زينب بنت محمد بن عبد الله
بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أكبر بناته
أمها خديجة بنت خويلد
ذات أدب و دلال و ذات جمال و خلق
علمتها أمها أشغال البيت و كانت تنوب عنها في تربية أختها الصغرى فاطمة
نسبها و نشأتها :
ولدت زينب رضي الله عنها قبل بعثة والدها صلى الله عليه و سلم بعشر سنين، و كانت باكورة زواجه من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، و هي أكثر أخواتها شبها بأبيها صلى الله عليه و سلم )
تنتسب إلى أشرف أبوين في الوجود، فوالدها محمد صلى الله عليه و سلم إمام الأنبياء، و قدوة المرسلين، و قائد الغر المحجلين، عليه و على آله و صحبه أزكى الصلاة و أطيب التسليم، و أمها سيدة نساء العالمين، الطاهرة، سيدة قريش و ذروتها نسبا و شرفا و فضلا و علما
نشأت زينب رضي الله عنها في أكرم بيت كريم البنيان طاهر الأردان، فحضيت بحب والدها و أمها فكانت ريحانة تفيض على بيت النبوة طيبا عابقا، و بهجة غامرة
و لما شبت رضي الله عنها بادرت أمها بتدريبها على المشاركة في عبء المنزل، و أخذتها على التمرين مأخذ الجد، و حاولت أن تبعدها قدر الإمكان عن عبث الطفولة و لهوها، فكانت و هي لا تزال فتاة صغيرة لشقيقتها فاطمة نعم المربية و الراعية الصالحة، و ترعى شؤونها ، و تلاعبها و تقوم على خدمتها
زواج زينب :
كبرت الفتاة و بدأ الخطاب يخطبون زينب و لكن أبو العاص ابن الربيع أسر لخالته خديجة أنه يريد زينب زوجا،
فتقدم أبو العاص لخطبة زينب فأحسن رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاءه، و أصغى إليه بكل جوارحه، و لكنه استأذنه في سؤال صاحبة الشأن، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ابنته قال لها : بنيتي زينب، إن ابن خالتك أبا العاص بن الربيع ذكر اسمك ..
فسكتت زينب حياء و لم تحر جوابا، لكن خفقات القلب الطاهر، و إغضاء النظر حياء كانا خير جواب
و بعد موافقة زينب و موافقة الرسول صلى الله عليه و سلم زفت زينب لابن خالتها هالة بنت خويلد أبو العاص بن الربيع فتبارك لها أمها الزواج و تهديها قلادتها لتجعلها في عنقها كهدية عروس
و في بيت الزوجية أظلت زينب و زوجها أبا العاص سعادة غامرة، و حب متبادل، فنهلا من رحيق الود أصفى شراب و أنقاه
وكان أبو العاص بحكم تجارته ومكانته في قومه كثير السفر، يغدو إلى الشام فيغيب أياما و ليالي، فتعاني زينب من ألم الفراق، و يعاني هو من ألم البعاد، و لقد هاج به الشوق مرة في إحدى رحلاته فأنشد يقول :
ذكرتُ زينب لما ورّكتْ إرَمــــا === فقلت : سُقْيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة === و كل بعل سيثني بالذي علمـا
ذكر ابن سعد أن أبا العاص تزوج بزينب قبل النبوة
زينب و البعثة النبوية
حين علمت زينب أن أباها بعث نبيا و رسولا فزعت و ذعرت فجاءت تستقصي الخبر من أمها فأكدت لها ما سمعت :
قالت : إن أباك قد أوحي إليه إنه رسول هذه الأمة، فردت زينب قائلة و ماذا صنعت يا أماه، قالت خديجة : آمنت به
فذعرت زينب و ارتبكت فإذا بفاطمة تقول لها أما ترضين أن تكوني ابنة نبي هذه الأمة ؟
قالت : إني سمعت أمي تقول : إن ورقة خالي قال : إنه ليطهد أو يقتل أو يخرج
و لما عرضت زينب الأمر على زوجها فقالت له ألا تؤمن بأبي، فردا قائلا : “و الله ما أبوك عندي بمتهم، و ليس أحب إلي من أسلك معك يا حبيبة في شعب واحد، لكني أكره لك أن يقال إن زوجك خذل قومه و كفر بآلهة آبائه إرضاء لامرأته، فهلا قدرت و عذرتي ”
آلام زينب :
تألمت زينب من عدم إيمان زوجها و عزم قريش على قتل أبيها و تزداد آلامها عندما دخل أبوها و آلها في شعب أبي طالب مع بنو هاشم في حصار ظالم ثلاث سنوات، و هي لا تستطيع حيلة و لا حتى زيارة لأهلها في الشعب
و ما زاد من تفاقم آلامها وفاة أمها الرؤوم خديجة بنت خويلد و وفاة عمها الحنون أبو طالب بعد خروجهم من الشعب
فتتألم لفراق أبيها و أخواتها بعد الهجرة للمدينة فتظل في مكة برفقة زوجها الذي تعيش معه في حيرة و ألم بعدم إسلامه، فيفرق الإسلام بينهما كزوجين قائلة :
” قليلا يا صاحبي، لست حلا لك، و أنت على ذلك الدين، فأسلمني إلى أبي، أو أسلم معي.. لن تكون زينب لك بعد اليوم إلا أن تؤمن بما آمنت ”
فداءها لزوجها الأسير :
و خرج أبوالعاص مع قريش في نفيرها لحماية تجارتها التي تعرضت لتهديد المسلمين، و دارت رحى القتال، و انْتَّرَ المسلمون، و وقع أبو العاص أسيرا
و لما استعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم الأسرى نحّى أبا العاص جانبا و قال لأصحابه: استوصوا بالأسرى خيرا
و كانت زينب في وضع لا تحسد عليه، وحين بدأت عملية فداء الأسرى، كانت رضي الله عنها راغبة في عودة زوجها إليها مستثيرة همة والدها العظيم لذلك، فحملت شقيق زوجها عمرو بن الربيع قلادة كانت لأمها خديجة رضي الله عنها أهدتها لها يوم عرسها كي يقدمها فدية عن زوجها
و لم يكد رسول الله صلى الله عليه و سلم يرى تلك القلادة حتى رقَّ لها رقة شديدة، وخفق القلب الكبير للذكرى العظيمة.
و أطرق الحاضرون من الصحابة خاشعة أبصارهم و قد أسروا بجلال الموقف و روعته
و بعد صمت طويل قال صلى الله عليه و سلم : ” إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردوا عليها مالها فافعلوا ”
فقالوا جميعا : نعم يا رسول الله
الوفاء بالعهد :
و عاد ابو العاص إلى مكة ، و لشكر زوجته على صنيعها و معروفها و وفاءا لعهده و وعده لأبيها بأن يخلي سبيلها و يعيدها إليه بالمدينة ” عودي إلى أبيك يا زينب “ ، فقد كلف أخاه كنانة بن الربيع قائلا :
” يا أخي إنك لتعلم موضعها من نفسي، فما أحب أن لي امرأة من قريش، و إنك لتعلم ألا طاقة لي بأن أفارقها، فاصحبها عني إلى طرف البادية حيث ينتظر رسولا محمد، و ارفق بها في السفر، و ارعها رعاية الحرمات، و لو نثرت عليها كنانتك لا يرنو منها رجل حتى تبلغ ”
و ها هو كنانة يخرج بزينب في وضح النهار متحديا قريشا التي اعترضت طريقه، في شخص هبار بن الأسود بن المطلب و نافع ابن عبد القيس، فروع زينب رضي الله عنها و هي في هودجها بإطلاق الرمح عليها وهي حامل و على إثر هذا الحادث طرحت ما في بطنها (1)
و مدافعا عن زينب قائلا للمعتدين : ” و الله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما ”
فأعيدت بعد أن تدخل ابو سفيان قائلا :
” إنك لم تصب … خرجت بالمرأة على رؤوس الرجال علانية من بين أظهرنا، إن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا، و نكبتنا التي كانت… و إن ذلك ضعف منا و وهن، لعمري ما لنا حاجة في حبسها عن أبيها … و ما لنا في ذلك من ثؤرة و لكن أرجع المرأة ”
فخرج بها مصمما للمرة الثانية ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة و صاحبه رسولا رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه و سلم
إسلام أبي العاص بن الربيع
مضت سنوات و سنوات و يخرج ابي العاص في تجارة له إلى الشام في عير لقريش و بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر تلك الير مقبلة من الشام، أرسل زيد بن حارثة سنة ست للهجرة فأخذوها و ما فيها من الأثقال، و أسروا جماعة ممن كانوا في حراسة القافلة، منهم أبو العاص بن الربيع .
فلجأ إلى زينب مستجيرا، فتقبل زنيب طلب ابي العاص فتهتف في الناس : ” أيها الناس إني قد أجرت العاص بن الربيع ، فهو في حمايتي و أمني ”
فيرد الرسول صلى الله عليه و سلم لما سمع مقالتها : ” أيها الناس هل سمعتم ما سمعت : إنه يجير على المسلمين أدناهم ”
ثم دخل على ابنته فحدثها و حدثته، و أوصاها قائلا: ” أي بنية أكرمي مثواه، و لا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له ما دام مشركا “
فبعث الرسول صلى الله عليه و سلم إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال: ” إن هذا الرجل منا حيث علمتم ، و قد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا إليه و تردوا عليه ماله ، فإنا نحب ذلك ! و إن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم ، فأنتم أحق به ”
قالوا : ” بل نرده عليه “ . و قال نفر منهم : ” يا أبا العاص ، هل لك أن تسلم ، و تأخذ هذه الأموال ، فإنها أموال المشركين : فقال الرجل : بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي ! ”
و يعود ابو العاص لمكة و يؤدي لكل ذي مال ماله ثم سألهم : يا معشر قريش،هل بقي لأحد منكم عندي مال ؟
قالوا : لا، فجزاك الله خيرا، قد وجدناك وفيا كريما
قال : ” فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، و أن محمدا عبده و رسوله ، و الله ما منعني من الإسلام عنده غلا تخوفي أن يظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم ، و فرغت منها أسلمت ”
فالتحق بزينب في المدينة و عاشت معه كزوجين متحابين ما تبقى لها من عمرها القصير
وفاتها رضي الله عنها و أرضاها :
توفيت زينب في سنة ثمان للهجرة فحزن عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم حزنا عظيما، و فارقت الدنيا
بعد أن ضربت مثلا بليغا في وفاء الزوجة و إخلاص المحبة، و صدق الإيمان
و بكاها أبوالعاص بكاء حارا، و تشبت بها حتى أبكى من حوله، و جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم دامع العين محزون الفؤاد ثم قال :
اغسلنها ثلاثا … و اجعلن في الآخرة كافورا، ثم صلى عليها ، و شيعها إلى المقر الأخير
أولادها :
أنجبت زينب رضي الله عنها و أرضاها من أبي العاص عليا و أمامة
وفاءه صلى الله عليه و سلم مع أولادها :
كان صلى الله عليه و سلم يلعب مع أمامة وكان يحملها على ظهره و هو يصلي
عن عائشة رضي الله عنها قالت : أن رسول الله صلى الله عليهو سلم أهديت له قلادة جزع، فقال : ” لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي .”
فقالت النساء : ذهبت بها ابنة أبي قحافة ، فعلقها في عنق أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ”
رواه أحمد 23563
رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم
نشأتها :
ولدت رقية بعد أختها زينب فكانت قرة عين لوالديها الكريمين
و ما لبثت أن جاءت بعدها أم كلثوم، فنشأتا سويا، متلاصقتين متعاطفتين، و لقد اشتد تقاربهما و انسجامهما خصوصا بعد أن فارقتهما زينب كبراهن إلى منزل الزوجية، فكانتا أشد وثوقا و خلوصا إلى بعضهما، وكأن القدر يرسم لهما في مستقبل الأيام مصيرا واحدا بداية و نهاية
و في كتب السيرة ما يشهد على هذا التلازم الغريب العجيب، إذ أجمعت كل الروايات التاريخية على وحدة الحال التي كانت قائمة بين الأختين رقية و أم كلثوم
ذات الهجرتين
زواجها :
بعد أن زوجت زينب إلى ابي العاص ابن الربيع، و قد قاربت سن رقية و أم كلثوم من الزواج، جاء أبو طالب عم النبي صلى الله عليه و سلم خاطبا لهما إلى ابني أخيه عبد العزى بن عبد المطلب- ابي لهب- فقال أبو طالب :
جئناك نخطب ابنتينا رقية و أم كلثوم وما أراك تضِنّ بهما على ابني عمك.. عتبة و عتيبة إبنا العم عبد العزى
فأجاب رسول الله صلى الله عليه و سلم: ”
معاذ القرابة و الرحم، ولكن هلا أمهلتني يا عم حتى أتحدث في هذا إلى بيتي ”
فعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمر على أهل بيته زوجته خديجة و ابنته صاحبة الشأن .
سكتت خديجة رضي الله عنها قليلا في فترة تأمل، فهي تعرف حق المعرفة أم جميل زوجة أبي لهب، و تعرف قسوة قلبها، و شراسة طبعها و حدة لسانها، فأشفقت على ابنتيها أن تسلمهما إلى هذا الجو المشحون بالحقد و الكراهية و الخلق السيء
و لكنها خافت إن هي نطقت برأيها أن تغضب زوجها، فيظن أنها تريد أن تمزق أواصر القربى بينه و بين أهله، فسكتت كما سكتت الفتاتان حياء، و أغضتا عن الجواب رقة و خجلا
النبوة :
لاح في سماء مكة قبس من نور أضاءها و بدد ظلمتها، إذ أظلتها بعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم هداية و نورا،
فتذكرت خديجة رضي الله عنها ابنتيها رقية و أم كلثوم و ما سيؤول إليه أمرهما بين يدي أم جميل الظالمة، و زوجها المطواع لها
فاجتمعت قريش لتحارب رسول الله بشتى الوسائل و أئتمرت برسول الله و قال قائلها : إنكم قد فرغتم محمدا من همه فردوا عليه بناته فأشغلوه بهن …
و رد ابو لهب زواج ابنيه من بنتي رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا لولديه :
” رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد .. “
فيعاني البيت النبوي من اضطهاد قريش من أقرب أقربائه و من أذية الرسول صلى الله عليه و سلم
و خاب فأل قريش وظنها، فلم يعنت رسول الله صلى الله عليه و سلم من جراء رد ابنتيه إليه، إذ عوضه الله تعالى خيرا من الزوجين الأولين، عوضه زوجا صالحا كريما عزيزاـ عريق النسب، واسع الثروة، لطيف الخلق ، دمث الطباع، ذلكم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس، وكان رضي الله عنه من أعز فتيان قريش حسبا و جاها و غنى
و زوجه صلى الله عليه و سلم من رقية و بارك لهما و فيهما و عليهما
الهجرة :
قال ابن سعد : هاجرت معه، أي عثمان، إلى الحبشة، الهجرتين جميعا قال صلى الله عليه و سلم : إنهما لأول من هاجر إلى الله بعد لوط ”
1 – الهجرة إلى الحبشة :
لقد ضم ركب مهاجري الحبشة إحدى عشرة امرأة، إضافة إلى الصحابة الكرام ممن هاجروا للحبشة
و كان من بينهم : عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه :
خرج عثمان بن عفان و مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد، قد رأيت ختنك –صهرك- و معه امرأته “، قال:
” على أي حال رأيتهما ؟ “، قالت : رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدابة الضعيفة التي تدب في المشي – يسوقها
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
” صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام “
كانت الهجرة إلى الحبشة الفرار إلى الله بدينهم و مخافة الفتنة، لما يتعرض له المسلمون بمكة من تعذيب و تنكيل، فقد حققت جزءا من التحول و الانطلاق، حيث وجدوا أرضا آمنة مطمئنة استقروا بها موفوري الكرامة يتمتعون بحرية العمل و العبادة، تحت حماية ملكها النجاشي الذي لا يظلم عنده أحد رافضا إغراءات و هدايا قريش لتسليم المسلمين لها
2- الهجرة للمدينة :
فتعود رقية برفقة عثمان بن عفان من الحبشة بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب و عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، إلى مكة طمعا في تغيير الأوضاع و لكنهم فوجئوا بازدياد طغيان قريش و عنتها، فكانت رقية أكثر العائدين حزنا لأنها دخلت دار أبيها مسلٍّمة مشتاقة، فقبلت أخواتها، وبلهفة سألت عن الأم العظيمة، فسكتن و لم يجبن، وكانت دموعهن أبلغ جواب، لقد لحقت بالرفيق الأعلى فبكت رقية و نشجت، ثم صبرت على قضاء الله و قدره
فلم تطل المقام بمكة، فتهاجر برفقة زوجها عثمان بن عفان للمدينة مع من هاجر إليها فرارا بدينهم و أيضا للبحث عن وطن للإسلام، بعد أن كان طوال ثلاثة عشرعاما دينا بلا وطن و شعبا بلا دولة
فلذلك كانت الهجرة الثانية للمدينة مرحلة هامة من مراحل الدعوة التي كانت بدايتها السرية ثم العلن و الجهر بالدعوة و بعدها البحث عن موطن حقيقي تنطلق منه الدعوة بعد تأسيس ركائز و دعائم الدولة الإسلامية و من تم توسيع دائرة الدعوة لنشر الإسلام
أولادها:
ولدت رقية من عثمان بن عفان عبد الله و به يكنى، و بلغ ست سنين ،فنقره ديك في وجهه، فطمر وجهه فمات
وفاتها رضي الله عنها :
تلقى رقية ربها بعد أن مرضت بالحمى قبيل بدر، فخلف النبي صلى الله عليه و سلم عليها عثمان ليمرضها، فتوفيت و المسلمون ببدر
و دخل النبي صلى الله عليه و سلم بيت عثمان و قد هزه نبأ وفاة رقية رضي الله عنها و تقدم منها يودعها و قد ظهر الأسى في عينيه و الحزن في سيماه، و انثنى بلطف ورقة على فاطمة التي كانت قد أكَبَّت على مضجع أختها رقية تبكيها، فرفعها بتؤدة و لين، و مسح دموعها بطرف ثوبه
عند ئذ علا نشيج النسوة الحاضرات، فأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمنعهن بسوطه، فأمسك رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده و قال له: مهما يكن من العين و القلب فمن الله والرحمة، و مهما يكن من اليد و اللسان فمن الشيطان .
و صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ابنته رضي الله عنها، و شيعها حتى واراها الثرى الطيب في البقيع الطاهر
رضي الله عنها و أرضاها بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات الهجرتين، و زوجة ذي النورين و جزاها عن إيمانها و جهادها و بلائها أحسن الجزاء و أوفاه.
أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله علية وسلم
ولادتها و نشأتها :
برزت إلى الوجود طفلة جديدة لـ محمد صلى الله عليه و سلم، ممتلئة مكتنزة، جميلة المحيا، أسيلة الخدين، فسماها أبواها أم كلثوم
ثم نمت و درجت فكانت نِعْم القرين لأختها رقية، و كأنهما توأم
خطبتا إلى ولدي ابي لهب معا، ثم ردتا معا، و لقد كان خيرا لهما ” تفاصيل زواجها في سيرة رقية رضي الله عنها “
إذ نجت أم كلثوم رضي الله عنها من نكد العيش مع حمالة الحطب، كما نجت معها أختها الحبيبة رقية
في قلب المعركة:
عاصرت أم كلثوم رضي الله عنها أشد فترات الاضطهاد و أصعب ظروف الدعوة، و أقسى أيام الجهاد
فبعد طلاقها من ابن عمها ابي لهب، لزمت أمها خديجة و فاطمة تشاركهما عبء الحياة و شظفها، و تخففان عن الوالد الكريم بحنوهما و عطفهما ما يلقاه من أذى قريش و سفهها
فتعاصر فترة الحصار الظالم، حيث خرج محمد صلى الله عليه و سلم بأسرته و من تبعه إلى شعب أبي طالب، ضاحية من ضواحي مكة، و انحاز إليه قومه بنو هاشم، فهناك عاشوا جميعا في ضيق الحصار حتى إنهم كانوا يأكلون أوراق الشجر من شدة الجوع، و أقاموا على ذلك نحو ثلاث سنين، تصل إليهم بعض الأحيان الأقوات و الأطعمة سرا
و قد دخلت أم كلثوم رضي الله عنها تجربة قاسية و أعظم امتحان، فوالدها رسول الله في هم و حزن و ألم، و أختها زينب مع زوجها أبو العاص في مكة لا تملك لهم حولا و لا طولا، و رفيقة الصبا و العمر رقية في بلاد نائية بعيدة، و أمها خديجة تغالب المرض الشديد، لا تقوى على الحركة، و الصغيرة فاطمة بحاجة إلى رعاية و عناية
لقد حملت أم كلثوم في تلك الآونة أكبر المسؤوليات وأعظمها، فكانت صابرة محتسبة تخفف عن الأب الرسول آلامه و أحزانه و تواسي الأم قائلة: لا بأس عليك يا أماه
و كبرت مسؤولية أم كلثوم فأضحت المسؤولة الأولى عن البيت النبوي الشريف بعد وفاة أم المؤمنين أمها خديجة بعد صراع مع المرض الذي أنهك بدنها في الحصار، فكانت نعم ربة البيت المثالية، كيف لا
!! و هي ابنة سيدة نساء العالمين
الهجرة :
هاجر المسلمون إلى يثرب و معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، و بقيت أم كلثوم و فاطمة في مكة حرصا على سلامتهما.
و بعد وصوله صلى الله عليه و سلم أرسل زيد بن حارثة إلى مكة يستحضرهن، فخرجن إلى الحجون، و ودعن قبر الأم الحنون، ثم مضين إلى يثرب
زواجها :
مضى على الهجرة عامان حافلان بجليل الأحداث و عظام الأمور، شهدت أم كلثوم خلالها عودة أبيها منتصرا من بدر، كما شهدة وفاة شقيقتها الغالية رقية متأثرة بمرضها
و حين أهل العام الثالث كان الحزن لا يزال جديدا عليها، و لكنها كانت تلمح عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتي أباها دائما يلتمس عنده العزاء و النصح و العون عن فقيدته الغالية رقية، وترى دموعه في عينيه تحدث عن لوعته و حزنه
و في يوم جاء ابن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاكيا مغضبا، فسأله النبي صلى الله عليه و سلم عن سبب ذلك، فأخبره بأنه عرض على أبي بكر و على عثمان الزواج من ابنته حفصة ، فلم يرضيا، فهدأه صلى الله عليه و سلم و طيب خاطره و قال له :
تتزوج حفصة من هو خير من عثمان و يتزوج عثمان من هي خير من حفصة
و تزوج صلى الله عليه و سلم من حفصة ، فهو خير من عثمان، ثم قال لعثمان :
أزوجك أم كلثوم أخت رقية، و لو كن عشرا لزوجتكهن، و هي رضي الله عنها خير من حفصة
و تم زواج أم كلثوم من عثمان على مثل صداق رقية و على مثل صحبتها .
و عاشت رضي الله عنها ست سنوات ، رأت فيها مجد الإسلام يبلغ أوج انتصاره، و شاهدت أباها صلى الله عليه و سلم يخرج من معركة إثر معركة، و يعود من غزوة إثر غزوة، مؤيدا مظفرا، و عثمان معه صاحبا و مجاهدا
وفاتها :
في شعبان من السنة التاسعة للهجرة تلقى أم كلثوم ربها
فقال النبي صلى الله عليه و سلم :” لو كن عشرا لزوجتهن عثمان ” حكاه ابن سعد
عن أنس ، قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم جالسا على قبرها يعني أم كلثوم ، و عيناه تدمعان “
أخرجه البخاري (3/126- 127)
بعد أن تم لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتح مكة، حن قلب أم كلثوم لزيارة قبر الأم الحنون، و حدثت زوجها و والدها بالأمر، فوافقاها على ذلك ، لكن المنية عاجلتها .
و وسدها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب ما تبقى من رفات أختها الحبيبة رقية، جمعتهما الحياة في بيت عثمان و ضمهما قبر واحد
و وقف النبي صلى الله عليه و سم على قبر ابنتيه دامع العينين مثقل القلب بهم الثكل المتتابع
,
ذكره ابن عبد البر في”الإستيعاب” ( 4/507) بلفظ قريب
فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله
أصغر بنات رسول الله صلى الله عليه و سلم ” أم أبيها ”
مولدها :
لقد صحب مولد السيدة فاطمة رضي الله عنها حادث عظيم هز أرجاء مكة من أقصاها إلى أدناها، و كاد يشعل الحرب بين قبائلها و بطونها، الذي يتعلق بتجديد بناء الكعبة المشرفة و بعد أن تم بناء الكعبة حتى اختلفوا في المكان الذي يضعون فيه الحجر الأسود و من يضعه و بعد تفكير تقدم أمية بن المغيرة المخزومي و هو من شيوخهم العقلاء فقال لهم : ” يا معشر قريش اجعلوا بينكم حكما يقضي بينكم فيما تختلفون فيه، و هو أول من يدخل من باب هذا المسجد الحرام ” فقبل الجميع و قالوا : رضينا و سلمنا و إذا بمحمد صلى الله عليه و سلم يكون أول من دخل من باب المسجد الحرام ففرحوا به لأنه الصادق الأمين قائلين رضينا بحكمه
و بعد أن سمع صلى الله عليه و سلم قصة خلافهم ، بسط رداءه و وضع الحجر الأسود فيه، ثم قال : ” ليأخذ كبير كل قبيلة بناحية من الثوب ثم رفعوه جميعا فحملوه حتى وصلوا إلى مكانه فوضعه الأمين محمد صلى الله عليه و سلم بيده الشريفة في المكان الذي اختاره له
و بعد رجوعه صلى الله عليه و سلم إلى البيت يفاجأ بمولد أبنته الرابعة، فتهلل له و ابتهج به، و سماها النبي صلى الله عليه و سلم فاطمة و لقبها الزهراء
نشأتها :
نشأت فاطمة في بيت مفعم بحب عظيم من أبويها، و أخواتها و بخاصة أختها زينب رضي الله عنها، فقد كانت تدللها و تلاطفها و تلاعبها.
و شبت في بيت نبوي رحيم يكلأها بعين رعايته و يسهر على راحتها. فأقبلت على حياتها ببراءة عظيمة تأخذ قسطا وافرا من الأدب والحنان و التوجيه المحمدي السديد و أحست فاطمة بالوحدة القاسية خاصة بعد زواج أخواتها زينب و رقية و أم كلثوم رضي الله عنهن و قد روي أنها بكت حين تزوجت رقية و أم كلثوم، فلما سألتها أمها : ما يبكيك يا فاطمة ؟ فأجابت : لا تدعي أحدا ينتزعني منك و من أبي فلست أطيق فراقكما!
فتبسمت الأم في حنان و رفق و قالت لها: لن تتركينا إلا إذا أردت.
و لعل صغر سنها ساعدها على الخروج مع أبيها في أنحاء مكة فنشأت فاطمة المحاطة بحب أبيها العظيم و بما تتمتع به أمها رضي الله عنها من صفات زكية و سجايا حميدة، على العفة الكاملة، و عزة النفس، و حب الخير، وعلى حسن الخلق، فهي تستقي من تعاليم أبيها نبي الأمة، و رسول الرحمة، خير مرشد و أعظم مرب و هاد إلى الطريق المستقيم .
كانت شديدة الحياء كأخواتها زينب و رقية و أم كلثوم فقد ورثنه من أبيهن محمد صلى الله عليه و سلم فهو شديد الحياء ” عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :
” كان النبي صلى الله عليه و سلم أشد حياء من العذراء في خدرها ”
فكان صغر سن فاطمة رضي الله عنها ساعدها على ترقب الأحداث و تأملها و التفكر فيها فقد عاينت كل الأحداث مذ بعثة أبيها كرسول صلى الله عليه و سلم فتعايش الجو الجديد في بيت أبيها، بدءا بحبه صلى الله عليه و سلم الخلوة و التعبد في غار حراء، و جو الوحي العبق و أعباء الدعوة الثقال، و مناهضة كفار قريش، و مرورا بمكائد الكفار لأبيها و آذاهم و تنكيلهم للنبي صلى الله عليه و سلم ليتنازل عما هو مقبل عنه مقابل عروض مغرية و لكنه يأبى إلا أن يتم رسالته، و هاهي تعاين أمها خديجة رضي الله عنها بجوار أبيها تواسيه و تخفف عنه و تشاركه في الدعوة بمالها و نفسها، و تلاقي شأنها شأن أخواتها و أمها و أبيها للأذى و التكذيب و الحصار الشديد في شعب أبي طالب، و تشهد وفاة أمها خديجة رضي الله عنها بعد الخروج من الحصار الظالم و المهلك
فساهمت كل هذه الأحداث في أن تتحمل المسؤولية مبكرة
فضائلها :
كانت لفاطمة في قلب رسول الله صلى الله عليه و سلم مكانة خاصة لملازمتها له طيلة حياته فكان لا يقوم لأحد إلا الفقراء و فاطمة و كان صلى الله عليه و سلم حين يرجع من السفر يدخل عند فاطمة أولا و يطيل الجلوس ثم يدخل على نساءه .
قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ” خير نساء العالمين أربع : مريم و آسية و خديجة و فاطمة “
رواه الإمام أحمد (1/2668) ، و النسائي في ” الكبرى ” (5/8364)، و الحاكم (3/4852) و ابن حبان (7010)
قالت عائشة رضي الل.ه عنها : كانت فاطمة تمشي ما تخطيء مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام و قال : ” مرحبا بابنتي ” رواه ابو داود (5617)، و الترمذي (5217) و أصله في الصحيحين
عن أم سلمة : أن النبي صلى الله عليه و سلم جلَّل على : الحسن و الحسين و علي و فاطمة كساء ثم قال : ” اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي، أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا “ فقالت أم سلمة : و أنا معهم يا رسول الله ؟ قال :
” إنك على خير ”
صحيح سنن الترمذي (3038)
عن عائشة رضي الله عنها قالت :
” ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما و حديثا برسول الله صلى الله عليه و سلم من فاطمة، و كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فقبلها، و رحب بها، و كذلك هي تصنع به ” إسناده حسن: أخرجه أبو داود و الحاكم (3/154) و أقره الذهبي
العمل و التزود بالتقوى فلا نفع للنسب و المكانة :
كان النبي صلى الله عليه و سلم يترجم عن حبه لابنته الكريمة في أشد المواقف و أدق الأمور و مع هذا الحب فقد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لابد من العمل و التزود من التقوى، فلقد قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادى :
” يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا “
” يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئا ”
” يا عبا بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا “
” يا صفية بنت عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا “
” يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا ” رواه البخاري (4771)، و مسلم(206)، و أحمد و النسائي في “الكبرى”و البيهقي في” السنن” و البغوي في”شرح السنة”، و الترمذي
زواجها :
بعد زواج رسول الله صلى الله عليه و سلم من عائشة رضي الله عنها تقدم كبار الصحابة لخطبة الزهراء بعد أن كانوا يحجمون عن طلب يدها لوجودها مع أبيها و خدمتها إياه
فخطب الزهراء أبو بكر و عمر و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتذر في رفق بالغ. فأشارعمر على علي كرم الله وجهه شرف هذه المصاهرة، ترى هل يقبله هو بعد أن رد أبا بكر و عمر رضي الله عنهم أجمعين ؟
ذلك سؤال جال في خاطر الإمام علي كرم الله وجهه (1) و لكن الفاروق رضي الله عنه ذكر له سبقه إلى الإسلام و قرابته من النبي صلى الله عليه و سلم و مكانته في قلب رسول الله حتى أقنعه بأنه أهل لها و ذهب الإمام علي رضي الله عنه و جلس بقرب النبي صلى الله عليه و سلم على استحياء لا يذكر سبب مجيئه، فسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم : ”
ماحاجة ابن أبي طالب؟ “
و في صوت خالفت و حياء أجاب كرم الله وجهه :
ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأجاب صلى الله عليه و سلم و هو متهلل الوجه :
مرحبا و أهلا
فانصرف الإمام علي. و ما إن سأله بعض من يعلم الأمر عن نتيجة طلبه حتى أجابهم :
تحدثت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأمر فقال لي : مرحبا و أهلا ، فقالوا له : يكفيك من رسول الله إحداهما
و في الغد عاود الإمام علي كرم الله وجه فسأله النبي صلى الله عليه و سلم : و هل عندك شيء ؟
أجاب علي :
لا يا رسول الله
و سأله النبي : فأين درعك التي أعطيتك يوم كذا ؟ فأجاب فرحا :
هي عندي يا رسول الله . فجاءه بها فأمره صلى الله عليه و سلم ببيعها ليجهز العروس بثمنها (2) و اشتراها منه الصحابي العظيم عثمان بن عفان رضي الله عنه بأربعمائة و سبعين درهما. فسلم الإمام علي الثمن لرسول الله صلى الله عليه و سلم فدفع جزءا منه إلى بلال بن رباح ليشتري طيبا و عطرا و دفع الباقي إلى أم سلمة لتشتري جهاز العروس ثم نظر الرسول صلى الله عليه و سلم إلى أنس و قال له :
انطلق و ادع لي أبا بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و بعدتهم من الأنصار
و قام الرسول صلى الله عليه و سلم ليخبر ابنته الكريمة بخبر خطبة الإمام علي كرم الله وجهه لها. فقال لها: يا فاطمة إن عليا يذكرك فصمتت رضي الله عنها حياء. و كان ذلك علامة القبول عند الزهراء (3) ثم خرج الرسول الكريم فوجد كبار الصحابة قد حضروا فقال: ” الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع لسلطانه، المهروب إليه من عذابه ، النافذ أمره في أرضه و سمائه، الذي خلق الخلق بقدرته… و أعزهم بدينه، و أكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم. إن الله عز و جل جعل المصاهرة نسبا لاحقا و أمرا مفترضا، و حكما عادلا و خيرا جامعا أوش جبه الأرحام، وألزمها الأنام فقال الله عز و جل
” و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و كان ربك قديرا ” الفرقان 54 .
و أمر الله يجري إلى قضائه و قضاؤه يجري إلى قدره و لكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء و يثبت، و عنده أم الكتاب . ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي و أشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك ، على السنة القائمة، و الفريضة الواجبة، فجمع الله شملهما، و بارك لهما وأطاب نسلهما و جعل نسلهما مفاتيح الرحمة ، و معادن الحكمة، و أمن الأمة . و أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم “
ثم أمر بطبق فيه تمر قدمه إلى ضيوفه الكرام و قال لهم : ”
تخاطفوا “، و بينما هم كذلك قال لهم رسول الله: ”
انتبهوا “
و نظر القوم فإذا الإمام علي مقبل نحوهم. فتبسم إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال له:” يا علي
إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، و إني زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة “. فقال علي كرم الله وجهه : رضيت يا رسول الله
ثم إن عليا خر ساجدا، شكرا لله، فلما رفع رأسه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
” بارك الله لكما و عليكما و أسعد جدكما و أخرج منكما الكثير الطيب “
لقد كانت دعوة مستجابة فإنها دعوة نبي ، بل دعوة سيد الأنبياء فوالله لقد أخرج منهما الكثير الطيب و بهذا عقد قران الإمام علي على الزهراء رضي الله عنهما أمام جمع من كرام الصحابة و في ليلة زفاف الزهراء إلى علي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أم سلمة أن تمضي بالعروس إلى دار الإمام كرم الله وجهه التي جهزها لسكناهما و أن ينتظراه هناك . و صلى الرسول صلاة العشاء، ثم ذهب إلى علي كرم الله وجهه و هناك دعا بماء فتوضأ منه ثم دعا بهذا الدعاء :
” اللهم بارك فيهما، و بارك عليهما ، و بارك لهما في نسلهما “ (4) ثم أوصى ابنته بأن تكرم زوجها و أوصى الإمام عليا كرم الله وجهه بهذه الوصية: يا علي لا تغضب
! و إذا غضبت فاقعد و اذكر قدرة الله تعالى على العباد و حمله عنهم. و إذا قيل لك : اتق الله فاترك غضبك عنك، و ارجع لحلمكم. و فرح المسلمون بزواج الزهراء من الإمام علي كرم الله و جهه و ابتهجوا فيروى أن حمزة عم النبي صلى الله عليه و سلم سُرَّ بهذا الزواج المبارك، فجاء بكبشين و ذبحهما و أطعم منهما أهل المدينة
(1) رواه ابن سعد في ” طبقاته” (8/19-20)
(2) ذكره ابن حجر في ” الاصابة” (8/158) ، و ابن سعد في ” طبقاته”(8/20) ، و ابن الأثير في ” أسد الغابة”(5/364)
(3) ” الطبقات ” لابن سعد (8/20)
(4) رواه ابن الأثير ” أسد الغابة” (5/365) و ابن سعد في ” الطبقات” (8/21) ، و الطبراني في ” المعجم الكبير ” ( الحديث 2/1153) و هو حديث حسن .
خدمتها لزوجها :
لما زوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسل معها بخميلة و وسادة أدم حشوها ليف و رحاءين، و سقاء و جرتين ، فجرت بالرحاء حتى أثرت في يدها و استقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، و قمت البيت حتى اغبرت ثيابها و أوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها ”
سير أعلام النبلاء ج2 ص 88 فهذه فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و سلم لم يمنعها شرفها و لم تمنعها مكانتها و قرابتها للنبي صلى الله عليه و سلم من أن تخدم نفسها بنفسها و تتحمل أعباء بيتها و تجر الرحى حتى أثرت في يدها و استقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها و كنست البيت حتى اغبرت ثيابها و أوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها، و تخدم زوجها وقد كفاها علي الخدمة خارجا، فقال لأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم : ” إكفي بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم الخدمة خارجا تكفيك هي العمل في البيت : العجن و الخبز و الطحن “
لا أخبركما بخير ما سألتماني :
سأل علي رضي الله عنه زوجته أن تأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و تسأله خادما يعينها فلما أتته فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم: ” ما جاء بك يا بنية ؟ ” قالت: جئت لأسلم عليك، و استحيت أن تسأله، و رجعت، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد، فقال : ” ما كانت حاجتك ؟ ” فسكتت، فقال علي رضي الله عنه و سلم: ” و الله لا أعطيكما، و أدع أهل الصُّفَّة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، و لكني أبيعهم، و أنفق عليهم أثمانهم ” فرجعا، فأتاهما النبي صلى الله عليه و سلم و قد دخلا في قطيفتهما، إذا غطيا رؤوسهما تكشفت أقدامهما، و إذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال : ” مكانكما ، ألا أخبركما بخير مما سألتماني ؟ ” فقالا : بلى . فقال : ” كلمات علمنيهن جبريل : تسبحان في دبر كل صلاة عشرا، و تحمدان عشرا، و تكبران عشرا و إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا و ثلاثين، و احمدا ثلاثا و ثلاثين، و كبرا أربعا و ثلاثين” . صحيح البخاري و في رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه و سلم تسأله خادما، فقال لها : ” قولي : اللهم رب السموات و رب العرش العظيم، ربنا و رب كل شيء، منزل التوراة و الإنجيل و الفرقان، فالق الحب و النوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء ، و أنت الآخر، فليس بعدك شيء، و أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، و اغنني من الفقر ” أخرجه الترمذي
ذرية مباركة :
رزقت فاطمة رضي الله عنها بعد مرور عام سعيد من زواجها بالحفيد الأول لرسول الله صلى الله عليه و سلم ففرح به و حنكه بنفسه و سماه الحسن ثم ولد بعده سبط رسول الله صلى الله عليه و سلم ” الإمام الحسين ” و مرت الأيام و ولدت السيدة الكريمة فاطمة رضي الله عنها ولده الثالث محسنا و توفي و هو صغير و بعدها رزقت بزينب و أم كلثوم رضي الله عنهم جميعا
حب آل البيت :
عن ابي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
” لا يبغضنا أهل البيت أحد، إلا أدخله الله النار ” . أخرجه الحاكم (3/150) و قال صحيح الاسناد، و أقره الذهبي
غضب النبي صلى الله عليه و سلم لفاطمة :
غضب لها النبي صلى الله عليه و سلم لما بلغه أن أبا الحسن هَمَّ بما رآه سائغا في خطبة بنت أبي جهل، فقال : ” و الله لا تجتمع بنت نبي الله صلى الله عليه و سلم و بنت عدو الله، و إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، و يؤذيني ما آذاها ” أخرجه البخاري ( 7/67-68) ، و مسلم (2449) . فترك علي الخطبة رعاية لها ، فما تزوج عليها و لا تسرى
بصمتها في الدعوة :
نشأت فاطمة مذ بداية الدعوة فكانت شاهدا على جميع انواع التعذيب و التنكيل الذي تعرض له المسلمين و خاصة رسول الله صلى الله عليه و سلم ” ففي إحدى المجالس الوثنية الفاجرة سمع عقبة بن أبي معيط نفرا من أجلاف قريش قالو: من يقوم إلى السَّلا (1) فيلقيه على ظهر محمد و هو ساجد ؟ ، و تبرع عقبة، أخزاه الله، بتنفيذ رغبتهم الدنيئة و قال: أنا و أسرع إلى السلا و حمله، ثم ألقاه على ظهر النبي صلى الله عليه و سلم و هو ساجد … و بقي سيد المرسلين في سجوده، حتى وصل الخبر فاطمة فجاءت رضي الله عنها و أخذت الأقذار عن ظهر أبيها و غسلت ما لحق به من أذى ” و لم يكن دورها مقتصرا على الدفاع عن أبيها و إنما تعداه للغزوات فالإسلام ساوى بين المرأة و الرجل في كل شيء حتى في الجهاد و ها هي في غزوة أحد، فيمن خرج من نساء الصحابة لتقديم العون لهم، لما رأت الدماء تسيل من وجه رسول الله … سارعت إليه و اعتنقته ” و جعلت تمسح الدماء عن جراحاته فلما رأت ان الدم يزداد أخذت شيئا من حصير فأحرقته بالنار، و كمدته به حتى لصق الجرح ، فاستمسك الدم “، و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ” اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله ” رواه البيهقي و هاهي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و سلم تخرج هي و أربع عشرة امرأة منهن ” ام سليم بنت ملحان و عائشة ام المؤمنين رضي الله عنهن ، تحمل الماء في قربة .. و الزاد على ظهرها.. لإيصال الغذاء و الدواء و السقاء للمقاتلين! (1)
السلا : هو ما يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة، و يكون به قذر و دماء
وفاة النبي صلى الله عليه و سلم :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ” كن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم عنده، لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي، ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا، فلما رآها رحب بها فقال : ” مرحبا بابنتي “، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها فبكت بكاءً شديدا، فلما رأى جَزَعها سارَّها الثانية، فضحكت، فقلت لها : خصك رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين نسائه بالسِّرَار، ثم أنت تبكين ؟
فلما قام رسول الله صلى الله عليه و سلم، سألتها : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
! ثم قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه و سلم سره، قالت : فلما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت لها : عزمت عليك بما لي عليك من الحق لَمَا حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقالت : أما الآن فنعم .
أما حين سارني في المرة الأولى، فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة ، و إنه عارضه الآن مرتين، و إني لا أرى الأجل إلا و قد اقترب، فاتقي الله ، و اصبري، فإنه نعم السلف أنا لك ” قالت فبكيت بكائي الذي رأيت
فلما رأى جزعي، سارني الثانية فقال : ” يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة ؟ “
قالت : فضحكت ضحكي الذي رأيت و لما توفي النبي صلى الله عليه و سلم حزنت عليه، و بكته، و قالت : يا أبتاه
! إلى جبريل ننعاه
! يا أبتاه
! أجاب ربا دعاه
! يا أبتاه
! جنة الفردوس مأواه
!
و قالت بعد دفنه يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ صحيح البخاري
وفاتها :
شكت فاطمة إلى أسماء بنت عميس نحول جسمها، و قالت أتستطيعين أن تواريني بشيء ؟ قالت: إني رأيت الحبشة يعملون السرير للمرأة، و يشدون النعش بقوائم السرير، فأمرتهم بذلك و عمل لها نعش قبل وفاتها
فنظرت، فقالت : سترتموني ستركم الله “ أورده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بنحوه عن قتيبة بن سعيد .. عن أم جعفر ”
توفيت بعد النبي صلى الله عليه و سلم بخمسة أشهر أو نحوها، و غسلها علي و أسماء، و لم تسمح أسماء لأحد بالدخول عليها و وقف علي عند قبرها فقال :
لكل اجتماع من خليلين فرقــة === و كل الذي دون الممات قليل و إن افتقادي واحدا بعد واحد === دليل على أن يدوم خليـــــــل
و صلى عليها زوجها علي رضي الله عنه هو و العباس و دفنت في البقيع لثلاث خلون من شهر رمضان سنة أحدى عشرة للهجرة .
وجعله الله العلى القدير فى ميزان حسناتك
اللهم امين