تخطى إلى المحتوى

تفسير القـرآن الكريــم للقرطبي:البقرة 2024

الونشريس

الونشريس

موضوع مثبت

القسم الاسلامي

الونشريس

{الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)}
بيان الأقوال الواردة في الحروف المقطعة التي في أوائل السور:
اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر.
وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بها.
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما أستأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبد الله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].
قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في آل عمران إن شاء الله تعالى.
وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: {الم} و{المص} استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم.
وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة.
وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد.
وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: {الم} قال: أنا الله أعلم، {الر} أنا الله أرى، {المص} أنا الله أفصل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله:
فقلت لها قفي فقالت قاف ***
أراد: قالت وقفت.
وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا *** ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.
وقال آخر:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا *** قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا.
وفي الحديث: «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: اق، كما قال عليه السلام: «كفى بالسيف شا» معناه: شافيا.
وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور.
وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لان القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد هاهنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون {لا} جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح. فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.
وقال بعضهم: {الم} أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ.
وقال قتادة في قوله: {الم} قال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم. والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الاعراب؟ فقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه.
ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه {الم}، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل.
وقال ابن كيسان النحوي: {الم} في موضع نصب، كما تقول: اقرأ {الم} أو عليك {الم}.
وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.
قوله تعالى: {ذلِكَ الْكِتابُ} قيل: المعنى هذا الكتاب. و{ذلِكَ} قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الاخبار عن نفسه جل وعز: {ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، ومنه قول خفاف بن ندبة:
أقول له والرمح يأطر متنه *** تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا. ف {ذلِكَ} إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ}… {تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي هذه، لكنها لما أنقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك.
وفي البخاري: وقال معمر: {ذلِكَ الْكِتابُ} هذا القرآن. {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} بيان ودلالة، كقوله: {ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} هذا حكم الله.
قلت: وقد جاء هذا بمعنى ذلك، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام: «يركبون ثبج هذا البحر» أي ذلك البحر، والله أعلم.
وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب. واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة، فقيل: {ذلِكَ الْكِتابُ} أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا رَيْبَ فِيهِ، أي لا مبدل له.
وقيل: ذلِكَ الْكِتابُ، أي الذي كتبت على نفسي في الأزل: «أن رحمتي سبقت غضبي».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي» في رواية: «سبقت».
وقيل:
إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لابتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان» الحديث.
وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة.
وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} لم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستشرفا لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: {الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1- 2] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة.
وقيل: إن {ذلِكَ} إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل. و{الم} اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما.
وقيل: إن {ذلِكَ الْكِتابُ} إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذلك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر ب {ذلِكَ} عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} [البقرة: 68] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر، وسيأتي.
وقيل: إن {ذلِكَ} إشارة إلى اللوح المحفوظ.
وقال الكسائي: {ذلِكَ} إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد.
وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.
وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: {الم} الحروف التي تحديتكم بالنظم منها. والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها. وتكتبت الخيل صارت كتائب. وكتبت البغلة: إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير، قال:
لا تأمنن فزاريا حللت به *** على قلوصك واكتبها بأسيار
والكتبة بضم الكاف: الخرزة، والجمع كتب. والكتب: الخرز. قال ذو الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها *** مشلشل ضيعته بينها الكتب
والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر:
تؤمل رجعة مني وفيها *** كتاب مثل ما لصق الغراء
والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجعدي:
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني *** عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
قوله تعالى: {لا رَيْبَ} نفي عام، ولذلك نصب الريب به.
وفي الريب ثلاثة معان: أحدها الشك، قال عبد الله بن الزبعري:
ليس في الحق يا أميمة ريب *** إنما الريب ما يقول الجهول
وثانيها التهمة، قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني *** فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها: الحاجة، قال:
قضينا من تهامة كل ريب *** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفه من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار.
وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا. وتقول: رابني هذا الامر إذا أدخل عليك شكا وخوفا. وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب. ورابني أمره. وريب الدهر: صروفه.
الكلام على هداية القرآن:
وفيه ست مسائل:
قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فِيهِ} الهاء في: {فِيهِ} في موضع خفض بفي، وفيه خمسة أوجه، أجودها: فيه هدى ويليه فيه هدى بضم الهاء بغير واو وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر. ويليه فيهي هدى بإثبات الياء وهي قراءة ابن كثير. ويجوز فيهو هدى بالواو. ويجوز فيه هدى مدغما وارتفع {هُدىً} على الابتداء والخبر {فِيهِ}. والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى.
الثانية: الهدى هديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد: 7]. وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فالهدى على هذا يجئ بمعنى خلق الايمان في القلب، ومنه قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وقوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [فاطر: 8] والهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 54] ومنه قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] معناه فاسلكوهم إليها.
الثالثة: الهدى لفظ مؤنث قال الفراء: بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول: هذه هدى حسنة.
وقال اللحياني: هو مذكر، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في الفاتحة، تقول: هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار، أي عرفته. الأولى لغة أهل الحجاز، والثانية حكاها الأخفش.
وفي التنزيل: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} [الأعراف: 43] وقيل: إن الهدى اسم من أسماء النهار، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم، ومنه قول ابن مقبل:
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة *** يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
الرابعة: قوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ} خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه. وروي عن أبى روق أنه قال: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أي كرامة لهم، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم. واصل {لِلْمُتَّقِينَ}: للموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين.
الخامسة: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام، حكاه ابن فارس.
قلت: ومنه الحديث: «التقي ملجم والمتقي فوق المؤمن والطائع» وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه، كما قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد
وقال آخر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت *** بأحسن موصولين كف ومعصم
وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال قال يوما لابن أخيه: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قلت: بلى، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم.
وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله.
وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات.
وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق. قال ابن عطية: وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه:
خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى
السادسة: التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شي، فقال:
يريد المرء أن يؤتى مناه *** ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي *** وتقوى الله أفضل ما استفادا
وروى ابن ماجه في سننه عن أبى أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله». والأصل في التقوى: وقوى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله وقي، وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاه، كما قالوا: تجاه وتراث، والأصل وجاه ووراث.

    {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
    فيها ست وعشرون مسألة:
    الأولى: قوله: {الَّذِينَ} في موضع خفض نعت {لِلْمُتَّقِينَ}، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. {يُؤْمِنُونَ} يصدقون. والايمان في اللغة: التصديق، وفي التنزيل: {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا} أي بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}… {فَما آمَنَ لِمُوسى}.
    وروى حجاج بن حجاج الأحول ويلقب بزق العسل قال سمعت قتادة يقول: يا بن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السآمة والفترة والملة، ولكن المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المتقوي، والمؤمن هو المتشدد، وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله الليل والنهار، والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية.
    الثانية: قوله تعالى: {بِالْغَيْبِ} الغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء، يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطه من الأرض، والغيابة: الأجمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.
    الثالثة: واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعفه ابن العربي.
    وقال آخرون: القضاء والقدر.
    وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
    وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.
    قلت: وهذا هو الايمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأخبرني عن الايمان. قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: صدقت. وذكر الحديث.
    وقال عبد الله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].
    قلت: وفي التنزيل: {وَما كُنَّا غائِبِينَ} وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}. فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم باطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض، والحمد لله.
    وقيل: {بِالْغَيْبِ} أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن.
    وقال الشاعر:
    وبالغيب آمنا وقد كان قومنا *** يصلون للأوثان قبل محمد
    الرابعة: قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} معطوف جملة على جملة. وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشيء أي دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت، قال الشاعر:
    وقامت الحرب بنا على ساق ***
    وقال آخر:
    وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا *** حتى تقيم الخيل سوق طعان
    وقيل: {يُقِيمُونَ} يديمون، وأقامه أي أدامه، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
    الخامسة: إقامة الصلاة معروفة، وهي سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروى عن مالك، واختاره ابن العربي قال: لأن في حديث الأعرابي: «وأقم» فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء. قال: فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض. قال ابن عبد البر قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وتحريمها التكبير» دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك.
    وقال بعض علمائنا: من تركها عمدا أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن، والله أعلم.
    السادسة: واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أولا؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا». رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمشي وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك». وهذا نص. ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع.
    وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فوات الركعة، وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس، وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب، لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي.
    قلت: واستعمال سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل حال أولى، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار، لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خلاف ما أخبره، فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه. ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وما خرجه الدارمي في مسنده قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة». فمنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي، وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} وأنه ليس المراد به الاشتداد على الاقدام، وإنما عني العمل والفعل، هكذا فسره مالك. وهو الصواب في ذلك والله أعلم.
    السابعة: واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: «وما فاتكم فأتموا» وقوله: «واقض ما سبقك» هل هما بمعنى واحد أو لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} وقال: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ}.
    وقيل: معناهما مختلف وهو الصحيح، ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو أخرها؟ فذهب إلى الأول جماعة من أصحاب مالك منهم ابن القاسم ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة، فيكون بانيا في الافعال قاضيا في الأقوال. قال ابن عبد البر: وهو المشهور من المذهب.
    وقال ابن خويز منداد: وهو الذي عليه أصحابنا، وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود بن علي.
    وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وأنه يكون قاضيا في الافعال والأقوال، وهو قول الكوفيين. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: وهو مشهور مذهب مالك. قال ابن عبد البر: من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام، لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في أخرها، فمن هاهنا قالوا: إن ما أدرك فهو أول صلاته، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله: «فأتموا» والتمام هو الآخر. واحتج الآخرون بقوله: «فاقضوا» والذي يقضيه هو الفائت، إلا أن رواية من روى: «فَأَتِمُّوا» أكثر، وليس يستقيم على قول من قال: إن ما أدرك أول صلاته ويطرد، إلا ما قاله عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الامام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه، وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها، فهؤلاء أطرد على أصلهم قولهم وفعلهم، رضي الله عنهم.
    الثامنة: الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» خرجه مسلم وغيره، فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها، لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} وخاصة إذا صلى ركعة منها.
    وقيل: يقطعها لعموم الحديث في ذلك. والله أعلم.
    التاسعة: واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فقال مالك: يدخل مع الامام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد التي تصلي فيها الجمعة اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب، ولان يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الامام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الامام وكذلك قال الأوزاعي، إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة.
    وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد.
    وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان: إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر.
    وقال الشافعي: من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الامام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد. وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك، وهو الصحيح في ذلك، لقوله عليه السلام. «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة». وركعتا الفجر إما سنة، وإما فضيلة، وإما رغيبة، والحجة عند التنازع حجة السنة. ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والامام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة، ثم إنه صلى مع الامام. ومن حجة الثوري والأوزاعي ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل المسجد. وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما. قالوا: وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد.
    روى مسلم عن عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا يصلي والمؤذن يقيم، فقال: «اتصلي الصبح أربعا؟» وهذا إنكار منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والامام يصلي، ويمكن أن يستدل به أيضا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت، لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك، والله أعلم.
    العاشرة: الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، ومنه قوله عليه السلام: «إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل أي فليدع».
    وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف، والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. ولما ولدت أسماء عبد الله بن الزبير أرسلته إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت أسماء: ثم مسحه وصلي عليه، أي دعا له.
    وقال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم.
    وقال الأعشى:
    تقول بنتي وقد قربت مرتحلا *** يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
    عليك مثل الذي صليت فاغتمضي *** نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
    وقال الأعشى أيضا:
    وقابلها الريح في دنها *** وصلى على دنها وارتسم
    ارتسم الرجل: كبر ودعا، قاله في الصحاح.
    وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوي السابق، فاشتقت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للايمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لان الراكع تثنى صلواه. والصلاة: مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان. والمصلي: تالي السابق، لأن رأسه عند صلاه.
    وقال علي رضي الله عنه: سبق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلي أبو بكر وثلث عمر.
    وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه صلي بالنار إذا لزمها، ومنه: {تَصْلى ناراً حامِيَةً} [الغاشية: 4].
    وقال الحارث بن عباد:
    لم أكن من جناتها علم اللَّـ *** ـه وإني بحرها اليوم صال
    أي ملازم لحرها، وكان المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به.
    وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد ممدود، فإن فتحت الصاد قصرت، فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع، قال الخارزنجي:
    فلا تعجل بأمرك واستدمه *** فما صلى عصاك كمستديم
    والصلاة: الدعاء والصلاة: الرحمة، ومنه: «اللهم صل على محمد» الحديث. والصلاة: العبادة، ومنه قوله تعالى: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} [الأنفال: 35] الآية، أي عبادتهم. والصلاة: النافلة، ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132]. والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] أي من المصلين. ومنه سبحة الضحى. وقد قيل في تأويل: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] نصلي. والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] فهي لفظ مشترك. والصلاة: بيت يصلي فيه، قاله ابن فارس. وقد قيل: إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة، فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرع من صلاة، حكاه أبو نصر القشيري.
    قلت: فعلى هذا القول لا اشتقاق لها، وعلى قول الجمهور وهي:
    الحادية عشرة: اختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الايمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع. هنا اختلافهم والأول أصح، لأن الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين، ولكن للعرب تحكم في الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء، والله أعلم.
    الثانية عشرة: واختلف في المراد بالصلاة هنا، فقيل: الفرائض.
    وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما.
    الثالثة عشرة: الصلاة سبب للرزق، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132] الآية، على ما يأتي بيانه في طه إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره، روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: هجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهجرت فصليت ثم جلست، فالتفت إلي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إشكمت درده قلت: نعم يا رسول الله، قال: قم فصل فإن في الصلاة شفاء». في رواية: «إشكمت درد» يعني تشتكي بطنك بالفارسية، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
    الرابعة عشرة: الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض، فمن شروطها: الطهارة، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة. وستر العورة، يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الإحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه. والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة لما أخل بها، فقال له: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» خرجه مسلم. ومثله حديث رفاعة بن رافع، أخرجه الدارقطني وغيره. قال علماؤنا: فبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أركان الصلاة، وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات، وعن التسبيح في الركوع والسجود، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام. أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما. وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء، لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع.
    وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام.
    وقال بعض أصحابه: الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب، وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة، وهو قول الحميدي، ورواية عن الأوزاعي. واحتجوا بقوله عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» أخرجه البخاري. قالوا: فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل، لأنه المبلغ عن الله مراده. وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور. وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول: من أسقط من التكبيرة في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، وإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو، فإن لم يفعل في شيء عليه، وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها. وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه.
    وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم: ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإن تركه ساهيا سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شيء عليه، ولا ينبغي لاحد أن يترك التكبير عامدا، لأنه سنة من سنن الصلاة، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية.
    قلت: هذا هو الصحيح، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم. وقد ترجم البخاري رحمه الله (باب إتمام التكبير في الركوع والسجود) وساق حديث مطرف بن عبد الله قال: صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحديث عكرمة قال: رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أم لك! فدلك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم. روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا علي يوم الجمل صلاة اذكرنا بها صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمدا.
    قلت: أتراهم أعادوا الصلاة! فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته! ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض، والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه، وبالله التوفيق.
    الخامسة عشرة: وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور، وأوجبه إسحاق بن راهويه، وأن من تركه أعاد الصلاة، لقوله عليه السلام: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم».
    السادسة عشرة: وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك، فقال مالك وأصحابه: الجلوس الأول والتشهد له سنتان. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا: هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة، والقراض من الإجارات، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الامام راكعا. واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة. احتج من لم يوجبه بأن قال: لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به، كما لو ترك سجدة أو ركعة، ويراعى فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة، ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما.
    وفي حديث عبد الله بن بحينة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائما فقاموا، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم، فلو كان الجلوس فرضا لم يسقطه النسيان والسهو، لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم. واختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك. وهي:
    السابعة عشرة على خمسة أقوال:
    أحدها: أن الجلوس فرض والتشهيد فرض والسلام فرض. وممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية، وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة، وبه قال داود. قال الشافعي: من ترك التشهد الأول والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه. وإذا ترك التشهد الأخير ساهيا أو عامدا أعاد. واحتجوا بأن بيان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة فرض، لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان إلا ما خرج بدليل وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلوا كما رأيتموني أصلي». القول الثاني: أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب، وإنما ذلك كله سنة مسنونة، هذا قول بعض البصريين، وإليه ذهب إبراهيم بن علية، وصرح بقياس الجلسة الأخيرة على الأولى، فخالف الجمهور وشذ، إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله. ومن حجتهم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا رفع الامام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته» وهو حديث لا يصح على ما قاله أبو عمر، وقد بيناه في كتاب المقتبس. وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس.
    القول الثالث: إن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا. قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين. واحتجوا بحديث ابن المبارك عن الإفريقي عبد الرحمن بن زياد وهو ضعيف، وفيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته». قال ابن العربي: وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس:
    ويرى الخروج من الصلاة بضرطة *** أين الضراط من السلام عليكم
    قال ابن العربي: وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين، أما أحدهما: فروى عبد الملك عن عبد الملك أن من سلم من ركعتين متلاعبا، فخرج البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه، وهذا مذهب أهل العراق بعينه. وأما الثاني: فوقع في الكتب المنبوذة أن الامام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقيل السلام أنه يجزئ من خلفه، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى، وإن عمرت به المجالس للذكرى. القول الرابع: إن الجلوس فرض والسلام فرض، وليس التشهد بواجب. وممن قال هذا مالك بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية. واحتجوا بأن قالوا: ليس شيء من الذكر يجب إلا تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن. القول الخامس: أن التشهد والجلوس واجبان، وليس السلام بواجب، قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه، واحتج إسحاق بحديث ابن مسعود حين علمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد وقال له: «إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك». قال الدارقطني: قوله: «إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك» أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وشبابة ثقة. وقد تابعه غسان بن الربيع على ذلك، جعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود ولم يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    الثامنة عشرة: واختلف العلماء في السلام، فقيل: واجب، وقيل: ليس بواجب. والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث علي الصحيح خرجه أبو داود والترمذي ورواه سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق. قال عبد الرحمن بن مهدي: لو افتتح رجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله عز وجل ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه، وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث علي، وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه. وحسبك به! وقد اختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح وهي:
    التاسعة عشرة: فقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب والأوزاعي وعبد الرحمن وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة. وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول، والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة، وهو الصواب وعليه الجمهور، وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة.
    الموفية عشرين: واختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة، فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء: لا يجزئ إلا التكبير، لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد. هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين، ولا يجزئ عند مالك إلا الله أكبر لا غير ذلك. وكذلك قال الشافعي وزاد: ويجزئ الله الأكبر والله الكبير والحجة لمالك حديث عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}. وحديث علي: وتحريمها التكبير. وحديث الاعرابي: فكبر.
    وفي سنن ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا: حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي يقول: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال: الله أكبر. وهذا نص صريح وحديث صحيح في تعيين لفظ التكبير، قال الشاعر:
    رأيت الله أكبر كل شيء *** محاولة وأعظمه جنودا
    ثم إنه يتضمن القدم، وليس يتضمنه كبير ولا عظيم، فكان أبلغ في المعنى، والله أعلم.
    وقال أبو حنيفة: إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه، وإن قال: اللهم اغفر لي لم يجزه، وبه قال محمد بن الحسن.
    وقال أبو يوسف: لا يجزئه إذا كان يحسن التكبير. وكان الحكم بن عتيبة يقول: إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه. قال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من أحسن القراءة فهلل وكبر ولم يقرأ أن صلاته فاسدة، فمن كان هذا مذهبه فاللازم له أن يقول لا يجزيه مكان التكبير غيره، كما لا يجزئ مكان القراءة غيرها.
    وقال أبو حنيفة: يجزئه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية. قال ابن المنذر: لا يجزيه لأنه خلاف ما عليه جماعات المسلمين، وخلاف ما علم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته، ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال. والله أعلم.
    الحادية والعشرون: واتفقت الامة على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام إلا شيئا روي عن بعض أصحابنا يأتي الكلام عليه في آية الطهارة، وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به على الوجه المطلوب منه. قال ابن العربي: والأصل في كل نية أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنوي بها، أو قبل ذلك بشرط استصحابها، فإن تقدمت النية وطرأت غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها، كما لا يعتد بالنية إذا وقعت بعد التلبس بالفعل، وقد رخص في تقديمها في الصوم لعظم الحرج في اقترانها بأوله. قال ابن العربي: وقال لنا أبو الحسن القروي بثغر عسقلان: سمعت إمام الحرمين يقول: يحضر الإنسان عند التلبس بالصلاة النية، ويجرد النظر في الصانع وحدوث العالم والنبوات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة، قال: ولا يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وإنما يكون ذلك في أوحى لحظة، لأن تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان الطويل، وتذكارها يكون في لحظة، ومن تمام النية أن تكون مستصحبة على الصلاة كلها، إلا أن ذلك لما كان أمرا يتعذر عليه سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها. سمعت شيخنا أبا بكر الفهري بالمسجد الأقصى يقول قال محمد بن سحنون: رأيت أبي سحنونا ربما يكمل الصلاة فيعيدها، فقلت له ما هذا؟ فقال: عزبت نيتي في أثنائها فلأجل ذلك أعدتها.
    قلت: فهذه جملة من أحكام الصلاة، وسائر أحكامها يأتي بيانها في مواضعها من هذا الكتاب بحول الله تعالى، فيأتي ذكر الركوع وصلاة الجماعة والقبلة والمبادرة إلى الأوقات، وبعض صلاة الخوف في هذه السورة، ويأتي ذكر قصر الصلاة وصلاة الخوف، في النساء والأوقات في هود وسبحان والروم وصلاة الليل في المزمل وسجود التلاوة في الأعراف وسجود الشكر في ص كل في موضعه إن شاء الله تعالى.
    الثانية والعشرون: قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} رزقناهم: أعطيناهم، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن الحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه، وإن الله لا يرزق الحرام وإنما يرزق الحلال، والرزق لا يكون إلا بمعنى الملك. قالوا: فلو نشأ صبي مع اللصوص ولم يأكل شيئا إلا ما أطعمه اللصوص إلى أن بلغ وقوى وصار لصا، ثم لم يزل يتلصص ويأكل ما تلصصه إلى أن مات، فإن الله لم يرزقه شيئا إذ لم يملكه، وإنه يموت ولم يأكل من رزق الله شيئا. وهذا فاسد، والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقا، ولا البهائم التي ترتع في الصحراء، ولا السخال من البهائم، لأن لبن أمهاتها ملك لصاحبها دون السخال. ولما اجتمعت الامة على أن الطفل والسخال والبهائم مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين علم أن الرزق هو الغذاء ولان الامة مجمعة على أن العبيد والإماء مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين، فعلم أن الرزق ما قلناه لا ما قالوه. والذي يدل على أنه لا رازق سواه قوله الحق: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3] وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وقال: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} [هود: 6] وهذا قاطع، فالله تعالى رازق حقيقة وابن آدم رازق تجوزا، لأنه يملك ملكا منتزعا كما بيناه في الفاتحة، مرزوق حقيقة كالبهائم التي لا ملك لها، إلا أن الشيء إذا كان مأذونا له في تناوله فهو حلال حكما، وما كان منه غير مأذون له في تناوله فهو حرام حكما، وجميع ذلك رزق. وقد خرج بعض النبلاء من قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] فقال: ذكر المغفرة يشير إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام.
    الثالثة والعشرون: قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ} الرزق مصدر رزق يرزق رزقا ورزقا، فالرزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وجمعه أرزاق، والرزق: العطاء. والرازقية: ثياب كتان بيض. وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم. والرزقه: المرة الواحدة، هكذا قال أهل اللغة.
    وقال ابن السكيت: الرزق بلغة أزد شنوءة: الشكر، وهو قوله عز وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] أي شكركم التكذيب. ويقول: رزقني أي شكرني.
    الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {يُنْفِقُونَ} ينفقون: يخرجون. والإنفاق: إخراج المال من اليد، ومنه نفق البيع: أي خرج من يد البائع إلى المشتري. ونفقت الدابة: خرجت روحها، ومنه النافقاء لجحر اليربوع الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى. ومنه المنافق، لأنه يخرج من الايمان أو يخرج الايمان من قلبه. ونيفق السراويل معروفة وهو مخرج الرجل منها. ونفق الزاد: فنى وأنفقه صاحبه. وأنفق القوم: فني زادهم، ومنه قوله تعالى: {إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} [الإسراء: 100].
    الخامسة والعشرون: واختلف العلماء في المراد بالنفقة هاهنا، فقيل: الزكاة المفروضة روي عن ابن عباس لمقارنتها الصلاة.
    وقيل: نفقة الرجل على أهله روي عن ابن مسعود لان ذلك أفضل النفقة. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك». وروي عن ثوبان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله» قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال ثم قال أبو قلابة: وأى رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم.
    وقيل: المراد صدقة التطوع روي عن الضحاك نظرا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة، فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوع، فإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم تكن إلا التطوع. قال الضحاك: كانت النفقة قربانا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر جدتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في براءة.
    وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة، لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها.
    وقيل: هو عام وهو الصحيح، لأنه خرج مخرج المدح في الإنفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعن في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه.
    وقيل: الايمان بالغيب حظ القلب. وإقام الصلاة حظ البدن. ومما رزقناهم ينفقون حظ المال، وهذا ظاهر.
    وقال بعض المتقدمين في تأويل قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} أي مما علمناهم يعلمون، حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري
    {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
    قيل: المراد مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وفيه نزلت، ونزلت الأولى في مؤمني العرب.
    وقيل: الآيتان جميعا في المؤمنين، وعليه فإعراب {الَّذِينَ} خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف أي وهم الذين. ومن جعلها في صنفين فإعراب {الَّذِينَ} رفع بالابتداء، وخبره {أُولئِكَ عَلى هُدىً} ويحتمل الخفض عطفا.
    قوله تعالى: {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني القرآن {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني الكتب السالفة، بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا} [البقرة: 91] الآية. ويقال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب، فلما قال: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 3] قالوا: نحن نقيم الصلاة، فلما قال: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} قالوا: نحن ننفق ونتصدق، فلما قال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} نفروا من ذلك.
    وفي حديث أبي ذر قال قلت: يا رسول الله كم كتابا أنزل الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان». الحديث أخرجه الحسين الآجري وأبو حاتم البستي. وهنا مسألة: إن قال قائل: كيف يمكن الايمان بجميعها مع تنافي أحكامها؟ قيل له فيه جوابان: أحدهما أن الايمان بأن جميعها نزل من عند الله، وهو قول من أسقط التعبد بما تقدم من الشرائع.
    الثاني أن الايمان بما لم ينسخ منها، وهذا قول من أوجب التزام الشرائع المتقدمة، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
    قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي وبالبعث والنشر هم عالمون. واليقين: العلم دون الشك، يقال منه: يقنت الامر بالكسر يقنا، وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى، وأنا على يقين منه. وإنما صارت الياء واوا في قولك: موقن، للضمة قبلها، وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت مييقن والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها وكذلك الجمع. وربما عبروا باليقين عن الظن، ومنه قول علمائنا في اليمين اللغو: هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا شيء عليه، قال الشاعر:
    تحسب هواس وأيقن أنني *** بها مفتد من واحد لا أغامره
    يقول: تشمم الأسد ناقتي، يظن أنني مفتد بها منه، وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير، وسيأتي. والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها، كما أن الدنيا مشتقة من الدنو، على ما يأتي.

    {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
    قال النحاس أهل نجد يقولون: ألاك، وبعضهم يقول: ألا لك، والكاف للخطاب. قال الكسائي: من قال أولئك فواحدة ذلك، ومن قال ألاك فواحدة ذاك، وألالك مثل أولئك، وأنشد ابن السكيت:
    ألا لك قومي لم يكونوا أشابه *** وهل يعظ الضليل إلا ألالكا
    وربما قالوا: أولئك في غير العقلاء، قال الشاعر:
    ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام
    وقال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} [الإسراء: 36] وقال علماؤنا: إن في قوله تعالى: {مِنْ رَبِّهِمْ} ردا على القدرية في قولهم: يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم ولو كان كما قالوا لقال: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، وقد تقدم الكلام فيه وفي الهدى فلا معنى لاعادة ذلك. {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}… {رَبِّهِمْ} يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وخبره {الْمُفْلِحُونَ}، والثاني وخبره خبر الأول، ويجوز أن تكون {رَبِّهِمْ} زائدة يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عمادا و{الْمُفْلِحُونَ} خبر {أُولئِكَ}.
    والفلح أصله في اللغة الشق والقطع، قال الشاعر:
    إن الحديد بالحديد يفلح ***
    أي يشق، ومنه فلاحه الأرضين إنما هو شقها للحرث، قال أبو عبيد. ولذلك سمي الأكار فلاحا. ويقال للذي شقت شفته السفلى أفلح، وهو بين الفلحة، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. وقد يستعمل في الفوز والبقاء، وهو أصله أيضا في اللغة، ومنه قول الرجل لامرأته: استفلحي بأمرك، معناه فوزي بأمرك، وقال الشاعر:
    لو كان حي مدرك الفلاح *** أدركه ملاعب الرماح
    وقال الأضبط بن قريع السعدي في الجاهلية الجهلاء:
    لكل هم من الهموم سعة *** والمسي والصبح لا فلاح معه
    يقول: ليس مع كر الليل والنهار بقاء.
    وقال آخر:
    نحل بلادا كلها حل قبلنا *** ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
    أي البقاء: وقال عبيد:
    أفلح بما شئت فقد يدرك بالض *** عف وقد يخدع الأريب
    أي أبق بما شئت من كيس وحمق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل. فمعنى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أي الفائزون بالجنة والباقون فيها.
    وقال ابن أبي إسحاق: المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر مأمنه هربوا، والمعنى واحد. وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث: حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. أخرجه أبو داود. فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سماه فلاحا. والفلاح بتشديد اللام: المكاري في قول القائل:
    لها رطل تكيل الزيت فيه *** وفلاح يسوق لها حمارا
    ثم الفلاح في العرف: الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
    مسألة: إن قال قائل كيف قرأ حمزة: عليهم واليهم ولديهم، ولم يقرأ من ربهم ولا فيهم ولا جنتيهم؟ فالجواب أن عليهم واليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف، والأصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرت الهاء على ضمتها، وليس ذلك في فيهم ولا من ربهم ولا جنتيهم، ووافقه الكسائي في: {عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} و{إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} على ما هو معروف من القراءة عنهما.

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.