يكفي في سجود القلب خشوعا
وسجود العقل انصياعا وسجود الجسم اتباعا أن يقترب العبد من ربه سبحانه تعالى،
وأن ينال صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة ،
أما الأولى فلقوله تعالى: "وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ" (العلق: من الآية19)،
وأما الثانية لما رواه مسلم بسنده عن ربيعة الأسلمي أنه قال:
"كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: " سل " فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أوغير ذلك ؟ " قلت : هو ذاك، قال " فأعني على نفسك بكثرة السجود"، وهي منزلة لا تعلوها منزلة أن تكون قريبا من الله في الدنيا والآخرة في رحلة معراج إلى الله تعالى مرات كل يوم، وفي صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وقد ذكر الشاطبي في كتابه "الاعتصام بالكتاب والسنة" أن الله تعالى لما علم حب نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته منح أمته مما أعطى نبيه، فلما "دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ" (النجم: من الآية 8،9)،
جعل الله تعالى هدية سيدنا محمد لأمته هي الصلاة، ويُعَنون لها بالركوع والسجود كما قال تعالى: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" (الفتح: من الآية29)،
وعليه فليس الركوع والسجود فريضة ثقيلة إلا على قلب أصحاب الشمال أو المنافقين،
أما السجود لدى أصحاب اليمين فهو عبادة حسنة،
أما المقربون فالصلاة هي قرة العين، وهي الحديقة الغناء ، والواحة الفيحاء ، والأمان الجليل ، والنور الكبير، وهي الملاذ في الشدة، والهدوء في الحدة، فلو حدث خطب جلل فليل العابدين محراب القانتين،
والسجود في السحر قمة الاقتراب من رب العالمين؛ حيث ينزل ربنا سبحانه وتعالى ويدنو من عباده – من غير تجسيد ولا تشبيه – وينادي هل من تائب فأتوب عليه؟
هل من سائل فأعطيه؟ فإذا اجتبى الله عبدا هداه وقواه وأعانه وذكَّره، وهذَّبه وقوَّمه ليكون أهلا لقيام الليل فيفيض عليه من رحماته وبركاته وأرزاقه ونفحاته، كما قال تعالى : "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" (الزمر:9)، و قد قال الشاعر العابد محمد إقبال:
يارجال الليل جِدُّوا رب صوتٍ لا يرد
لا يقوم الليل إلا من له عزم وجد
لكن هذا السجود لابد فيه من الانتقال ثلاث نقلات :
من غفلة القلب إلى استحضاره، ومنه إلى حضوره، وهذا لا يحدث فجأة بل رزق يحتاج إلى طول دربة ، وصدق نية، وقوة مجاهدة، ودقة رقابة للقلب في خشوعه وخضوعه، وذلته ومسكنته بين يدي ربه، ومدى فرحه بالبر والطاعات، والصالحين والصالحات،
وهما أمران مرتبطان ببعضهما؛ فمن سجد فاقترب ورأى من آيات ربه الكبرى ، وأيقن بغنى الملك وعزته وقوته لم يحتج إلى غير الله تعالى ، خاصة إذا كان ربنا سبحانه قد جعل السجود هو المعيار الأول لعبادة الرحمن وطاعته سبحانه والاقتراب منه جل وعلا، فكان أول تكليف للملائكة بعد أن خلق الله تعالى آدم أن يسجدوا لآدم عليه السلام كما قال سبحانه:
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34)،
وتميز ذلك بهذه السجدة بين عابد وفاسق حيث قال تعالى عن إبليس لما رفض السجود : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (الكهف: من الآية 50)، وجعل الله معيار العبادة والإيمان حتى يشتري الله هذه النفس ويورثها أعلى الجنان أن نكون من الساجدين كما قال تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112)، وقد أخبرنا الله تعالى أن الكون كله ساجد لله تعالى ما عدا فريق من الناس قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج:18)، وفي سورة الرحمن يذكر ربنا : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (الرحمن:6)،
فالسجود عبادة الإنسان صاحب الإيمان وعبادة الملائكة والكون كله ليس منه شيء إلا وهو ساجد للرحمن، فإذا سجد الإنسان فقد عبد الرحمن، وتوافق مع الأكوان، وانخنس الشيطان، ويولي حاقدا على الإنسان، قائلا : "تبًا لي أُمرت بالسجود فلم أسجد، وأمر ابن آدم بالسجود فسجد"،
* أما سجدة الاغتراب في جسد يهوي إلى الأرض، والقلب مشغول عن ذكر الله وعن الصلاة ، بل له قلب لاهٍ عن مقام الله، وعقل يستكبر عن حكم الله، خاصة إذا خالف هواه، وله أخلاق السفهاء بعد الصلاة، وأخلاق الأنعام عند الطعام، والثيران عند الخصام، فجسده في الأرض رأسًا وكفين وركبتين وقدمين، فاستوفى الشكل الفقهي واستبعد الاستحضار أو الحضور القلبي فصار سجوده اغترابا عن الله لا اقترابا، وكم من ساجد تُلفُّ صلواته وسجداته في خرقة وتضرب في وجهه وتقول له: ضيعك الله كما ضيعتني، ولذا أنصح نفسي أن نستعد لسجود الاقتراب بكثرة الذكر والشكر والبذل والعطاء و الصدق والأمانة قبل الصلاة، فإذا صليت ووصلت إلى السجود فابك أو تباكى حتى تبكي ، وتذكر وأنت تقول سبحان ربي الأعلى أنك الصغير والله هو العلي الكبير، وأن الله أسبغ نعمه علينا ظاهرة وباطنة، وقابلها العبد كما قال تعالى : "إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ" (العاديات:6)، وقد سترنا ربنا وجاهرناه بالمعاصي، وغفر لنا وزلت بنا قدم بعد ثبوتها، وبهذه الدُّربة يصل الإنسان إلى قلب يخشع وعين تدمع وعمل يرفع ودعوة يستجاب لها؛
للحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء).
منقول
وجعلة فى ميزان حسناتك ياذن الله