تخطى إلى المحتوى

دروس وعبر من محن بعض العلماء 2024

دروس وعبر من محن بعض العلماء

أهمية دراسة حياة الصالحين:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

الرسول هو معلِّمُنا ومرشدنا الأول، فيجب على كل مسلمٍ ومسلمة أن يَدرُس سيرته من ولادته إلى وفاته، والاقتداء بهدْيه في كل الأمور، ثم نَدرُس سيرة الصحابة، وفي مقدمتهم الرعيل الأول؛ أمثال: أبي بكر، وعمر، وعلي، وعثمان، وغيرهم، وباقي الصحابة من بداية إسلامهم إلى وفاتهم.

كذلك الاهتمام بحياة الصالحين من التابعين وتابعي التابعين، ومَن سار على منهجهم من الصالحين إلى يوم الدين.

لا نُنكر أن حياة معظم أولئك الناس كلها صلاح، لكن الذي يهمُّنا غالبًا في سيرتهم هو جوانب معيَّنة مُضيئة من حياتهم، نأخذ منها العِبر والدروس.

في هذا المقال نحاول أن نَستعرض جانبًا من حياة بعض الصالحين، والمِحَن والابتلاءات التي مرُّوا بها؛ عسى أن نَستفيد منها، وتكون لنا درسًا نَستعين به في حياتنا.

محنة الإمام أحمد بن حنبل

نشأة الإمام:
وُلِد أحمد بن حنبل في بغداد سنة 161 هجرية، مات أبوه وهو صغير، فربَّته أمُّه أفضل تربيةٍ، وكانت لا تَبخَل عليه بالنفقة بالرغم من فَقرها.

شبَّ الإمام محبًّا للعلم، فحفِظ كتاب الله وهو فتًى صغير، وتعلَّم الحديث وهو في الخامسة عشرة، ورحَل في طلب الحديث إلى الشام والحجاز واليمن، ومختلف مدن العراق وعُمرُه عشرون سنة.

كان يعيش على كِراء عقار ترَكه له أبوه، وكان يرفض عطايا الخلفاء، ولا يَقبل مِنحة من أحد، فعاش عفيفًا، قالوا: إذا رأيتَ الرجل يحب الإمام أحمد، فاعْلَم أنه صاحبُ سُنةٍ.

قال الشافعي – وهو من شيوخ الإمام أحمد -: خرَجتُ من بغداد فما خلَفتُ بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفْقه من أحمد بن حنبل.

لقد ترَك لنا كتبًا كثيرة، أشهرها: مسند الإمام أحمد، الذي حوى أكثر من أربعين ألف حديث، وشُرِح من قِبَل الكثير من العلماء، وكذلك كتاب "السُّنة"، وكتاب "معرفة الرجال"، وكتاب "الرد على الجهمية والزنادقة".

قال أبو سراج بن خزيمة – وهو ممن كان مع أحمد بن حنبل في الكُتَّاب صغيرًا -: إن أبي جعل يَعجب من أدب أحمد وحُسن طريقته، فقال لنا ذات يوم:أنا أُنفق على أولادي وأجيئهم بالمؤدِّبين على أن يتأدَّبوا، فما أراهم يُفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيمٌ، انظر كيف يَخرج؟!

الفِرق الإسلامية الضالة:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن بني إسرائيل افترَقت على إحدى وسبعين فِرقة، وإن أُمتي ستَفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة))؛ رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني.

لقد بدأ تفرُّق الأمة الإسلامية منذ عهد علي بن أبي طالب، عندما نَشأ الخوارج، ثم ظهَرت الشيعة.

وما زالت الفِرَق الضالة تظهر باستمرارٍ، وأهم تلك الفرق الآن هي الشيعة والأحمدية التي ظهَرت في الهند بمساعدة الاستعمار الإنجليزي آنذاك، والآن أصبح لها نشاط مَحموم في إفريقيا؛ لذا يجب على كل مسلمٍ ومسلمة أن يكون مُلِمًّا بالفرق المنحرفة؛ حتى يَحذَرها، فبعض تلك الجماعات يكون انتماؤها للإسلام انتماءً اسميًّا فقط؛ مثل: الأحمدية التي أجمَع علماء الأمة على كفرهم، والبعض الآخر، وإن لم يكن خارجًا عن الإسلام، فإن انحرافه العقدي شيءٌ خطير يَجعل المسلم على شَفا حُفرة من نار.

من بين تلك الفرق أيضًا المعتزلة، وقد أصبحت الآن نادرة الوجود، فلقد أخذت مكانها فرقٌ أخرى لا تقِل عنها ضلالة.

لقد كان للمعتزلة سيادة في عهد المأمون وأخيه المعتصم، وابن المعتصم الواثق، تلك الفرقة تَعتمد على التفسير العقلي لكلِّ أمور الدين؛ مما تسبَّب في تأويلهم الباطل لمعظم المسائل الإسلامية، وذلك هو سببُ انحرافهم عن العقيدة الصحيحة.

فتنة خلْق القرآن:
البعض يقول: إن القرآن مخلوق؛ مثل الأرض، ومثل الحيوان، ومثل الإنسان، وهذا الزعم الباطل يجرُّ إلى أمور أخرى خطيرة؛ فالقول بخلْق القرآن يُبطل قوله تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54].

فتلك الآية تعني أن الله يَخلق الخلق ويأمر بالكلام، فزَعْمُ المعتزلة يَنفي كلَّ ذلك، وكل شيء يَعتبره مخلوقًا، كذلك كلام الناس، وهو مخلوق – لا شكَّ في ذلك – يتساوَى مع كلام الله إذا زعَمنا أنه مخلوقٌ، والدليل على أن القرآن كلام الله هو قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].

فالقرآن كلام الله، فالله يتكلَّم كما نحن نتكلَّم، لكن بكيفيَّة أخرى لا نَعرفها، كما يَسمع ويُبصر بطريقة لا نُدركها، فالمسلم يقول كما قال سفيان بن عُيينة: القرآن كلام الله، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومَن شكَّ في كفره، فهو كافرٌ.

تفاصيل مِحنة ابن حنبل:
لقد ابتدأت الفتنة الحقيقية في نهاية عهد المأمون سنة 218 هجرية، ولقد كانت البدعة موجودة قبل ذلك، لكن كان الناس أحرارًا في اعتقادهم، حتى جاء كبار المعتزلة؛ مثل: أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة عند المأمون، ومحمد بن عبدالملك بن الزيات وزير المعتصم والواثق، وهرثمة أحد رجال الخلافة.

كان المأمون في البداية يَنشر تلك البدعة بلا إكراهٍ للناس، لكن لَمَّا رأى انصراف الناس عنها والْتزامَهم بحجَّة العلماء؛ لأن حجتهم كانت واضحة وأقوى، فلمَّا رأى ذلك، أصرَّ على استخدام القوة، وبدأ بالعلماء؛ ليُجبرهم على القول بتلك البدعة، فأخذ الكثير من العلماء بمبدأ التقيَّة، وخافوا من التعذيب، فأجابوا المأمون إلى بِدعته، ولم يَثبُت في تلك الفتنة أيام المأمون إلا قلَّة من العلماء، ومن بينهم عالمان جليلان؛ هما: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح؛ حيث أُرسِلا من بغداد إلى المأمون في طرسوس، وهي في تركيا، حيت يُقيم المأمون.

مات محمد بن نوح في الطريق وهو مكبَّل بالأغلال، فبقِي أحمد بن حنبل وحيدًا أمام جبروت السلطان؛ إن أجاب المأمون إلى بدعته، فستَسير الأمة كلها معه، وإن قاوَم الطغيان، فسيتعرَّض للعذاب الشديد؟!

قال له أحد الرجال: يا هذا، أنت اليوم رأس الناس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ ليُجبينَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلْق الله تعالى، وإن أنت لم تُجب ليَمْتَنِعَنَّ خلق كثيرٌ من الناس، ومع هذا فإن الرجل إن لم يَقتلك، فإنك تموت، ولا بدَّ من الموت؛ فاتَّقِ الله، ولا تُجبهم إلى شيءٍ، فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ما شاء الله.

كان المأمون مصرًّا على قتْل كل مَن يَرفض قوله قائلاً: لأَقْتُلنَّه، وأُقَطِّعَنَّه إرْبًا إرْبًا؛ لهذا كان ابن حنبل يدعو الله ألا يَجمعه بالمأمون، ثم لم يَمضِ زمن كثير حتى جاءَه خبر وفاة المأمون، واستجاب الله دعاء الإمام.

جاء بعده المعتصم الذي سار على نهْج أخيه المأمون، فعذَّب ابن حنبل عذابًا شديدًا.

أرسل أحمد إلى المعتصم وناظَر أحمد بن أبي دؤاد كبير القضاة، ومن كبار المعتزلة، فأفْحَمه ابن حنبل، ولقد استمرت تلك المناظرات ثلاثة أيام، وكان فقهاء الخلافة يُحرِّضون المعتصم على قتْل الإمام، ويقولون: اقتُله ودمُه في رقابنا.

قال أحمد في السجن: لست أُبالي بالحبس، وما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتْلاً بالسيف؛ إنما أخاف فتنة السَّوط، فسمِعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبدالله، فما هو إلا سوطان، ثم لا تدري أين يَقع الباقي، فكأنه سُرِّي عنه، قالوا له في التقيَّة من الإجابة، فقال: فماذا تصنعون بحديث خبَّاب: ((إنه كان فيمن كان قبلكم، يُؤتى بالرجل، فيُنشر بالمِنشار))، فأَيِسْنا منه، ثم أمر بخلْع ملابسه وضرْبه بالسِّياط، ويقول للجلاَّدين: أوجِع، قطَع الله يدَك، واستمرَّ ذلك التعذيب فترة طويلة والإمام صابرٌ مُحتسب، ثابت على عقيدته لا يَتزحزَح، ثم قال للجلادين: تقدَّموا، فلمَّا ضُرِب سوطًا، قال: بسم الله، فلمَّا ضُرِب الثاني، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلمَّا ضُرِب الثالث، قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلمَّا ضُرِب الرابع، قال: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51].

واستمرَّ مسجونًا ثلاثين شهرًا أو أكثر، ثم أمَر المعتصم بإطلاق أحمد من الحبس، ولَمَّا دخَل بيته، لم يَقدِر على الحركة من قوة الضرب؛ ولهذا لَمَّا قيل للإمام أحمد أيام المحنة: يا أبا عبدالله، انتصَر الباطل على الحق، قال: والله ما انتصَر الباطل على الحق.

ثم تولَّى الخلافة من بعده ابنه الواثق سنة 227 هجرية، الذي أظهر ما أظهَر من المحنة والميل إلى ابن أبي دؤاد – رأس المعتزلة – وأصحابه، واشتدَّ الأمر على أهل بغداد، فمُنِع الإمام أحمد من الخروج للدرس والاجتماع للنَّاس، فانقطَع الإمام أحمد عن التدريس مدة تزيد على خمس سنوات، حتى توفي الواثق (232هـ).

مقتل العالم نُعيم بن حَمَّاد:
لقد قُتِل في الفتنة علماء كثيرون؛ منهم: نُعيم بن حماد، وهو عالم حديث مشهور، وهو شيخ العالم البخاري المشهور.

امتحَن والي مصر العالمَ الجليل نُعيم بن حمَّاد، فردَّ تلك البدعة وأصرَّ على قول الحق، فقيَّده وأرسله إلى المعتصم في سامراء بالعراق، لكنه استمرَّ في ثباته على الحق، فسجَنه المعتصم بقيوده، واستمرَّ في السجن سبع سنوات حتى مات سنة 229 هجرية، ولَمَّا شعَر بدُنوِّ أجَله، أوصى بأن يُدفَن في قيوده وقال: إني مخاصمٌ؛ أي: عندما يقف بين يدي ربِّه؛ ليُخاصم مَن أذاه في الله وظلَمه بغير حق.

ظنَّ خصومه أنهم استراحوا من عدوِّهم، ورأوا أن ما فعَلوه به لم يَشفِ غيظهم؛ لذا عزَموا على أن يَجروه بقيوده، وألْقَوه في حفرة، وترَكوه، فلم يُغسلوه ولم يُكفِّنوه، ولم يُصلوا عليه.

المناظرة التي أنهت المحنة:
كان الخليفة الواثق مستمرًّا في فرْض بدعته على العلماء، حتى جاءت المناظرة التي أنهت تلك المِحنة، إنها المقابلة بين أحد رؤوس الفتنة، وهو القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وأحمد بن إسحاق الأزدي وهو مقيَّد بالسلاسل.

قال الشيخ: يا بن أبي دؤاد، أقولُك بخلق القرآن واجبٌ في أصول الدين، فلا يكون كاملاً إلا بما قلت؟ قال ابن أبي دؤاد: نعم.

قال الشيخ: قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

فهل كان الله الصادق في إكمال دينه، أم أنت الصادق في نُقصانه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، واحدة.

قال الشيخ: هل ستَر الرسول شيئًا مما أُمر به عن المسلمين في أمر دينهم؟ قال ابن أبي دؤاد: لا، قال الشيخ: أفدعا إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، قال الشيخ: اثنتان يا أمير المؤمنين.

قال الشيخ: أمقالتك عَلِمها رسول الله أم جَهِلها؟ قال: عَلِمها، قال الشيخ: أفدعا إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد، قال الشيخ: ثلاث يا أمير المؤمنين.

قال الشيخ: أخبِرني يا بن أبي دؤاد لَمَّا علِم رسول الله مقالتك التي دعوت الناس إليها، هل وسِعه أن أمسَك عنها أم لا؟ قال ابن أبي دؤاد: علِمها وسكت عنها، قال الشيخ: وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم؟ قال: نعم، قال الشيخ: أفوسِع رسولَ الله أن علِمها وأمسَك عنها كما زعَمتَ، ولم يُطالب بها أُمَّته؟ قال: نعم، فأعرَض الشيخ عنه، وأقبل على الخليفة يقول: يا أمير المؤمنين، إن لم يَسعه ما وسِع رسول الله السكوت عنه، فلا وسَّع الله على مَن لم يَسعه ما وسِع رسول الله.

قال الواثق: نعم لا وسَّع الله على مَن لم يَسعه ما وسِع رسول الله أن يسكتَ عنه، فبكى وأمر بحلِّ قيوده، فجاذب الشيخ الحداد، وقال: يَوَدُّ لو يَحتفظ بتلك القيود، قال الواثق: ولِم؟ قال الشيخ: نوَيت أن أجعلها بيني وبين كفَني؛ لأُخاصم بها هذا الظالم يوم القيامة، وبكى الشيخ، وبكى الواثق، وبكى الحاضرون.

وبعد هذه المناظرة بيَّت الولاة النية على رفْع المِحنة عن العباد، فلمَّا تولَّى المتوكل الخلافة سنة 232هـ، انتصر لأهل السنة؛ فإنه كان محبًّا للسُّنة وأهلها، ورفَع المحنة عن الناس، وكتَب إلى الآفاق: لا يتكلَّم أحد في القول بخلق القرآن.

يتبع

    نهاية الظالمين:
    عن أبي موسى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلته؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]))؛ متفق عليه.

    لقد غفَل أولئك الظالمون أن الله كان لهم بالمرصاد، فإن يُمهل، لكنه لا يُهمل عقاب الظالمين العقابَ الأليم.

    عاقبة أحمد بن أبي دؤاد:
    أما القاضي المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد، الذي كان يُفتي بجواز ضرْب العلماء وسجْنهم وقتْلهم، فإنه سُئل بعد قتْل الواثق للإمام أحمد بن نصر الخزاعي، فقال: ضرَبني الله بالفالج – أي: الشلل – إنْ قتله الواثقُ إلا كافرًا، فيشاء الله – جل وعلا – بقُدرته وعظَمته أن يُصاب هذا الرجل في آخر حياته بالفالج، فمكَث أربع سنوات قبل موته طريحًا في فراشه.

    لقد حبَسه الله وعذَّبه في جلده، كما تسبَّب هو في حبْس الإمام أحمد وتعذيبه، وزاد الله عليه همَّه وغمَّه، فعزله المتوكل من وظيفته، كما تسبَّب هو في فصْل عشرات ومئات الأشخاص من وظائفهم، بل أمَر المتوكل بمُصادرة جميع أمواله، ثم أُتِي بولده محمد، فصُودِرت أمواله ومات قبل أبيه بشهرٍ، ثم مات الأب بعده بهمِّه وغمِّه، وتلك – والله – سُنة الله في خلقه.

    نهاية الجلاَّدين:
    ومن الناس الذين جعَلهم الله – عز وجل – عِبرة لغيرهم في هذه المِحنة: الجلادون الذين كانوا يَضربون الإمام أحمد بالسياط، فكان منهم رجلان: أبو ذر، وأبو العروق.

    أما أبو ذر، فكان ممن يضرب الإمامَ بين يدي المعتصم، فأُصيب بالبَرص والمرض، وتقطَّع جسمه، وأهلَكه الله بسوء عمله، وأما أبو العروق، فكان هلاكه أسوأَ من صاحبه، فمكَث خمسة وأربعين يومًا يَنبِح كما يَنبِح الكلب، ابتلاه الله بمرضٍ، فصار يَنبح كالكلاب، سبحان الله، هل نفع الجلادين أن يقول أحدهم: أنا عبدٌ مأمور؟ كلاَّ، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

    جزاء الوزير ابن الزيات:
    أما ابن الزيَّات، فقد قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتْل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين، أحرَقني الله بالنار، إن قتَله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرًا، أمَّا هرثمة، فقال: قطَّعني الله إرْبًا إرْبًا، إن قتله إلا كافرًا.

    هكذا قالوا، فكيف كانت نهاية كل واحد منهم؟

    أما ابن الزيات الوزير، فقد ساءت الأحوال بينه وبين المتوكل، فأصدر أمرًا بالقبض عليه واعتقاله، فقُيِّد بالحديد وأُدخِل السجن، وصُودِرت أمواله وبساتينه، ثم أمَر الخليفة أن يُعذَّب، وأن يُمنع من الكلام والنوم، ثم وُضِع بعد ذلك في تَنُّورٍ من خشبٍ، فيه مسامير قائمة في أسفله، فأُقيم عليها، حتى مات وهو كذلك.

    مصير هرثمة:
    وأما هرثمة الذي قال: قطَّعني الله إرْبًا إرْبًا، فقد هرب من المتوكل، فمرَّ بقبيلة خزاعة – قبيلةِ الإمام أحمد بن نصر الخزاعي – فعرَفه رجل من الحي، فصرَخ بالناس: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتَل ابن عمِّكم أحمد بن نصر، فاجتمع الناس عليه، وقطَّعوه إرْبًا إرْبًا، وجزاء سيِّئة بمثلها.

    أخي الكريم، أُختي المسلمة، إنها لعبرة لمن أراد أن يَعتبر، فهكذا جزاء كلِّ مَن عذَّب أولياء الله، ومنَع نشْر الحق بين الناس.

    دروس مستفادة من تلك المحنة:
    • قد عاش ابن حنبل يتيمًا، فاليُتم قد يَصنع الرجال؛ لأنه يَجعل اليتيم يعتمد على نفسه.

    • هكذا كان ابن حنبل مجاهدًا طالبًا للعلم، معتمدًا على نفسه، فكان من الأئمة الذين يَهتدي الناس بهدْيهم.

    • ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2 – 3].

    ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].

    • المؤمن الصادق الإيمان، يَزداد إيمانًا مع إيمانه، وضِعاف النفوس يَسقطون في الهاوِية، وهذا الذي حدَث في تلك الفتنة؛ فلم يَثبُت فيها إلا الصالحون؛ أمثال ابن حنبل.

    • دائمًا الطغاة المستبدون يُحاربون قلب الأُمة، وهم العلماء والدعاة المخلصون، فإذا استطاعوا التخلُّص منهم، أمكَنهم السيطرة على عامة الناس.

    • المؤمن القوي الإيمانِ لا يَشعر بآلام التعذيب في سبيل الله، إلا الضربة الأولى، بل يَنزل عليهم العذاب بردًا وسلامًا، ويَستبدله الله بلذَّة الإيمان؛ هكذا كان ابن حنبل لا يُعذَّب حقيقة، بل الجلادون والطُّغاة هم الذين يُعذَّبون.

    لقد قال أحد الصالحين: لو يَعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه من لذَّة، لحارَبونا عليها بالسيوف.

    إخوة الإيمان، يجب ألا تَخافوا من سطوة المتجبِّرين؛ فإنهم لا سبيلَ لهم إليكم ما دمتُم متمسكين بالحق، ولن يضرَّكم كيدهم شيئًا.

    • العالِم بحاجة إلى النصيحة ككلِّ الناس، خصوصًا أثناء المحن؛ لهذا كان للنصيحتين اللتين تلقَّاهما ابن حنبل أبلغُ الأثر عليه، فازداد ثباتًا على الحق، فمن واجبنا أن نَنصح العلماء المخلصين؛ ليَثبُتوا على الحق.

    • العالِم هو قِبلة الناس، فيجب عليه ألا يأخذ بالرُّخصة، بل يعمل بالعزيمة، فلو أخَذ ابن حنبل ومَن معه من العلماء بالرخصة، لسقَط كل الناس في الفتنة، واتَّبعوا البدعة.

    • دعاء الصالحين مستجاب، فلقد دعا ابن حنبل ألا يرى المأمونَ عندما عرَف أنه مصمِّم على قتْله، فاستجاب الله دعاءَه.

    هل وعى المستبدون تلك الحقيقة، فتجنَّبوا تعذيب الدعاة الصالحين؟ أم أن الشيطان أعمى بصيرتهم، فلا يَدرون أنهم يُهلكون أنفسهم، والصالحون يدْعون عليهم وهم لا يشعرون؟

    • الطغاة والظَّلَمة يَرِث بعضهم بعضًا، فلقد جاء المعتصم بعد المأمون، وسار على نفس الطغيان، ثم جاء الواثق وكان لا يَحيد عن الظلم شيئًا.

    • نُصرة الحق لا تحتاج إلى كثرة أتْباعٍ، أو وفرة أسلحةٍ، بل تحتاج فقط إلى مَن يتمسَّك به، ويتحمَّل في سبيل الحق الأذى.

    الذين ثبَتوا في وجه الطغيان، وتحدَّوا البدعة الضالة المُضلَّة، هم قلة من العلماء، لكنَّهم كانوا أقوى من أيِّ جيشٍ، فلم يأْبَهوا لقوة الخلفاء أو طُغيانهم.

    أخي المسلم، أختي المسلمة، لا تَعتذر بأنك وحيد، ليس أحد معك، فتترك الأشرار يُخربون البلاد وينشرون الفساد، بل تمسَّك بالحق ولا تَعجِز، وكن على يقينٍ بأن الله معك.

    نقول دائمًا للأشرار قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴾ [التوبة: 52].

    منقوووووووول

    شكرا حبيبتى
    الونشريس

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.