الغزال الحزين
يُحكَى أنّ حربًا طاحنةً قامت في قديم الزّمان بين مملكتين عظيمتين، نَجَمَ عنها خسائر مادية وبشرية كبيرة. وقد راح ضحية الحرب صياد وزوجته، أتت النار على كوخيهما واحترقا فيه.
وكان للصياد المسكين فتاة وفتى. الفتاة اسمها سهاد والفتى اسمه هاد، وقد نجوَا من الموت بأعجوبةٍ، حيث كانا في الغابة يجمعان الحطب.
حزنت سهاد على فقدان والديها حزنًا شديدًا. ومضت الأيّام وهي تحاول بصعوبةٍ تدبير أمرها وأمر أخيها. فكانا يتعاونان على جمع الثّمار الجافة التي تسقط على أرض الغابة، أو يقتلعان جذور بعض الحشائش التي تُؤكل ليدفعا عنهما شبح الجوع…
وذات يومٍ، جلست الأخت سهاد وقالت لأخيها هاد: يا أخي الحبيب، لقد أصبحت الحياة شاقة، وتكاد لا تُطاق هنا. أظنّ أنّه من الأفضل لنا أن نغادر إلى مكانٍ أوفر غناء وأكثر ماء.
هزّ هاد رأسه علامة الإيجاب، فتناولت الأخت راحته وسارا باتجاه المجهول. أخذا يطويان المسافات، يتسلّقان تلالاً ويهبطان أوديةً حتّى أنهكهما التعب، فقال هاد لأخته، وقد شعر بالعطش الشديد: أختي، أختي! أنا عطشان، أريد ماء! فردّت سهاد: اصبر يا أخي الصّغير على الظمأ، فإنّنا بعد حينٍ سنصل إلى نبعٍ تنساب منه مياهٌ غزيرةٌ فتشرب منه ما تشاء. وتابعا سيرهما، والغابة صارت خلفهما، لكنّهما لم يقعا على نبع ماء.
ارتفعت الشّمس في قبة السّماء، وصار الهواء أكثر حرارة وجفافًا، واشتدّ عطش هاد الصغير وعيل صبره فوقع نظره على حفرةٍ صغيرةٍ مليئة بالماء، فانكبّ ليشرب بلهفةٍ، فمنعته أخته قائلة: إياك! إياك يا أخي أن تشرب من هذا الماء! فإنّك إن شربت تحولت في الحال إلى جَمَلٍ، لأنّ الحفرة فيها آثار أقدام جمل، فقد سحرتها عجوز لعين.
امتنع هاد عن شرب الماء وتحامل على عطشه وتابع السّير. وأخذت الحرارة تزداد، وأصبح الهواء يشتدّ سعيره، والعطش يتملّك من الصّغير ساعةً بعد ساعةٍ. وبعد برهةٍ من الزّمن، اعترضت الطريق حفرةً صغيرةً فيها ماء، فهرع هاد ليشرب. ومرةً أخرى منعته سهاد وقالت: انتبه! لا تشرب من هذه الحفرة واصبر على عطشك يا أخي، فقد مضى الكثير ولم يبق إلاّ القليل. وإذا أنتَ شربت من هذه الحفرة، سوف تنقلب فورًا إلى حصان، لأنّ الساحرة الشريرة أجرت سحرها ووضعت آثار حدوته في الماء.
حزن هاد وهو يمشي خلف أخته، وقد أخذت خطواته تتباطأ وأنهك العطش قواه.
وبعد حينٍ رأى حفرةً صغيرةً فيها بعض الماء. فهجم عليه يشرب بنهمٍ من دون أن يلتفت إلى تحذير أخته. وما إن استقرّت جرعة الماء في معدته، حتى انتفض في الهواء وانقلب إلى هيئة غزالٍ صغيرٍ.
أدركت سهاد أن سحر الساحرة الشريرة قد وقع، فبكت بكاءً مرًا وجلست على العشب حزينةً. وراح الغزال يدور حولها وقد اغرورقت عيناه بالدّموع.
حلّ الظلام واحتضنت الأخت أخاها الغزال حتى
طلوع الفجر.
وعندما استيقظت سهاد، رأت في الأفق شبح فارسٍ يقترب منها، فاضطربت وطوّقت عنق أخيها الغزال خوفًا من مكروهٍ يلحقه الفارس به. لكن الفارس كان أميرًا عظيمًا، تأثّر لمنظر الأخت والغزال. وثارت عاطفة نبيلة في نفسه، فتقدّم منهما وقال: “أيّتها الحسناء، هل تقبلين صحبتي إلى قصري؟ فأنا أمير هذه البلاد، سوف تنعمين بعيشٍ رغيد”.
أطرقت الفتاة هُنيهةً قبل أن تردّ على الأمير، قائلةً: أقبل عرضك الكريم مع الشّكر، ولكنّ بشرط. استغرب الأمير وقال: وما هو هذا الشرط؟ فأجابت سهاد: إن أنتَ قبلتَ برفقة الغزال لي وعدم مفارقته أبد الدّهر.
عاد الأمير إلى قصره مُصطحبًا معه سهاد وأخاها الغزال. وعاش الجميع وسط مظاهر الفرح والبهجة.
وذات يومٍ، حضرت إلى القصر ساحرةٌ ماكرة وهي متخفّية في صورة امرأة طيّبة، وقد أوقعت سهاد تحت تأثيرها حين ادّعت لها أنها تستطيع إعادة الأخ الغزال إلى صورته الأولى، ولكن إن هي حفظت السّر ورافقتها إلى كهفها خارج المدينة، ووعدتها أنها ستحضّر العبارات اللاّزمة التي تفوق القوى التي سحرت هاد إلى غزال.
انطلت الخدعة على سهاد. وعندما وصلت الساحرة الشريرة بضحيّتها إلى الكهف، دفعتها إلى قعر بئرٍ كبيرة وأغلقت بابها بحجرٍ ضخمٍ. ثم حوّلت الشريرة نفسها إلى صورة سهاد، فارتدت ثيابها وعادت إلى القصر طمعًا بالفوز بقلب الأمير والزّواج منه عندما يحين الأوان.
وفعلاً، لم يلحظ الأمير ومَن كان معه في القصر أي اختلافٍ في سهاد الجديدة. وراحت تأمر الخدم وتنهر الحرس ولا أحد يعلم من أمرها شيئًا، وإن كان الجميع باتوا يستغربون تصرّفاتها.
أمّا سهاد التعيسة، فقد بقيت في قاع البئر لا أحد يدري بأمرها. الغزال وحده عَرَف أنّ التي في القصر وعلى هيئة أخته ليست سهاد وأدرك أن أمرًا خطيرًا قد حلّ بأخته. وصار، كلّما رأى الأمير، يدور حوله ويثغو ثغاء حزينًا والأمير لا يفهم ما يقصده الغزال. ولشدّة حزنه، امتنع الغزال عن الطعام، وبات لا يقرب العشب ولا الماء بل صار يخرج إلى الكهف قبل الفجر ويقف أمامه ويثغو ثغاء حزينًا ويعود إلى القصر قبل أن يستيقظ أهله.
في هذا الوقت، لاحظت الساحرة تبدّل تصرفات الغزال، فشكّت في أمره. وعندما راقبته مراقبةً شديدةً رأته يخرج إلى الكهف ويثغو ثغاء حزينًا، ثم يعود قبل طلوع الشمس، فخشيت أن يفتضح أمرها لدى الأمير، وأضمرت للغزال شرًا مُستطيرًا.
ألحّت السّاحرة الشريرة على الأمير بذبح الغزال ودعوة الأمراء والأعيان إلى حفل عشاءٍ فاخرٍ يطلق البهجة في أجواء القصر. ثم أمرت الخدم بإيقاد النار تحت القدور النّحاسية وشحذ السّكاكين لذبح الغزال. اكتشف الغزال أمر ذبحه، فهرب إلى الكهف وأخذ يبكي بكاء مرّا ويطلق أصواتًا حادةً حتى تمكّن من النطق بلغةٍ فصيحةٍ، فهَتَف وقال: أختي الحبيبة سهاد، اخرجي من قاع البئر وساعديني لأتخلّص من يد الساحرة الشريرة. لقد أشعلت النيران ووضعت القدور النّحاسية ملأى بالماء فوقها؛ لقد شحذت السكاكين ودعت أصدقاء الأمير الطّيب إلى حفل هذا المساء وقد زُيّن القصر وسيكون لحمي طعامًا لهم!
بلغ صوت هاد مسامع أخته سهاد وهي في أعماق البئر، فصرخت بأعلى صوتها: أخي، أخي الحبيب هاد، إن كتفي أختك سهاد مشدودتان بحبلٍ غليظٍ، وإنّ قدميها مربوطتان إلى حجرٍ ثقيلٍ. هي في قاع بئرٍ عميقةٍ لا تقوى على مساعدتك.
وخرج صوت سهاد من الكهف عاليًا وقويًا وتردّد صداه في أرجاء الوادي، فبلغ مسامع بعض الجَبَلييّن، فأسرعوا إلى القصر وأبلغوا الأمير بالأمر العجب. فهَرع الأمير إلى الكهف وأخرج سهاد من البئر. وعندها، أسرع الغزال يمرّغ خدّيه على خدي أخته. وهنا حصل الأمر العجيب.
فعندما امتزجت دموع الغزال الحزين بدموع أخته، عاد إلى صورته الإنسانية، فَسَرَت موجةٌ من الفرح الشّديد في الحشود التي وقفت خلف الأمير. وعاد الجميع إلى القصر، بعد أن أعلمت سهاد الأمير بقصّتها.
أمّا الساحرة الشريرة، فقد رُبِطَت إلى حجرٍ ثقيلٍ، وأُلقِيَت في البئر، وصارت الآبار المهجورة حتّى يومنا هذا مدفنًا للسّاحرات الشّريرات.
عاش الأمير- بعد أن تزوّج من سهاد- سعيدًا ونَعمَ الجميع بالطّمأنينة، وصار هاد بعد أن أصبح شابًا وزيرًا عند الأمير. وعمّ الخير والسّرور الإمارة كلّها…