أبو الفلسفة الحديثة
«أنا أفكر إذن أنا موجود»؛ إن الوجود في أن أفكر ليس جديراً إلا بالنفس، والوجود الجدير بالنفس هو الفكر، بأوضح معانيه، الفكر لا ينصرم بتصرّم الزمان. إن الحالات النفسية من فرح وسرور وحزن وكآبة وغيرها بحاجة الى الفكر، هي تشرق وتغيب، وهذا دليل على طروئها، لأن خاصية الطارئ أن يعبر، لذا لا تستحق صفة الوجود الأصيل. إن الوجود الحق هو الذي يوجد على الدوام، ومن هنا كان الفكر، الذي لا ينقطع عن أن يفكّر. هو الكفالة لكل حالة في النفس، قال ديكارت:
«بدهي كل البداهة، إنني أنا الذي أشك، وأنا الذي أرغب، وأنا الذي أفهم، ولا حاجة الى شيء آخر يزيدني إيضاحاً. ومن المحقق كذلك، إنني قادر على التخيّل: لأن هذه القدرة على التخيّل، رغم القول أن لا شيء مما أتخيل هو شيء حقيقي، لا تعري من الوجود فيّ، ولا تنفك جزءاً من فكري. وأخيراً أنا الشخص عينه الذي يحس، أي الذي يدرك أشياء معينة بواسطة الحواس، لأنني أرى الواقع ضوءاً، وأسمع دوياً، وأحس حرارة».
إذن، ما هي هذه النفس المفكرة؟ وبعبارة أوضح من هو الإنسان؟ لا بد لنا من الرجوع قليلاً الى الوراء، لنعرف الإنسان وما هو وما هي أقسامه؟ جرى العرف قبل ديكارت أن يقسم الإنسان الى ثلاث: الروح والنفس والجسد. إن عالم الروح هو عالم الثوابت (أي الشعور)، وعالم الجسد هو عالم الزوال (أي الحساسية)، وهكذا اعتبرت رابطة النفس بالجسد رابطة حميمة. بدعوى أن النفس تتأثر مباشرة في ذات نفسها بأعمال الجسد. وإن الجـسد ينفـعل مباشرة في ذاته بأهـواء النـفس فيصـبح ذا حياة بذاته، وتصبح ذات شعور بذاتها، وتبقى المرتكزات الثابتة في العقل من عنديات الروح. إن الجسد يعيش، والنفس تشعر، والروح تفكر. ثم جاء ديكارت وغير الأوضاع القائمة قبله أي أنه قسـم الإنسان نفساً وجسداً فقط، يختلف كل الإختلاف عن فلاسـفة الإغريـق وغيرهـم من الفلاسـفة فلا يحذو حـذوهم.
فبالنفس يحصل الفكر وهي خالدة، وبالجسد يحصل الإمتداد وهو فانٍ. إذن الفكر في شرع ديكارت واقع أصيل في النفس، بمنجى من الشك مهما امتد الشك في شكه، وهذا يعني أن النفس بسيطة، لا تتحوّل عن بساطتها، وبساطتها تقوم على أنها فكر لا امتداد له، أي الفكر لا يمت بصلة الى ما هو من صفات الجسم، كالطول والإمتداد والعمق. ومن هنا عدم إعتراف ديكارت للنفس الخالصة، إلا بمزيتين أصيلتين هما: الإدراك والإرادة.
إن النفس في نظر الأقدمين مندمجة بالجسد، وفي نظر ديكارت متصلة به، وبين الإندماج والإتصال فرق مبين، لأن الإندماج في الجسد يجعلها جسداً، والإتصال به يبقيها نفساً.
يتعثر ديكارت كثيراً في أفكاره، حول فكرة الكمال اللامتناهي، وقد استرعت انتباهه أكثر من غيرها، لأنها أكمل وضوحاً وتمييزاً، هي البداهة في أسمى درجاتها، شبيهة كل الشبه ببداهة «أنا أفكر إذن أنا موجود». وقد قال ديكارت في «التأملات» التأمل الرابع ما يلي: «حين أعتبر نفسي شاكاً، أي حين أعتبرني شيئاً ناقصاً يعتمد على سواه، تعرض لذهني، بقوّة في التمييز والوضوح، فكرة عن موجود كامل ومستقل عن غيره، أي فكرة الله.
ووجود هذه الفكرة في نفسي أو كوني أنا، صاحب هذه الفكرة – موجوداً – يجعلني وحده أستخلص الدليل على وجود الله، وعلى أن وجودي مستند إليه تماماً، في جميع لحظات حياتي، ولا أعتقد أن النفس البشرية تستطيع أن تعرف شيئاً ببداهة ويقين أكثر مما تعرف وجود الله».
وهكذا كان الجذب الأول نحو اليقين الأول وهو «أنا أفكر، إذن أنا موجود» والجذب الثاني نحو اليقين الثاني وهو الله.
وبهذا اختلف ديكارت عن الفلاسفة السابقين كأرسطو على طلب الدليل من الكون لوجود الـله، فقاعدة إنتـقال الفـكر عـند الأقدمين لمعرفـة الله هي: «أنا – العالم – الله»، أي من الفـكر الى الـكون ومن الكـون الى الله. وأما ديكـارت فدلـيله هو: «أنا – الـله – العـالم»، أي مـن الفـكر الى الـله ومن اللـه الى العالم.
أما صفات الله فقد حددها في التأمل الثالث من كتابه التأملات «أعني بكلمة الله، جوهراً لا متناهياً أبدياً، ثابتاً، حراً كلي المعرفة والقدرة. منه خلقت وانبثقت، ومنه انبثقت مخلوقة جميع الأشياء الكائنة». فالله عنده لا يختلف عن الله في الأديان. ولكن الوجود في نظره وخلقه يختلف عما عند بعض الفلاسفة أمثال الفارابي. إن الأكوان عند ديكارت والمخلوقات والأفلام قد انبثقت من العدم الى اللاعدم. أما عند الفارابي بعكس ذلك وهي فائضة فيضاً وليست من العدم.
في حـوزة ديـكارت الآن حقيقتـان ثابتـتان، لا يمكن للشيـطان أن يزعزع أركانـهما، لأنهما صـادرتان من الفكر البدهي الواضـح المتميز، وهاتان الحقيقتان هما النفس والله، «أنا أفكر، إذن أنا موجود» و«أنا موجود، إذن الله موجود». وقد قال في ذلك: «في عنقي ميل طبيعي الى الإيمان بوجود العالم، والله لا يضع فيّ مثل هذا الميل الفطري، إن لم يكن ثمة موضوع حقيقي لهذا الميل. إن الله صادق لا يخادع. فشعوري بأن العالم كائن، لا ينجم عن إرادتي، إذن يجب التسليم بوجود في الخارج». هنا لم يعبأ ديكارت بأخطاء الحواس، وضلالات الأحلام. وصفات الله ثابتة، وصفات العالم الخارجي الإمتداد والحركة.
أبدى ديكارت في التأمل الرابع ما يلي: «ليس لي أن أشكو من أن الله، حين أوجدني في الدنيا – لم يشأ أن يجعلني في منزلة أنبل الأشياء وأكملها، بل يدعوني الى الرضا، إنه إذا لم يهبني كمالاً يعصمني من الخطأ، بالوسيلة الأولى التي باشرتها في ما تقدم، والتي تعتمد على معرفة واضحة بدهية لجميع الأشياء الممكن أن أقضي فيها – ترك في مقدوري على الأقل الوسيلة الأخرى، وهي أن أستمسك بالتصميم على أن أمتنع دائماً عن إبداء رأيي في الأشياء التي لم تتبين لي لأني – وإن كنت آنست في ذاتي ضعفاً، مراره قصوري عن أن أحصر ذهني (الإدراك)، باستمرار في حدود فكرة واحدة – أستطيع مع إطالة التأمل ومراجعته، أن أنقشه عن صفحة ذاكرتي نقشاً قوياً يجعلني لا أنفك عن تذكره كلما احتجت إليه. وعلى هذا النحو يتيسّر لي أن أكتسب عادة الخلو من الخطأ، ولما كان هذا أعظم كمال، بالقياس الى الإنسان فإني أحسب ربحي اليوم كثيراً بهذا التأمل، لأنني كشفت عن علّة الخطأة والزلّل».
الخطأ عند ديكارت ليس مردّه من الله أبداً، ولكنه نقص في الإنسان يمكن تلافيه في الإدراك، فليست قوة الإدراك هي الخطأ، ولا قوة الإرادة هي نفس الخطأ، ولكن تسرع الإرادة في التنفيذ خارجة عن حدود الإدراك الواضح المميز. والخلاصة هي: على الإرادة أن تسرع في أحكامها قبل أن تستقبل النور الذي يزوّدها به الإدراك.
كان ديكارت رجلاً مؤمناً متديناً، حتى أنه استأجر بيتاً في استوكهولم قرب الكنيسة كي لا يفوته قدّاس، وكانت صوفيته خارجة من العقل لا من القلب. قال الفيلسوف هيغل بديكارت الذي سمّي بحق أبو الفلسفة الحديثة، لأنه اعتمد في مذهبه على العقل: لقد بلغ تأثير هذا الرجل في عصره، وفي العصور التي تلته درجة ليس فوقها زيادة لمستزيد، فهو بطل من الأبطال، لإعادته بناء الأشياء من البداية، موجداً للفلسفة من جديد، أرضاً حقيقية، أرجعها إليها بعد ضلالها ألف سنة. لقد كان ديكارت فاتحاً عملاقاً، لأنه فتح طريقاً جديدة في الفلسفة للعقول النهمة المتعطشة، التي غايتها الوصول الى الفلسفة عن طريقها الصحيحة المجدية. إن ديكارت، هذا الإنسان المبدع أيما إبداع في منهجه، للتقرب من الحقيقة، الحقيقة المطلقة، هذا الإنسان الذي شقّ درباً جديدة – منفرداً، مؤمناً بالعقل الإنساني – الى الغاية القصوى، الى الله علّة العلل، هو سيد الفلسفة الحديثة، ورائدها الأوّل.