء سبحانه يستطيع أن يفعل ويحقق كل هذه الأمور المشار إليها. وأنه يستطيع هداية القلوب والوصول بها إلى شاطئ الأمان والاطمئنان، حتى دون إظهار المعجزات والأمور الخارقة. وأنه لا يوجد شيء صعب بالنسبة إليه سبحانه، فهو الواحد القهار، الكبير المتعال، فلو شاء لسير الجبال، ولو شاء لدك الأرض وقطعها، ولو شاء لجعل الموتى يتكلمون.
فالآية الكريمة تفيد: أن تأثير جميع هذه المعجزات -إن حصلت- لا يمكن قياسه بالتأثير الذي يحدثه القرآن في القلوب؛ لذا فإن هذه الأمور وأمثالها تبقى شيئاً ضئيلاً بالنسبة إلى الثورة العالمية الشاملة التي يحدثها القرآن. وأن البحث والتنقيب والتمحيص والتدقيق عن سبب لهذه الحوادث والمعجزات التي تبدو أمام الأنظار خارقة وعجيبة، يدل على أن القرآن هو هذا السبب. هذا إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية الأسباب العامة. ولكن الغاية من نزول القرآن ليست هذه الأمور، بل تنشئة نمط جديد من هذا الإنسان، والنفوذ إلى القلوب التي لا يمكن لغيره النفوذ فيها.
لذا، فإن التأثير المؤقت لتسير الجبال، وقذفها يميناً وشمالاً، وتقطيع الأرض وتفتيتها، وقيام الموتى من قبورهم وتكلمهم، لا يُعدُّ شيئاً بجانب التأثير الدائم والباقي للقرآن على الإنسان، وصدق سبحانه حيث قال: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} (الحشر:21).
يسعدك ربي امين