السؤال
هل قراءة القرآن تقتضي التدبر؟ وما رأي الإمام أحمد بن حنبل في هذه المسألة؟ وهل قصته صحيحة عندما قال: "إنه كلم الله في منامه في هذه المسألة، ورد الله عليه بقوله: إن كلًّا منهما له ثواب – القراءة بلا تدبر –"
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله عز وجل قد ندب عباده إلى تدبر القرآن في أكثر من موضع، فقال جل من قائل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].
وقد بين أنه أنزل الكتاب ليتدبر؛ كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [صّ:29].
واللام التي في قوله تعالى: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ تدل على أن القرآن ما نزل لمجرد تلاوة حروفه فقط، وإنما نزل من أجل التدبر في معانيه، والتفكر في مضمونها لأخذ العبر من قصصه، وللاستفادة من مواعظه، وامتثال أمره، والكف عن نهيه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنكار بأنه سيخرج ناس يقرؤون القرآن دون تدبر، فقال صلى الله عليه وسلم: سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن. رواه الطبراني، وحسنه الألباني.
قال المناوي في فيض القدير في شرح هذا الحديث: أي: يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه، ولا تأمل في أحكامه، بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة. اهـ.
وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم التدبر عند التلاوة، والتفاعل مع القرآن، كما في صحيح مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها ، ثم النساء فقرأها ، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مسترسلًا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ.
وروى أبو داود، والنسائي، وغيرهما عن عوف بن مالك – رضي الله عنه – قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.
وقال النووي – رحمه الله تعالى – في التبيان: فإذا شرع في القراءة: فليكن شأنه الخشوع، والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، وأشهر، وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال الله عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] والأحاديث فيه كثيرة، وأقاويل السلف فيه مشهورة، وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها، ويرددونها إلى الصباح، وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة، ومات جماعة حال القراءة … إلى آخر كلامه – رحمه الله -.
وقال ابن القيم – رحمه الله – في مفتاح دار السعادة: لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر، والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين .. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها .. فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف، يردد أحدهم الآية إلى الصباح، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب؛ ولهذا قال ابن مسعود: لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، لا يكن هم أحدكم آخر السورة، وروى أبو أيوب عن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ. اهـ.
ومن قرأ شيئًا من القرآن غير متدبر له: يؤجر على التلاوة؛ لعموم حديث الترمذي: من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة .. فهذا العموم يدخل فيه غير المتدبر، ويدخل فيه من لا يفهم اللغة التي نزل بها القرآن، ومثله المشتغل بالذكر، فينبغي له التدبر، واستحضار معاني ما يقول، ولو أنه لم يحصل فيؤجر عليه، قال ابن حجر في الفتح: قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب؛ لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقًا، أي المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب. انتهى.
وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: لا ريب أن تدبر الذاكر لمعاني ما يذكر به أكمل؛ لأنه بذلك يكون في حكم المخاطب، والمناجي، لكن – وإن كان أجر هذا أتم وأوفى – لا ينافي ثبوت ما ورد الوعد به من ثواب الأذكار لمن جاء بها، فإنه أعم من أن يأتي بها متدبراً لمعانيها، متعقلاً لما يراد منها، أو لا، ولم يرد تقييد ما وعد به من ثوابها بالتدبر والتفهم. انتهى.
وأما رؤية الإمام أحمد لربه تعالى منامًا فهذا ذكره بعض العلماء، ولم نقف على ثبوت ذلك عنه – رحمه الله – وقد سئل العلامة ابن باز – رحمه الله – عن رؤية أحمد لربه فأجاب: أما عن رؤية الإمام أحمد لربه لا أعرف صحتها، وقد قيل: إنه رأى ربه، ولكني لا أعلم صحة ذلك. انتهى.
والله أعلم.