الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه جملة من المعاني الإيمانية الشريفة التي يغرسها الإسلام في نفوس أبنائه نلقي عليها الضوء؛ حتى تزداد رسوخًا في نفوس إخواننا من أبناء الصحوة الإسلامية المباركة.
فمن هذه المعاني الشريفة:
– أن المسلم لا ينبغي له أن يعلق قلبه بغير الله – عز وجل -، ومهما تعلق القلب بغير الله فالتعاسة والشقاء؛ فلا يجوز للعبد أن يعلق قلبه بالمال، أو الجاه، أو السلطان، أو الشجر، أو الحجر، أو بسبب من الأسباب، فهو يأخذ بالأسباب بجوارحه، ويعلق قلبه برب الأرباب، ومسبب الأسباب؛ قال -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60]، وقال -تعالى-: (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [الأنفال: 10]، وقال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس: 107]، فلا يجوز أن يعلق العبد قلبه بمخلوق؛ يرجو منه جلب النفع، أو دفع الضر، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من علق تميمة فقد أشرك)) [رواه أحمد، وصححه الألباني].
فمن علق شيئًا متعلقـًا به قلبه فقد أشرك، ولما قال للنبي – صلى الله عليه وسلم – بعض مسلمة "الفتح" في غزوة "حنين" -وكانت بعد فتح مكة-: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"، والمشركون كانوا يختارون شجرة عظيمة يعلقون بها أسلحتهم، ويطوفون بها، ويتبركون بها، وتتعلق قلوبهم بها قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) إِنَّهَا لَسُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً)) [رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني]، فتعليق القلب بغير الله – عز وجل – شقاء في الدنيا والآخرة.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)) [رواه البخاري]، والناس لا يسجدون للدينار والدرهم، والخميصة والقطيفة، ولكن تتعلق قلوبهم بالدينار والدرهم إن أعطيَ رضي، وإن منع سخط، ويفرح به أشد الفرح إذا حصل عليه، ويحزن أشد الحزن إذا حرم منه، ويوالي من أجله، ويعادي من أجله، وكذا من تعلق قلبه بشجر، أو حجر، أو طاغوت، أو امرأة، فلابد من حصول هذا الشقاء، ولا يسعد العبد حتى يعلق قلبه بالله – عز وجل – تعلق المحب المضطر، فمنتهى سعادة العبد أن تتم عبوديته لله – عز وجل – حبًا وتوكلاً، ورجاءً وخوفًًا وطمعًا، ويكون الله – عز وجل – هو غاية مطلوبه ومحبوبه؛ بذلك تتم سعادة العبد في الدنيا والآخرة.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة"، وقال بعضهم: "لو يعلم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف"، وقال بعضهم: "إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة كما نحن فيه إنهم لفي عيش طيب".
– ومن هذه المعاني الشريفة التي يغرسها الإسلام في قلب أبنائه معنى الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، فينبغي أن يعلم أنه ليس هناك أحد يُحب لذاته إلا الله – عز وجل -، ومن كمال حبه أن نحب رسله الكرام، وملائكته الأطهار، وعباده الأخيار، وأن نبغض الكافرين، والمبتدعين، والذين يصدون عن سبيل رب العالمين، ومن لوازم هذا الحب أن نوالي أولياءه، وأن نعادي أعداءه.
قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة: 55]، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة: 23]، فالموالاة في الله، والمعاداة في الله ليست أمرًا يتكلفه العبد ويفعله بعنت ومشقة، بل من طبيعة الإيمان الصادق محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين ومعاداتهم؛ قال الله -تعالى-: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة: 22]، فقد أمر الشرع أن يصل المسلم أباه الكافر، ويبره بالنفقة والألطاف الدنيوية، لكن المحبة والموالاة لا تكون إلا لأهل الإسلام.
– ومن هذه المعاني الشريفة الكريمة التي يغرسها الإسلام في قلوب أبنائه أن المؤمن عزيز، والكافر ذليل، وأن العزة لله جميعًا، ولا سبيل إلى العزة إلا طاعة الله – عز وجل -.
كان الإمام أحمد – رحمه الله – يدعو: "اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك"، فالله – عز وجل – هو العزيز، ومن أراد العزة فليطع العزيز، فالمؤمن عزيز، والكافر ذليل، والمنافق ذليل، والمبتدع ذليل، والعاصي ذليل، كلٌ بحسبه. قال – صلى الله عليه وسلم -: ((وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي)) [رواه أحمد، وصححه الألباني].
ولما قال عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس المنافقين في غزوة "المريسيع": (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، وكان يظن أنه الأعز، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأذل -حاشاه الله من ذلك- هو الأذل لُقن درسًا عمليًا قاسيًا تعلم منه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون، لما سمع ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي مقالته الفاجرة شهر سيفه، ووقف على باب المدينة، والصحابة يمرون من تحت سيفه، فلما أراد أبوه أن يدخل قال: "والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الدخول، وحتى تعلم من الأعز، ومن الأذل"، فلما استأذنوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ائذنوا له، فبان بذلك من الأعز، ومن الأذل، فلا أذل لعبد الله بن أبي من أن يمنعه ابنه، وأقرب الناس إليه من دخول المدينة، حتى يأذن له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
فكل من تمرد على شرع الله، وفسق عن أمره ونهيه فهو ذليل، ولو كان أميرًا، أو وزيرًا.
قال الحسن البصري – رحمه الله -: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
ومن هذه المعاني الشريفة التي يغرسها الإسلام في نفوس أبنائه أن النصر للمؤمنين، والعاقبة للمتقين، كما قال -تعالى-: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، فالمؤمن ينبغي أن يثق بوعد الله – عز وجل -، وبنصر الله – عز وجل -، وقد كان هذا المعنى ظاهرًا جدًا في الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، فقد كان القرآن ينزل بمكة المكرمة يبشرهم بالنصر والتمكين، وهزيمة المشركين، فقد نزل بمكة والصحابة -رضي الله عنهم- يعذبون في ربوع مكة: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر: 45]، وتحقق هذا النصر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان يوم بدر، وهو أول لقاء بين الكفر والإيمان.
ونزل بمكة كذلك: (غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ) [الروم: 2-5].
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يبث في نفس الصحابة الأمل في انتصار الإسلام، فكانوا يوقنون بالنصر يقينًا تعجب منه المنافقون، والذين في قلوبهم مرض كما قال -تعالى-: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 49].
ومن هذه المعاني الشريفة أن الإسلام لا ينكر على المسلم محبة الآباء والأبناء والإخوة والزوجات؛ فهذه محبة فطرية يقرها الشرع ويعترف بها، ولا يجيز للمسلم أن تكون محبته لأبيه، أو لابنه، أو لأخيه، أو لزوجته، أو لتجارته أكثر من محبته لله – عز وجل -، أو لرسوله – صلى الله عليه وسلم -، أو للجهاد في سبيل الله، فقد توعد الله – عز وجل – من يحب ذلك أكثر من حبه لله – عز وجل -؛ فقال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
الإسلام يعلـِّم المسلم أن لا يعز شيئًا عن الله – عز وجل -، فحب المسلم لله – عز وجل -، ولرسوله – صلى الله عليه وسلم -، وللجهاد لإعلاء كلمة الله – عز وجل – أكثر من حبه لأبيه، وابنه، وأخيه، وزوجته، وماله، فهو يضحي بكل شيء للوصول إلى رضا الله – عز وجل -، مدح الله – عز وجل – المؤمنين بشدة محبتهم له – عز وجل -، فقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165].
وعلى هذا الهدي مضى السلف -رضي الله عنهم-، كان الواحد منهم يرحب بأن يندق عنقه، ولا يثلم دينه، هذا خبيب بن عدي أسره المشركون، وعذبوه عذابًا شديدًا، وقالوا له: "أتحب أن يكون محمد مكانك وأنك معافى في أهلك ومالك"، فقال: "والله ما أحب أن أكون معافى في أهلي ومالي ويشاك محمد – صلى الله عليه وسلم – بشوكة -أي وهو كذلك معافى في أهله وماله-"، وفي ذلك قيل:
أسرت قـريـش مسلمًا فمضــى *** بلا وجـل إلــى الـسّـيـاف
سـألـوه هـل يـرضيك أنك سالم *** ولك النبي فدَى مــن الإتـلاف
فأجاب: كلا لا سلمت من الــردى *** ويصاب أنـف محمد بــِرُعاف
ولما أرادوا قتله أنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلمـًا *** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يـشأ *** يـبـارك على أشلاء شلوٍ مـمزع
– قتل يوم أحد زوج امرأة وأبوها وأخوها، فقالت: كيف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ فقيل لها: هو على خير ما تحبين، فقالت: دعوني أنظر إليه، فلما رأته قالت: لا أبالي يا رسول الله إذا سلمت من عطب.
وهذا المعنى صار غريبًا جدًا في هذه الأزمنة المتأخرة، فالناس اليوم يحبون الإسلام، ويرحبون به، وينتخبونه في أي انتخابات نزيهة، ولكن الاستعداد للتضحية من أجل أن تعلو رايته ضعيف جدًا، أو معدوم في أغلب الأحيان، وراية الإسلام لا ترتفع بأمثال هؤلاء، وصف الله – عز وجل – من يفتح بهم، ويجري الخير على أيديهم؛ فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة: 54]، وقال تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب: 23].
ومن هذه المعاني الشريفة التي يغرسها الإسلام في نفوس أبنائه أن يكون الواحد منهم عالي الهمة، فلا يرضى بالدون، ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون، فالمؤمن لا ينافس على مناصب الدنيا وشهواتها وأعراضها، ولكنه ينافس في درجات النعيم، ومجاورة رب العالمين كما قال -تعالى-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]، فالدنيا كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي جناح بعوضة ما سقى كافرًا شربة ماء، فالمؤمن همته أعلى من الدنيا، ثم هو لا يطلب أدنى درجات الجنة، بل يسأل الله – عز وجل – الفردوس، وهو وسط الجنة، وأعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن، فالمؤمن يطلب صحبة النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين.
نسأل الله من فضله العظيم، وخيره العميم، اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، وصلِ اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معانٍ إيمانية يغرسها الإسلام في نفوس أبنائه
بارك الله فيك
شكرا على المرور الجميل