وإذا كنا نتحدث عن التوبة ولزومها فإن من أعظم المثبطات عن التوبة وسبل الصد عنها رفقة السوء وصحبة الشر فإنهم عوائق في طريق التوبة: إما لأن صاحبهم يرغب عن التوبة خشية أن يفقد هذه الرفقة، خصوصا إذا لم يكن له صحبة سواهم.
وإما لأن شياطينهم تؤزُّهم على من تسول له نفسه مفارقتهم بالتوبة عما هم فيه من غيٍّ وضلال، وانحراف وانحلال؛ فما يزالون به يرغبونه عن الهدى و يزينون له المحال و الردى، فربما طاوعهم فمات على الكفر كحال أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقد روى الإمام البخاري وغيره عن المسيب بن حزن قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: (أي عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله). فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبدالمطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك). فأنزل الله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}. وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
فإذا كان الله قد ألقى التوبة في قلبك ووقف رفقاء الماضي منك هذا الموقف فلا تلتفت إليهم، وتوجه إلى ربك، وأخلص توبتك، فإن جاء منهم أحد معك فرفقة إلى الله ومحبة في الله بعد أن كانت رفقة إلى النار ومحبة في الشيطان، وإن لم يوافقوك واستمروا في غيهم وزادوا في سخريتهم واستهزائهم، فخل عنهم ولا تصغ سمعا إليهم، ودع الكلاب تنبح والقافلة تسير.
وتذكر أن أبا طالب لما أطاع رفاق السوء حرم التوفيق إلى دخول الإسلام.. وأن الطفيل الدوسي لو أطاع تحذير المشركين لما كان سببا هداية قومه دوس.. وأن سعدا لو خاف كلام الناس أو أن يعيروه بموت أمه بسبب إسلامه لارتد.
فلا يحملنك خوف مفارقة أصحابك، أو خشية كلامهم أن تنقطع عن الله، أو تتأخر عن التوبة، ولكن كن معهم كما كان ذو البجادين مع عمه "فقد كان يتيما في الصغر فكفله عمه، فنازعته نفسه إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه كان ينتظر إسلام عمه، فلما نفذ صبره قال: ياعم طال انتظاري لإسلامك وما أرى منك نشاطا. فقال عمه: والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك، فصاح لسان الشوق: نظرة من محمد أحب إلى من الدنيا وما فيها.
فلما استعد للسير جرده عمه من الثياب، فناولته أمه بجادًا، فقطعه نصفين اتزر بأحدهما وارتدى بالآخر. وخرج إلى الهادي البشير والنور المبين.. وما هو إلا قليل حتى نادى منادي الجهاد فخرج مسرعا ففاز بالشهادة. فلما أرادوا أن يدفنوه نزل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى قبره يمهد له لحده بيده الطاهرة الشريفة، وجعل يقول: "اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه".
فما أعظم الفارق بين ذي البجادين وبين كل قليل الهمة مخنث العزم..
نسأل الله أن يرزقنا توبة نصوحا يرضى بها عنا في دنيانا وأخرانا.. آمين.