تأملتُ الجدار .. تلمستهُ بيدي ..
شيءٌ أخذ يعتصرُ قلبي بشدة .. شعرتُ بدوار .. وألمٍ .. وقشعريرة ..!
غابت الوجوه … لم أعد أسمعُ سوى أصواتٍ تأتي من بعيد .. من عُمق الماضي ..
– أستاذة .. الله يخليك .. طلعونا بدري اليوم .. بنروح نشجع المنتخب .. اليوم مباراتنا مع كوريا ..
نظرتْ إلينا أبلة حصة وهي تبتسم .. يالله .. كم أُحبها هذه الإنسانة ..
رغم شخصيتها القوية .. ورغمَ رزانتها .. كانت تُعاملنا بطريقةٍ حكيمة .. أكثر مِن رائعة ..!
كانت تهبطُ معنا لتُخاطبنا بأسلوب يُناسب تفكيرنا .. ثمّ ترتقي بنا إلى الأعلى دونَ أن نشعُر ..
لم نكُن نخافُ منها كباقي المعلمات .. كنّا نحبها .. ورغم ذلك نحترمها أكثر من أيّ معلمة أُخرى ..!
– وين بتشجعون ؟! في بيوتكم ؟ هه !
– إي يا أستاذة .. لا وبنلبس أخضر .. وبنربط ربطات خضراء .. وبنصبغ وجيهنا أخضر .. ههههه
لازلتُ أذكرُ حتّى اليوم ابتسامتها العذبة .. ونظرتها العميقة لنا ..
– بيجي يوم .. بتتذكّرون كلامكم .. وبتضحكون عليه ..!
صرختْ أسماء من الصف الخلفي ..
– لا يا أستاذة .. أنا حتّى لو أكبر باستمر أشجّع .. وبأجبر زوجي يشجّع .. وعيالي بعد …
ابتسمَت بشكلٍ أكبر ثمّ قالت بكلّ ثقة ..
– بيجي يوم بإذن الله وبتشوفووون !
***
تلمّستُ الجدار والألم لايزالُ يعتصِرُ قلبي ..
سألتُ الطالبات :
– ياااالله ! … فصلكم هذا ماصبغتوه من ست سنين ؟!
نظرنَ إليّ باستغراب ..
– ليه تسألين يا أستاذة ..؟
ابتسمت لهن وقلت بهدوء :
– في يوم من الأيام .. كنتُ طالبة في هذا الفصل !
نظرت الطالبات إلي باستغراب شديد .. وبدأ الفضول يسري بينهن وتعالت الأصوات ..
– صدق ؟؟ والله يا أستاذة ؟؟
– بالله يا أستاذة وين كنتي جالسة ؟ وييين ؟؟!
– من كم سنة انتي متخرجة ؟؟
شعرتُ بأني أخطأت بإخبارهن .. ولم يُنقذني من دوّامة الأسئلة سوى صوت صافرة انتهاء الحصة ..
***
كانَ ذلك يوميَ الأول في مدرستي التي تخرّجتُ منها منذُ خمسة أعوام ..
خرجتُ منها مراهقة بمريول رمادي .. وها أنا ذا أعود إليها معلمة ..!
وأدخلُ الفصل الذي احتضنَ أحلامي وشقاوتي وذكرياتي ..
أخذتُ أجول في ساحةِ المدرسة .. أنظُر لبعض الطالبات يجلسنَ هنا وهناك ..
أتذكّر مكان جلوسنا ..
ضحكاتنا ..
قصصنا الحالمة ..
كم أتمنى لو أجلس الآن في نفس تلك الأمكنة .. على الأرض ….
في حصّة فراغ .. خرجتُ للساحة ..
كلّ الطالبات في الفصول .. لا أحد يتجوّل هنا ..
استغللتُ الفرصة ..
وكأنّي أريد سرقة شيءٍ مّا ..
تسللتُ إلى ذلك المكان الذي كُنا نحبه .. في الممر الخلفي .. تحت نافذة المديرة ..
جلستُ على الأرض .. وأسندتُ ظهري للجدار ..
أخذتُ أتخيّل .. كيفَ كنا نجلس هنا .. .. كيفَ كنا نتحدّث ..
أُحاول أن أسترجع نفسيتي المرحة البريئة .. لكني لا أستطيع ..!
شعور غريب بدأَ يتسرّب إلي ..
شيءُ مخيف ..
أن تعودَ لنفسِ المكان ..
نفس الوضع ..
وتُحاول أن تتقمّص روحَ الماضي .. فلا تستطيع !
تكتشف أنّك مررتَ بتحوّل كبير ..
كيفَ مرّ الزمن بهذه السرعة ؟ سبحانَ الله !
أستنشِق بعض هواء الصباحِ النقيّ ..
ألتفتُ حولي ..
أنظرُ للممر .. كنتُ أعتقِد أنه أطول مما يبدو الآن ..!
هه .. الجدار أيضاً ليس عالياً كما كنت أتذّكر ..
كل شيءٍ كان مختلِفاً في نظري ..
كلّ شيء !
تذكّرت " أسماء " .. صديقتي الغالية .. ضحكاتنا .. أحاديثنا .. أسرارنا ..
وشجاراتنا الممتعة ..
كنتُ أعتقدُ أنها أوفى وأطيب إنسانة على وجه الأرض !
كنتُ مستعدّة للتضحية لأجلها بأيّ شيء ..
نظرتُ قربي ..
وكأن خيالها يجلس بجانبي الآن ..
تذكّرت ..
حين رأيتها الصيفَ الماضي .. في حفل زواج ولأول مرّة منذُ تخرّجنا من المدرسة ..
وخمسُ سنوات لم تكن بالمدّة الطويلة بالنسبةِ للصداقة ..
كنتُ أعتقد أنّ الصداقة يُمكن أن تُعمّر للأبد .. أو على الأقل لسنواتٍ أطول !
أذكُر برودة يدها .. وصلابتها ..
كانتْ حاملاً في شهورها الأخيرة .. وتقول أن لديها طفل ..
لم أعرف ماذا أقول .. ماذا أتذكّر .. هل أبكي ؟ .. أم أضحك ..!
لكنّها اكتفت بابتسامة باهتة ..
سكتّ طويلاً .. وسكتت ..
شعرتُ بالحرجِ من برودها ..
فانسحبتُ بعيداً ..
تمنّيتُ لو أعود وأحضنها .. أتحدّث معها .. نتذكّر ..
نبكي !
لكنها ليست متحمسة لذلك على ما يبدو …
بقيتُ أنظر لها طوال الحفل .. وفي وقتِ العشاء مررت بقربها وابتسمتُ لها ..
دعوتُها لتجلس معي .. فاعتذرتْ لأنها مستعجلة وستذهب ..
شعرتُ بالخجل من أن أطلب رقم جوّالها .. أسرعتُ أعطيتها رقم جوّالي .. وانتظرتُ مكالمتها ..
لكنها لم تتصل !
مرّ شهر وشهران .. ثمّ ستة أشهر ..
ولم تسأل أسماء ..
لم أستوعب أن الأرواح تغيّرت ..
وأسماء لم تعد أسماء ..
مرّت إحدى الإداريات ..
– هااااجر ! وش مجلسك هنا ؟!
ارتبكت ..
– لا ولاشي .. كنت محتاجة شوّية تأمل ..
ابتسمتُ لها ..
ضحكتْ وقالت وهي تتابع سيرها :
– خلاص خلّيك .. كملي " تأملك " لين تصفّر !
بعد دقائق .. ارتفعَ صوت الجرس .. قمتُ من مكاني .. وبدأت الطالبات بالخروج للفسحة ..
نظرتُ إليهن ..
تُرى هل يعرفن .. إنهنّ يوماً ما سيخلعن هذه الروح ؟
ستتبدّل نظرتهن .. أحلامهن !
***
لم أعرف مع من أتحدّث بهذا الأمر ..
كان في داخلي كلام كثير .. لم أعرف لمن أبثّه ..
حينَ دخلتُ الغرفة .. رميتُ نفسي على الكرسي ..
نظرتُ للسقفِ وتنهّدت :
– شيء مخيف أن تعودَ لنفسِ المكان بعد كلّ تلك السنوات .. وتحاول استرجاع روحك .. فلا تستطيع ..
نظرَت إليّ زميلتي وهي تصحح الدفاتر وابتسَمت ..
لم أتوقّع أن تكون قد فهمت ما أقصده ..
– أعني أعود لنفسِ مدرستي .. فأكتشف أن كلّ شيء في داخلي قد تغيّر .. هل يُمكن أن نتغيّر بهذه السرعة ؟
ابتسَمت مرة أخرى .. وقالت دون أن ترفع رأسها نحوي :
– المهم .. ليس التغيّر بحد ذاته .. بل .. نوع التغيّر !
عدّلتُ جلستي ..
– كيف .. أي نوع ؟ .. هو تغيّر كبير فقط ! .. هذا ما أعرفه ..
– القلوب تتغيّر .. الأفكار .. التوجهات .. النظرات .. كل شيء يتغيّر .. لا أحد يبقى كما هوَ .. كوني واثقة من ذلك القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيفَ يشاء .. المهم ليس تغيّر القلب والروح .. بل هل يتغيّر نحو الأفضل أو الأسوء .. وفي أيّ اتجاه ..
توقّفتُ لبرهة وكأني لأوّل مرة أفكر في هذا الأمر ..
هل تغيّرت نحو الأفضل أو الأسوء خلال هذه السنوات ؟ لم أسأل نفسي يوماً هذا السؤال !
– ربما .. ربما يافايزة أنا كنتُ أكثر براءة .. وقلبي كان أطيب .. وماكنتُ أحقد على البعض مثل الآن .. لكن أيضاً أحس أني الآن أكثر نضجاً وتعقّلاً ..
– هذا كلّ شيء ؟
– لا أعرف بالضبط ! تغيّر الكثير في داخلي لكني لم أفكّر يوماً في محاسبة نفسي ..
استمرّت تصحح الدفاتر بهدوئها ..
– لو تأمّل كل واحد فينا هذا المعنى .. واستشعرَ أن روحه وقلبه تتقلّب في اليوم الواحد عدّة مرات .. لحاول بكلّ جهده أن يثبتها ويوجهها نحوَ الأفضل والأروع .. لكننا نعتقد أن قلوبنا .. مثل أجسامنا .. لا تتغيّر بسهولة .. فنتركها تتقلّب وتتخبّط .. ولا نكتشف مقدار التغيّر إلا حين يصبح كبيراً جداً ..!
يا الله .. يالها من حكمة عظيمة ..
كيفَ لم أفكر في هذا الأمر من قبل ؟!
كل شيء يتغيّر .. حتّى القلوب ..
دخلتُ للفصل مرّة أخرى ..
حينَ أغلقتُ باب الفصل لأبدأ الدرس ..
نظرتُ إلى الجدار طويلاً ..
" ذكرى أسماء وهاجر الدبّة "
تلمّستُ قلبي ..
صمتُّ قليلاً ..
ثمّ ..
-يالله يا بنات .. الواجب بسرعة ! *
* الـنـهــــــــــايــــة *
.
.
.
.
في امان الله