صورة مرسومة للمعركة من قبل أحد المشاركين فيها
كانت الدولة العثمانية عند وفاة السلطان سليمان القانوني قد بلغت أقصى اتساعها وخاضت الحروب في ميادين الشرق والغرب وحققت لها هيبة كبيرة في العالم، وبقدر هذه الهيبة الكبيرة كان لها أعداؤها الأقوياء الذين ينتظرون أي بادرة ضعف حتى ينالوا منها. وعندما جلس سليم الثاني على العرش خلفا لوالده القانوني في ( ربيع 974هـ=سبتمبر 1566م) ظهر بعض التمرد في الدولة، فقامت حركة تمرد في اليمن سنة (975هـ= 1567م) استطاعت حصر العثمانيين في الشريط الساحلي، ولم يستطع العثمانيون إعادة سيطرتهم على اليمن إلا بعد عامين.
وظهرت في تلك الفترة في أروقة الدولة العثمانية كثير من المشاريع الكبيرة التي استهلكت الكثير من الوقت من الدولة دون أن توضع موضع التنفيذ، أو ربما تعرضت للفشل، حيث فكرت الدولة في فتح قناة السويس (بين البحر الأبيض والبحر الأحمر) لإعادة حركة التجارة العالمية من رأس الرجاء الصالح الذي سيطر عليه البرتغال إلى طريق التجارة القديم.
كما شرعت الدولة سنة (977هـ= 1569م) في فتح قناة بين نهري الدون والفولجا وتأمين المرور بين البحر الأسود وبحر الخزر، حيث إن هذه القناة ستربط تركيا بمنطقة تركستان وتحول دون تهديد الروس والإيرانيين لتركستان، ولذا قامت الدولة العثمانية بحملة عسكرية على إمارة "أسترخان" لكن فتح هذه القناة المهمة لم يؤخذ مأخذ الجد نظرا لوجود مصالح لحكام الأقاليم تتعارض مع شق مثل هذه القناة، وأكد ذلك خان القرم بقوله: "عندما تبدأ الجنود العثمانية القدوم إلى الأراضي القبجاقية وشيروان (منطقة أوكرانيا وشمال أذربيجان حاليا) فسوف لا تبقى هناك قيمة للتتر ويحتمل أن تذهب قرم (أوكرانيا) من أيدينا".
كان العثمانيون رغم المشاريع الكبيرة التي أعلنوا عنها في تلك الفترة يركزون اهتمامهم على فتح جزيرة قبرص التي كانت عقبة كبيرة في طريق التجارة المنتعشة بين مصر وإستانبول والتي يسيطر عليها البنادقة ويمارسون من خلالها بعض أعمال القرصنة البحرية، ولذا شرع العثمانيون في فتحها رغم إدراكهم أن فتح هذه الجزيرة سوف يؤدي إلى قيام تحالف مسيحي قوي ضدهم.
"الأرمادا" والعثماني
كانت قبرص تمثل أهمية خاصة للعالم المسيحي في صراعه مع الدولة العثمانية، وعندما علمت أوربا بنوايا العثمانيين تجاه قبرص تحرك البابا "بيوس الخامس" وعقد معاهدة اتفاق ضد الدولة العثمانية في (غرة المحرم 979هـ= 25 من مايو 1571م) مع ملك أسبانيا والبندقية وبعض الدويلات المسيحية، وكان هذا الاتفاق المسيحي هو الاتفاق الثالث عشر الذي تعقده أوربا ضد الدولة العثمانية منذ تأسيسها.
ونص الكتاب الذي أرسله البابا "بيوس" إلى ملك أسبانيا على "أنه لا توجد في العالم المسيحي أية دولة مسيحية يمكنها أن تقف بمفردها في مواجهة الدولة العثمانية ولذا فالواجب على كافة الدول المسيحية أن تتحد لكسر الغرور التركي"، وهكذا بدأ يتشكل الائتلاف المسيحي لحرب الدولة العثمانية.
واستطاعت أجهزة المخابرات العثمانية في البندقية وروما أن ترصد هذا الاتفاق وهو في طور التكوين وأبلغت به إستانبول، وتحرك الأسطول العثماني للبحث عن الأسطول الصليبي وإبادته، وتحرك الوزير العثماني "برتو باشا" قائد الأسطول لتنفيذ تلك المهمة.
كان التحالف المسيحي القوي الذي تغذية مشاعر الكراهية للدولة العثمانية يتمتع بأسطول على قدر كبير من القوة والخبرة في القتال البحري والكثافة في عدد السفن ووجود عدد من كبار قادة البحر، فكان "الأرمادا" (الأسطول) يضم 295 سفينة و30 ألف جندي و16 ألف جداف و208 سفن حربية، وكان القائد العام للأسطول هو "دون جون" وهو ابن غير شرعي للإمبراطور الأسباني "كارلوس الثاني" وهو من كبار قادة البحر.
أما الأسطول العثماني في البحر المتوسط والبالغ حوالي 400 سفينة فقد توزعت سفنه عند حلول فصل الخريف إلى عدد من القواعد، وبقيت حوالي 184 سفينة تحت قيادة "برتو باشا" و"مؤذن باشا" وذهبت هذه السفن إلى ميناء "إينبختي" أو "ليبانتو Lepanto (وكان ميناء عثمانيا في اليونان على خليجي باتراس-كورنثوس).
وعندما حل فصل الشتاء على السفن التي يقودها "برتو باشا" بدأ الضباط في التسرب لقضاء الشتاء بعدما رأوا السفن العثمانية ألقت مراسيها في "إينبختي" ظنا منهم أنه لن يوجد قتال في هذا الموسم، ولم تظهر من "برتو" أو "مؤذن" قدرة على ضبط الأسطول، إضافة إلى أنه كان يوجد عدد من السفن في حاجة إلى إصلاح، كما أن جدافة الأسطول العثماني كانوا من المسيحيين.
وكانت النقطة المهمة في الأمر أن القائدين "برتو باشا" و"مؤذن-زاده علي باشا" لم يكونا من القادة البحريين ولكنهما من قادة الجيش البري وتوليا مهمة قيادة الأسطول منذ فترة وجيزة، وكان يوجد بعض القادة البحريين في الأسطول العثماني مثل "حسن باشا" الذي يبلغ من العمر 71 عاما، و"أولوج باشا" ويبلغ من العمر 64 عاما لكن لم تكن لهما السيطرة على القرار.
معركة فاصلة
عندما اقترب الأسطول الصليبي من ميناء إينبختي الذي يرسو فيه الأسطول العثماني اجتمع "برتو باشا" مع كبار قادة البحر لبحث الموقف، وانفض هذا الاجتماع دون أن يتوصل القادة إلى خطة لمواجهة المعركة القادمة التي لا يفصل بينها وبينهم إلا وقت قصير.
وكانت المؤشرات تؤكد أن هناك ميلا لما يطرحه "برتو باشا" و"مؤذن باشا" لمواجهة الموقف المتأزم على اعتبار أنهما المسئولين أمام الدولة في إستانبول.
وكان رأي القادة البحريين في الأسطول هو عدم الدخول في هذه المعركة -غير المتكافئة- إلا بعد أن تقصف مدافع القلاع العثمانية سفن العدو وتتلفها، وهو ما يعطي فرصة كبيرة لسفن الأسطول العثماني لتتبع ومطاردة الأسطول الصليبي، أو بمعنى آخر إنهاك الأسطول الصليبي قبل بدء المعركة ثم الانقضاض عليه بعد ذلك. ولكن "برتو باشا" و"مؤذن باشا" أعلنا أنهما تسلما أمرا بالهجوم على الأسطول الصليبي.
ولما رأى قادة البحر في الأسطول العثماني ذلك نصحوهما بأن يخرجا إلى القتال في البحار المفتوحة لأن ذلك يعطي الفرصة للسفن العثمانية بأن تقوم بالمناورة وأن تستخدم مدفعيتها القوية بكفاءة عالية ضد الأسطول الصليبي.
إلا أن "برتو" وغيره من القادة لم يستمعوا إلى هذه النصائح من أهل الخبرة في القتال البحري، وأعلن أنه سيقاتل بالقرب من الساحل، وقال: "أي كلب هو ذلك الكافر حتى نخافه؟" ثم قال: "إنني لا أخشى على منصبي ولا على رأسي، إن الأوامر الواردة تشير بالهجوم، لا ضير من نقص خمسة أو عشرة أشخاص من كل سفينة، ألا توجد غيرة على الإسلام؟ ألا يُصان شرف البادشاه؟!".
وكانت هذه المقولة تعبر عن الجهل بالحقائق ولا تعبر عن شجاعة أو حماسة دينية، إذ إنه من غير المعقول أن تدار حرب بحرية على الساحل، ومن ثم فقد كانت النتيجة في تلك المعركة محسومة لصالح الأسطول الصليبي قبل أن تبدأ.
وقائع وخسائر
كانت معركة "ليبانتو" في (17 من جمادى الأولى 979هـ=7 من أكتوبر 1571م) وهي تعد من أكبر الحروب البحرية في التاريخ في ذلك الوقت، واتسمت بالدموية والعنف الشديد، فاستشهد قائد القوة البحرية "مؤذن-علي باشا" وابنه مع بداية المعركة كما أسر ابنه الثاني، وغرقت سفينة القيادة في الأسطول العثماني التي فيها "برتو باشا" وتم سحبها إلى الشاطئ بتضحيات كبيرة.
أما القائد البحري العثماني "أولوج" الذي كان يقود الجناح الأيمن فإنه لم يخسر أيا من سفنه البالغة 42 سفينة واستطاع أن يقضي على الأسطول المالطي بالكامل الذي يتكون من ست سفن واغتنم رايته، وعندما رأى أن الهزيمة تقع بالأسطول العثماني وأن تدخله لإنقاذه هو انتحار مؤكد، رأى أن من الحكمة الابتعاد عن الميدان حفاظا على بقية الأسطول والاستعداد لمعركة قادمة.
كانت الخسائر في تلك المعركة ضخمة للغاية لكلا الطرفين؛ فقد خسر العثمانيون 142 سفينة بين غارقة وجانحة وأسر الصليبيون 60 سفينة عثمانية، واستولوا كذلك على 117 مدفعا كبيرا، و256 مدفعا صغيرا، كما تم تخليص 30 ألف جداف مسيحي كانوا في الأسر، وسقط من العثمانيين حوالي 20 ألف قتيل وأسير، من بينهم 3460 أسيرا، ومن بين الأسرى 3 برتبة لواء بحري، وحاز الصليبيون راية "مؤذن باشا" الحريرية المطرزة بالذهب، وقد أعادها بابا روما إلى تركيا سنة (1385هـ= 1965م) كتعبير عن الصداقة بين الجانبين.
وقتل من الصليبيين حوالي 8 آلاف وسقط 20 ألف جريح، وأصيبت غالبية السفن المسيحية، وكان من بين الأسرى المسيحيين "سيروفانتوس" الذي فقد ذراعه الأيسر وعاش أسيرا في الجزائر وألف روايته المشهورة "دون كيشوت".
والواقع أن خسائر العثمانيين المعنوية كانت أشد فداحة من خسائرهم المادية، حيث كانت تلك المعركة الكبيرة ذات مردود سلبي في علاقة الدولة العثمانية بالأوربيين؛ فزال من نفوس الأوربيين أن الدولة العثمانية دولة لا تقهر، وهو ما شجع التحالفات الأوربية ضدها بعد ذلك، وظهرت المراهنات على هزيمتها.
ورغم هذا الانتصار الباهر للأوربيين في معركة "ليبانتو" البحرية فإن الأوربيين لم يستطيعوا استغلال هذا الانتصار الكبير من الناحية الإستراتيجية، فقد استطاع العثمانيون بعد أقل من عام واحد على هذه الهزيمة بناء أسطول جديد كان أكثر قوة وعددا من الأسطول الذي تحطم في تلك المعركة، وهو ما أثبت أن الدولة العثمانية ما زالت تحتفظ بقوتها وأنها تستطيع في الوقت القليل تعويض الفاقد من قوتها وخسائرها نظرا لما تتمتع به الدولة من موارد وطاقات ضخمة.
هزيمة وعزيمة
ومن المفارقة أنه بينما كانت البندقية وغيرها من الدول التي شاركت في ليبانتو يشربون كئوس الانتصار وينحتون التماثيل تخليدا لذلك الانتصار الكبير، كان العثمانيون يعملون على قدم وساق في بناء أسطولهم الجديد، حتى إن السلطان العثماني نفسه خصص جزءا من حديقته الخاصة لإنشاء مصنع لبناء 8 سفن جديدة، واستطاع العثمانيون خلال الشتاء الذي أعقب "ليبانتو" أن يشيدوا ما يقرب من 153 سفينة حربية.
ولم ينس العثمانيون تقوية الروح المعنوية لشعبهم، وتذكيرهم بأن خسارة معركة لا تعني بحال من الأحوال خسارة الصراع، ولذا قام "أولوج علي باشا" القائد البحري بالدخول إلى إستانبول بعد الهزيمة بحوالي شهرين في أسطول كبير مكون من 87 سفينة وتمت ترقيته إلى قائد القوات البحرية.
ولم يلبث "أولوج علي باشا" أن غادر إستانبول مع 245 سفينة في (صفر 980هـ= يونيو 1572) للدفاع عن قبرص بعدما علم أن الأسطول الصليبي يسعى للاستيلاء عليها، وعندما رأى "دون جون" الأسطول العثماني متجها نحوه أدرك أنه ليس في استطاعته مقاتلته بعدما تمكن العثمانيون من تعويض خسائرهم. أما البابا "بيوس الخامس" فكتب إلى الشاه الصفوي وإلى إمام اليمن يطلب منهما التحالف لقتال الدولة العثمانية.
ولم تنس الدولة العثمانية القصاص لهزيمتها في ليبانتو فعقدت معاهدة مع البندقية في (7 من مارس 1573م) تكونت من سبعة بنود، منها: أن تسدد البندقية إلى الدولة العثمانية 300 ألف ليرة ذهبية كغرامة حرب، وأن تعترف بالسيادة العثمانية على قبرص، وبعد أقل من عام قامت 220 سفينة عثمانية بتدمير سواحل إيطاليا الجنوبية
يتبع
سليم الأول
كانت معركة "جالديران" من المعارك الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية؛ فقد استطاع السلطان العثماني التاسع "سليم الأول" بانتصاره على "الصفويين" في سهول "جالديران" أن يحقق لدولته الأمان من عدو طالما شكل خطرًا داهمًا على وحدتها واستقرارها. كان السلطان "بايزيد الثاني" والد السلطان "سليم الأول" ميالا إلى البساطة في حياته، محبًا للتأمل والسلام؛ ولذلك فقد أطلق عليه بعض المؤرخين العثمانيين لقب "الصوفي"، وقد تمرد عليه أبناؤه الثلاثة في أواخر حكمه، واستطاع "سليم الأول" بمساعدة الإنكشارية أن يخلع أباه وينفرد بالحكم، ثم بدأ حملة واسعة للتخلص من المعارضين والعمل على استقرار الحكم، وإحكام قبضته على مقاليد الأمور في الدولة.
وقد اتسم السلطان "سليم" بكثير من الصفات التي أهَّلته للقيادة والزعامة؛ فهو –بالإضافة إلى ما يتمتع به من الحيوية الذهنية والجسدية- كان شديد الصرامة، يأخذ نفسه بالقسوة في كثير من الأمور، خاصة فيما يتعلق بأمور الدولة والحكم.
وبرغم ما كان عليه من القسوة والعنف فإنه كان محبًا للعلم، يميل إلى صحبة العلماء والأدباء، وله اهتمام خاص بالتاريخ والشعر الفارسي.
التحول الصفوي
اهتم السلطان "سليم الأول" منذ الوهلة الأولى بتأمين الحدود الشرقية للدولة ضد أخطار الغزو الخارجي الذي يتهددها من قِبل الصفويين -حكام فارس- الذين بدأ نفوذهم يزداد، ويتفاقم خطرهم، وتعدد تحرشهم بالدولة العثمانية.
وقد بدأت الحركة الصفوية كحركة صوفية منذ أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، ولكنها انتقلت من التأمل الصوفي إلى العقيدة الشيعية المناضلة منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، حتى استطاع الشاه "إسماعيل" -ابن آخر الزعماء الصفويين- أن يستولي على الحكم، ويكوِّن دولته بمساندة قبائل التركمان التي توافدت بالآلاف للانضمام إليه.
وحظي "إسماعيل الصفوي" بكثير من الاحترام والتقدير اللذين يصلان إلى حد التقديس، وكانت له كلمة نافذة على أتباعه، ومن ثَمَّ فقد قرر أن يمد نفوذه إلى الأراضي العثمانية المتاخمة لدولته في شرقي الأناضول.
وبدأ "إسماعيل" خطته بإرسال مئات من الدعاة الصفويين إلى الأناضول، فعملوا على نشر الدعوة الشيعية في أوساط الرعاة التركمان، وحققوا في ذلك نجاحًا كبيرًا.
تصاعد الخطر
وبالرغم من شعور السلطان "سليم" بتوغل المذهب الشيعي واستشعاره الخطر السياسي الذي تحتله تلك الدعوة باعتبارها تمثل تحديًا أساسيًا للمبادئ السُّنِّية التي تقوم عليها الخلافة العثمانية، فإن السلطان لم يبادر بالتصدي لهم إلا بعد أن اطمأنَّ إلى تأمين الجبهة الداخلية لدولته، وقضى تمامًا على كل مصادر القلاقل والفتن التي تهددها.
وبدأ "سليم" يستعد لمواجهة الخطر الخارجي الذي يمثله النفوذ الشيعي؛ فاهتم بزيادة عدد قواته من الانكشارية حتى بلغ عددهم نحو خمسة وثلاثين ألفًا، وزاد في رواتبهم، وعُني بتدريبهم وتسليحهم بالأسلحة النارية المتطورة.
وأراد السلطان "سليم الأول" أن يختبر قواته من الانكشارية، فخاض بها عدة معارك ناجحة ضد "الصفويين" في "الأناضول" و"جورجيا".
سليم يقرع طبول الحرب
وبعد أن اطمأنَّ السلطان "سليم" إلى استعداد قواته للمعركة الفاصلة بدأ يسعى لإيجاد ذريعة للحرب ضد الصفويين، ووجد السلطان بغيته في التغلغل الشيعي الذي انتشر في أطراف الدولة العثمانية، فأمر بحصر أعداد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد العجم بصورة سرية، ثم أمر بقتلهم جميعًا في مذبحة رهيبة بلغ عدد ضحاياها نحو أربعين ألفًا.
وفي أعقاب تلك المذبحة أعلن السلطان "سليم" الحرب على الصفويين، وتحرك على رأس جيش تبلغ قوته مائة وأربعين ألف مقاتل من مدينة "أدرنه" في [ 22 من المحرم 920هـ= 19 من مارس 1514م] فسار بجيشه حتى وصل "قونية" في [7 من ربيع الآخر 920= 1 من يونيو 1514م] فاستراح لمدة ثلاثة أيام، ثم واصل سيره حتى وصل "آرزنجان" في [أول جمادى الآخرة 920 هـ= 24 من يوليو 1514م]، ثم واصل المسير نحو "أرضوم"، فبلغها في [13 من جمادى الآخرة 920 هـ= 5 من أغسطس 1514].
وسار الجيش العثماني قاصدًا "تبريز" عاصمة الفرس، فلم تقابله في تقدمه واجتياحه بلاد فارس مقاومة تذكر؛ فقد كانت الجيوش الفارسية تتقهقر أمامه، وكانوا يحرقون المحاصيل، ويدمرون الدور التي كانوا يخلفونها من ورائهم بعد انسحابهم، حتى لا يجد جيش العثمانيين من المؤن ما يساعده على التوغل في بلاد فارس وتحقيق المزيد من الانتصارات، وكان الفرس يتقهقرون بشكل منظم حتى يمكنهم الانقضاض على الجيوش العثمانية بعد أن يصيبهم التعب والإنهاك.
واستمر تقدم السلطان "سليم" بقواته داخل الأراضي الفارسية، وكان الشاه "إسماعيل الصفوي" يتجنب لقاء قوات العثمانيين لتفوقها وقوتها، وقد رأى الانسحاب إلى أراضي شمال إيران الجبلية؛ حيث تمكنه طبيعتها الوعرة من الفرار من ملاحقة جيوش العثمانيين.
المواجهة الحاسمة في جالديران
وفي خِضم تلك الأحداث العصيبة فوجئ السلطان "سليم" ببوادر التمرد من جانب بعض الجنود والقادة الذين طالبوا بإنهاء القتال والعودة إلى "القسطنطينية"، فأمر السلطان بقتلهم، وكان لذلك تأثير كبير في إنهاء موجة التردد والسخط التي بدأت بوادرها بين الجنود، فتبددت مع الإطاحة برؤوس أولئك المتمردين.
وتقدم الجيش العثماني بصعوبة شديدة إلى "جالديران" في شرقي "تبريز"، وكان الجيش الصفوي قد وصلها منذ مدة حتى بلغها في [أول ليلة من رجب 920هـ=22 من أغسطس 1514م]، وقرر المجلس العسكري العثماني (ديوان حرب) الذي اجتمع في تلك الليلة القيام بالهجوم فجر يوم [2 من رجب 920هـ= 23 من أغسطس 1514].
كان الفريقان متعادليْن تقريبا في عدد الأفراد، إلا أن الجيش العثماني كان تسليحه أكثر تطورًا، وتجهيزاته أكمل، واستعداده للحرب أشد.
وبدأ الهجوم، وحمل الجنود الانكشارية على الصفويين حملة شديدة، وبالرغم من أن معظم الجنود العثمانيين كانوا عرضة للإرهاق والتعب بعد المسافة الطويلة التي قطعوها وعدم النوم بسبب التوتر والتجهيز لمباغتة العدو فجرًا فإنهم حققوا انتصارًا حاسمًا على الصفويين، وقتلوا منهم الآلاف، كما أَسَروا عددًا كبيرًا من قادتهم.
العثمانيون في تبريز
وتمكن الشاه "إسماعيل الصفوي" من النجاة بصعوبة شديدة بعد إصابته بجرح، ووقع في الأَسْر عدد كبير من قواده، كما أُسرت إحدى زوجاته، ولم يقبل السلطان "سليم" أن يردها إليه، وزوّجها لأحد كتّابه انتقامًا من الشاه.
ودخل العثمانيون "تبريز" في [14 من رجب 920 هـ= 4 من سبتمبر 1514م] فاستولوا على خزائن الشاه، وأمر السلطان "سليم" بإرسالها إلى عاصمة الدولة العثمانية، وفي خِضم انشغاله بأمور الحرب والقتال لم يغفل الجوانب الحضارية والعلمية والتقنية؛ حيث أمر بجمع العمال المهرة والحاذفين من أرباب الحرف والصناعات، وإرسالهم إلى "القسطنطينية"؛ لينقلوا إليها ما بلغوه من الخبرة والمهارة.
وكان السلطان "سليم" يشعر بما نال جنوده من التعب والإعياء بعد المجهود الشاق والخارق الذي بذلوه، فمكث في المدينة ثمانية أيام حتى استردّ جنوده أنفاسهم، ونالوا قسطًا من الراحة استعدادًا لمطاردة فلول الصفويين.
وترك السلطان المدينة، وتحرك بجيوشه مقتفيًا أثر الشاه "إسماعيل" حتى وصل إلى شاطئ نهر "أراس"، ولكن برودة الجو وقلة المؤن جعلتاه يقرر العودة إلى مدينة "أماسيا" بآسيا الصغرى للاستراحة طوال الشتاء، والاستعداد للحرب مع قدوم الربيع بعد أن حقق الهدف الذي خرج من أجله، وقضى على الخطر الذي كان يهدد دولته في المشرق، إلا أنه كان على قناعة بأن عليه أن يواصل الحرب ضد الصفويين، وقد تهيأ له ذلك بعد أن استطاع القضاء على دولة المماليك في الشام أقوى حلفاء الصفويين.
يتبع
صورة متخيلة لصلاح الدين في شبابه
كان الانتصار العظيم الذي حقَّقه صلاح الدين الأيوبي في معركة حطِّين أكبر كارثة حلَّت بالصليبيين منذ أن أقاموا إماراتهم الصليبية في الشام، حيث فقدوا زهرة فرسانهم، وقُتلت منهم أعداد هائلة، ووقع في الأسر مثلها، حتى قيل: إن من شاهد القتلى قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل.
وأصبح الصليبيون بعد هزيمتهم في حطِّين في قبضة صلاح الدين وتحت رحمته، يستطيع أن يفعل بهم ما يشاء لو أراد، ويعاملهم بما يستحقون على جرائمهم وخطاياهم، ولكنه كان كريم النفس، رفيع الخلق، ظاهر الرحمة، لم يسلم نفسه للتشفي والانتقام، وارتفع بسلوكه فوق شهوة الثأر، وهو ما جعله موضع الإجلال والتقدير.
الاتجاه إلى عكا
بعد حطِّين لم يتجه صلاح الدين إلى بيت المقدس لتحريره، وكان ذلك أمرًا ميسورًا، بل اتجه إلى عكا أولاً؛ ليحرم الصليبيين من قاعدة بحرية هامة تصلهم بأوروبا، ويقطع عنهم العون الذي يأتيهم منها، وكان في عزمه أن يستولي على المدن الصليبية التي تقع على ساحل البحر المتوسط، حتى يسهل عليه القضاء على الصليبيين في الداخل.
ولم يَكَد صلاح الدين يقترب من عكَّا حتى دَبَّ الفزع والهلع في نفوس الصليبيين، وسارع حاكمها إلى تسليم المدينة في مقابل تأمين أهلها على أرواحهم وممتلكاتهم، ودخل صلاح الدين المدينة في (2 من جمادى الأولى 583هـ = 10 من يوليو 1187م)، وعامل أهلها معاملة كريمة، وغنم المسلمون في عكا غنائم طائلة.
عكا قاعدة حربية
اتخذ "صلاح الدين" من عكَّا قاعدة حربية ومركزًا لعملياته العسكرية لتحرير المدن التي في قبضة الصليبيين، واستدعى أخاه الملك العادل من القاهرة؛ ليعاونه في استكمال الفتح، فقدم عليه ومعه عساكره، وقد نجحت جيوش صلاح الدين في استرداد الناصرة، وصفورية، والفولة في داخل فلسطين، وحيفا، وقيسارية، وأرسوف وهي المواقع التي تقع على الساحل.
ثم توجه صلاح الدين إلى "صيدا" فاستسلمت له دون مقاومة، ثم اتجه إلى بيروت وكانت مدينة حصينة، لكنها لم تُغْنِ عن أهلها شيئًا، وأدركوا عدم الجدوى من الدفاع والصمود، فاستسلمت هي الأخرى، في (29 من جمادى الأولى 583هـ = 6 من أغسطس 1187م)، ثم قصد صلاح الدين "جبيل"، وكان حاكمها "هيو الثالث" أسيرًا في دمشق منذ انتصار حطِّين، فعرض عليه صلاح الدين فكَّ أسره مقابل تسليم جبيل فأجابه إلى ذلك.
وقبل أن يتجه صلاح الدين لتحرير بيت المقدس قرَّر أن يستولي على عسقلان، وكانت مركزًا هامًّا يتخذه الصليبيون قاعدة لتهديد مصر، وقطع المواصلات بينها وبين الشام، واستمات الصليبيون في الدفاع عن عسقلان، ولم تفلح محاولاتهم في دفع الحصار، فطلبوا التسليم مقابل تأمينهم على أرواحهم فكان لهم ما طلبوا.
تحرير بين المقدس
استعدَّ صلاح الدين لاسترداد بيت المقدس، وجهَّز قواته لهذه المهمة الجليلة التي طال انتظار المدينة الأسيرة لها، وكان صلاح يرغب في أن تستسلم المدينة وفق الشروط التي استسلمت لها المدن الصليبية الأخرى من تأمين أهلها على أنفسهم وأموالهم، والسماح لمن شاء منهم بالخروج سالمًا، ولكن العزّة بالإثم أخذت بحاميتها، ورفضوا ما عرضه صلاح الدين عليهم، وظنوا أن حصونهم مانعتهم من ضربات صلاح الدين، ولم تُجْدِ محاولاتهم للصمود والثبات، فطلبوا الأمان وألحُّوا عليه، وكان صلاح الدين قد أقسم ليفتحنَّها بحد السيف بعد رفضهم عرضه العادل الرحيم، ولكن صلاح الدين استجاب لطلبهم بعد مشاورة أصحابه، ووافق على أن يغادر المسيحيون المدينة مقابل فداء قدره 10 دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، ودرهم واحد للطفل.
ودخل صلاح الدين مدينة بيت المقدس – ردَّ الله غربتها وأعادها إلى المسلمين قريبًا – في ليلة الإسراء (27 من رجب 583هـ = 12 من أكتوبر 1187م)، وكان في صحبته أخوه الملك العادل، وقد أظهر صلاح الدين تسامحًا كبيرًا مع فقراء الصليبيين الذين عجزوا عن دفع الجزية، ورفض هدم كنيسة القيامة، ومعاملة الصليبيين بمثل ما عاملوا به المسلمين عند استيلائهم على المدينة.
الحملة الصليبية الثالثة
حصن المرقب
ثار الغرب الأوربي عندما جاءته الأنباء بفاجعة معركة حطين واسترداد صلاح الدين لبيت المقدس ولكثير من المدن والقلاع الصليبية، ولم يبق في يد الصليبيين سوى بعض المدن والقلاع مثل صور التي عجز صلاح الدين عن فتحها، وطرابلس، وقلعة أنطرسوس، وحصن الأكراد، وإنطاكية، وحصن المرقب، وبعض المدن الصغيرة.
وأسفرت استغاثة الصليبيين في الشرق بالبابوية وملوك الغرب الأوربي عن نتائج إيجابية، وثارت أوربا التي جهزت حملتها المعروفة بالحملة الصليبية الثالثة التي تزعمها "فردريك بربروسا" إمبراطور ألمانيا، و"فيليب أوغسطس" ملك فرنسا، و"ريتشارد قلب الأسد" ملك إنجلترا.
تحركت القوات الألمانية مبكرا في (23 من ربيع الأول 584هـ= 11 من مايو 1189م) قبل القوات الفرنسية والإنجليزية، وسلكت الطريق البري عبر آسيا الصغرى، غير أن الإمبراطور لقي حتفه غرقا أثناء عبوره أحد أنهار آسيا الصغرى، وسرعان ما تبدد جيشه الكبير.
أما القائدان الآخران فقد وصلا بقواتهما إلى صقلية، وإن كان كل منهما قد سلك طريقا غير الآخر، وأمضيا فترة في نزاع حول الأمور الداخلية في صقلية، ثم أبحر القائدان إلى الشام.
فلول الصليبيين تتجه إلى عكا
اتجهت فلول الصليبيين إلى عكا بقيادة "جاي لوزجنان" ملك بيت المقدس الذي أفرج عنه صلاح الدين وكان أسيرا عنده منذ هزيمة الصليبيين في حطين، وتعهد ألا يشهر سيفا في وجه صلاح الدين، غير أنه نكث بوعده، وكان يمكن للمسلمين أن يقضوا على تلك الجموع في أثناء سيرها قبل أن يستفحل خطرها، ولكن صلاح الدين كان مشغولا بمنازلة قلعة الشقيف أرنون، ولم يصدق ما فعله جاي لوزجنان، وظن أن في الأمر خدعة لحمله على ترك القلعة، ولم ينتبه لخطورة الموقف إلا بعد اقتراب الصليبيين من عكا، وحاول علاج الموقف؛ فأرسل حملة لمنع تقدم الصليبيين، ولكنها لم تصل إلا بعد أن احتل الصليبيون مراكزهم في مواجهة عكا.
أقام الملك الصليبي معسكره على مقربة من عكا، ولحق به صلاح الدين على الفور في (15 من رجب 585 هـ= 29 من أغسطس 1189م) وعسكر بجيشه على مقربة منه، وكان موقف الصليبيين حرجا بعد أن أصبحوا محاصرين بين جيوش صلاح الدين وحامية المدينة المسلمة، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ فقد وصلت مقدمات الحملة الصليبية الثالثة، وحاصرت المدينة من البحر، وكان لذلك فعل السحر في نفوس الصليبيين الموجودين أمام عكا فارتفعت معنوياتهم وزادت ثقتهم، ثم لم يلبث أن جاءت قوات صليبية من صور التي صمدت أمام ضربات صلاح الدين، وكانت جموع الصليبيين قد احتشدت بها بعد سقوط مدنهم في يد صلاح الدين.
صمود المدينة
لم ينتظر صلاح الدين كثيرا بعد وصوله إلى عكا، وبدأ هجوما ضاريا على الصليبيين وأنزل بهم خسائر فادحة، ولم تنفعهم كثرتهم أمام إصرار صلاح الدين، وكاد الأمر ينتهي بفك حصارهم عن المدينة، ولكن حدث أن انتشرت الأوبئة في المنطقة لكثرة جيف القتلى من الفريقين، فابتعد صلاح الدين بقواته قليلا عن تلك المنطقة الموبوءة؛ فانتهز الصليبيون هذه الفرصة السانحة وأحاطوا المدينة بخندق يفصل بينهم وبين صلاح الدين، وانقطع طريق المسلمين بذلك إلى عكا، وإن كان ذلك لم يمنع صلاح الدين من الاتصال بحامية عكا عبر البحر أو الحمام الزاجل، وكانت الإمدادات تصل إلى المدينة عبر البحر حتى تساعدها على الصبر والثبات.
سقوط المدينة
ظل الوضع على ما هو عليه دون أن يحقق أحد الفريقين نصرا حاسما حتى وصلت قوات فيليب أوغسطس في (ربيع الأول 587 هـ= إبريل 1191م) فجمع شمل الصليبيين تحت زعامته، وكانت الخلافات بدأت تشتعل بينهم، ووحد جهودهم لمحاربة المسلمين، وبدأ على الفور في مهاجمة عكا، وإشعال الحماسة في نفوس الصليبيين، فأخذت آلات الحصار تقذف أسوار المدينة قذفا متصلا، ثم لم يلبث أن وصل ريتشارد قلب الأسد إلى عكا في (ربيع الآخر 587هـ= يونيو 1191م) فازداد به الصليبيون قوة إلى قوة.
وأظهرت الحامية الإسلامية في عكا ضروبا من الشجاعة والصبر والفداء والتضحية في مقاومة الحصار، ودفع هجمات الصليبيين المتوالية برا وبحرا، ولكن ذلك لم يكن كافيا للصمود، بعد أن اجتمعت أكبر قوتين في أوربا للاستيلاء على المدينة، وتوحدت أهدافهما، وأصبح لا مفر من سقوط المدينة المنكوبة، ودارت مفاوضات بين الفريقين لتسليم المدينة، واتفق الطرفان على أن يسمح الصليبيون لحامية عكا بالخروج سالمين، في مقابل فدية قدرها 200 ألف دينار، وأن يحرر المسلمون ألفين وخمسمائة من أسرى الصليبيين.
دخل الصليبيون عكا في (16 من جمادى الآخرة 587 هـ= 11 من يوليو 1191م) بعد أن حاصروها نحو عامين، غير أن ريتشارد قلب الأسد تجاهل بنود الاتفاق عندما دخل عكا، ونقض ما اتّفق عليه؛ حيث قبض على من بداخلها من المسلمين وكانوا نحو 3 آلاف مسلم وقام بقتلهم، ولم يقابل صلاح الدين الإساءة بالإساءة، ورفض أن يقتل من كان بحوزته من أسرى الصليبيين.
وظلت المدينة في قبضة الصليبيين حتى قام القائد المسلم "الأشرف بن قلاوون" بتحرير المدينة بعد أكثر من 100 عام.
يتبع
ظهرت قوة إسبانيا كأعظم ما تكون في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني ؛ فهي تملك أقوى الجيوش الأوربية وأكثرها كفاءة وقدرة على القتال، وأصبحت ماردًا يهدد الدولة العثمانية في البحر المتوسط حيث تهدد بلاد المغرب العربي، وفي وسط أوروبا حيث امتد نفوذها إلى ألمانيا بعد أن دخلت تحت تاج ملكها "شارل كوينت" الذي زاد من نفوذه زواج أخواته من ملوك البرتغال وفرنسا والدانمارك والنرويج والسويد والمجر؛ ولذلك أطلق على هذه الفترة من القرن السادس عشر الميلادي عهد شارل كوينت. ولم يبق من ملوك أوربا خارج سيطرته وقبضته سوى إنجلترا، وفرنسا التي عزم ملكها على منازلة خصمه الإمبراطور شارل كوينت مهما كلفه الأمر، لكنه لم يقو على الصمود فخسر معه معركته، وسيق ذليلاً إلى مدريد حيث سجن في أحد قصورها، غير أن أم الملك الأسير "لويز سافوا" أرسلت إلى السلطان سليمان القانوني ترجوه تخليص ابنها من الأسر، فوجد السلطان في ذلك فرصة للانقضاض على شارل كوينت بعد أن صار معه حليف من الغرب الأوروبي، وامتلك مسوغًا للتحرك باسم الملف الفرنسي بصورة شرعية.
وكان ذلك أملاً يراود نفس السلطان لإعادة إسبانيا إلى سابق عهدها دولاً متفرقة لا دولة واحدة تهدد دولته، وكان السلطان قد عهد إلى خير الدين باربروسا بمهمة منازلة إسبانيا في البحر المتوسط ودفع خطرها فكفاه ذلك، وترك لنفسه مهمة منازلة إسبانيا في وسط أوروبا، وكان ينتظر الفرصة المناسبة للقيام بدوره، وما كادت تستنجد به أم الملك الفرنسي حتى استعد لتحقيق ما كان يصبو إليه.
ظروف مناسبة للحملة
ولما أفرج شارل كوينت عن الملك الفرنسي بعد شروط صعبة أجبره على قبولها في معاهدة مدريد في (29 من ربيع الأول 932هـ = 14 من يناير 1526م)، عمد الملك الفرنسي إلى تقوية روابطه مع السلطان العثماني، وألح في طلب العون والمساعدة؛ لأن قواته العسكرية لم تكن كافية لمجابهة الملك الإسباني الذي انفتحت جبهته لملاقاة خصوم أشداء، فكان عليه أن يواجه سليمان القانوني، وخير الدين باربروسا، وفرانسوا الأول ملك فرنسا، ومارتن لوثر الذي تفاقمت دعوته وازداد أتباعه، وانتشر مذهبه البروتستانتي، وتمزقت بسببه الوحدة الكاثوليكية، وعجز الملك الإسباني عن القضاء على دعوته بعد أن دانت أقطار كثيرة بمذهبه، وانفصلت عن نفوذ البابا في روما.
وهكذا تهيأت الظروف للسلطان العثماني للقيام بضربته وتقليص نفوذ الملك الإسباني في المجر، وكانت إسبانيا أكبر كثيرًا مما هي عليه الآن؛ إذ كانت تتكون من اتحاد المجر وتشيكوسلوفاكيا السابقة، بالإضافة إلى الأقطار الشمالية ليوغسلافيا، مثل: سلوفينيا، وترانسلفانيا التي هي الآن تابعة لرومانيا.
حملة سليمان القانوني
سليمان القانوني
سار السلطان سليمان من إستانبول في (11 من رجب 932هـ= 23 من إبريل 1526م) على رأس جيشه، الذي كان مؤلفًا من نحو مائة ألف جندي، وثلاثمائة مدفع وثمانمائة سفينة، حتى بلغ "بلجراد"، ثم تمكن من عبور نهر الطونة بسهولة ويسر بفضل الجسور الكبيرة التي تم تشييدها، وبعد أن افتتح الجيش العثماني عدة قلاع حربية على نهر الطونة وصل إلى "وادي موهاكس" بعد 128 يومًا من خروج الحملة، قاطعًا 1000 كيلو من السير، وهذا الوادي يقع الآن جنوبي بلاد المجر على مسافة 185 كم شمال غربي بلجراد، و170 كم جنوبي بودابست. وكان في انتظاره الجيش المجري البالغ نحو مائتي ألف جندي، من بينهم 38000 من الوحدات المساعدة التي جاءت من ألمانيا، ويقود هذه الجموع الجرارة الملك "لايوش الثاني".< /SPAN> اللقاء المرتقب
وفي صباح يوم اللقاء الموافق (21 من ذي القعدة 932هـ= 29 من أغسطس 1526م) دخل السلطان سليمان بين صفوف الجند بعد صلاة الفجر، وخطب فيهم خطبة حماسية بليغة، وحثهم على الصبر والثبات، ثم دخل بين صفوف فيلق الصاعقة وألقى فيهم كلمة حماسية استنهضت الهمم، وشحذت العزائم، وكان مما قاله لهم: "إن روح رسول الله صلى الله عليه وسلم تنظر إليكم"؛ فلم يتمالك الجند دموعهم التي انهمرت تأثرًا مما قاله السلطان.
وفي وقت العصر هجم المجريون على الجيش العثماني الذي اصطف على ثلاثة صفوف، وكان السلطان ومعه مدافعه الجبارة، وجنوده من الإنكشاريين في الصف الثالث، فلما هجم فرسان المجر وكانوا مشهورين بالبسالة والإقدام أمر السلطان صفوفه الأولى بالتقهقر حتى يندفع المجريون إلى الداخل، حتى إذا وصلوا قريبًا من المدافع، أمر السلطان بإطلاق نيرانها عليهم فحصدتهم حصدًا، واستمرت الحرب ساعة ونصف الساعة في نهايتها أصبح الجيش المجري في ذمة التاريخ، بعد أن غرق معظم جنوده في مستنقعات وادي موهاكس، ومعهم الملك لايوش الثاني وسبعة من الأساقفة، وجميع القادة الكبار، ووقع في الأسر خمسة وعشرون ألفًا، في حين كانت خسائر العثمانيين مائة وخمسين شهيدًا، وبضعة آلاف من الجرحى.
نتائج هذه المعركة
كانت معركة موهاكس من المعارك النادرة في التاريخ، حيث هُزم أحد أطرافها على هذا النحو من مصادمَة واحدة وفي وقت قليل لا يتجاوز ساعتين، وترتب عليها ضياع استقلال المجر بعد ضياع جيشها على هذه الصورة في هزيمة مروعة، وبعد اللقاء بيومين في (23 من ذي القعدة 932هـ= 31 من أغسطس 1526م) قام الجيش العثماني بعمل استعراض أمام السلطان سليمان، وقام بأداء التحية له وتهنئته، وقام القادة بدءًا من الصدر الأعظم بتقبيل يد السلطان.
ثم تحرك الجيش نحو الشمال بمحاذاة ساحل الطونة الغربي حتى بلغ بودابست عاصمة المجر، فدخلها في (3 من ذي الحجة 932هـ= 10 من سبتمبر 1526م)، وشاءت الأقدار أن يستقبل في هذه المدينة تهاني عيد الأضحى في سراي الملك، وكان قد احتفل بعيد الفطر في بلجراد في أثناء حملته الظافرة.
مكث السلطان في المدينة ثلاثة عشر يومًا ينظم شئونها، وعين جان "زابولي" أمير ترانسلفانيا ملكًا على المجر التي أصبحت تابعة للدولة العثمانية، وعاد السلطان إلى عاصمة بلاده بعد أن دخلت المجر للدولة العثمانية وتقلص نفوذ الملك الإسباني
يتبع
كان للصين علي مر التاريخ نفوذ كبير في منطقة آسيا الوسطي والتي تضم اليوم جمهوريات (أوزباكستان,تركمنستان,طاجيكستان,قرغيستان) وكانت هذه المناطق مجالا حيويا للصين منذ اقدم العصور كما كانت لها اهميتها لانها تقع علي طريق الحرير,وقد سكنت تلك المناطق قبائل تركية كانت شبه مستقلة لكن كانت تدين بالولاء لامبراطور الصين وكانت تدفع له الجزية.
لكن منذ القرن السابع الميلادي ظهرت تطورات جديدة علي الساحة العالمية,فقد ظهر الاسلام وصاحب ذلك بداية الفتوحات الاسلامية التي لم تهتم بها الصين في أول الامر لعدة اسباب منها, بعد الفتوحات الاسلامية عن الصين ,رغبة حكام الصين في التخلص من ملوك فارس(الساسانيين) المنافس الاكبر لهم في آسيا الوسطي,بل انهم -اي حكام الصين – تجاهلوا استغاثة ملك فارس بهم .
بداية الصراع
لكن البداية الحقيقية بدأت عندما أكمل المسلمون فتح إيران وما تلي ذلك من تطلع المسلمين إلي فتح آسيا الوسطي لتأمين الفتوحات الاسلامية التي حققها المسلمين, ففتحت جيوش الدولة الأموية كابول وهرات وغزنة وكلها تقع الأن في افغانستان,وكان لولاة المسلمين علي اقليم خراسان أثرا بالغ الاهمية في التشجيع علي الفتوحات,فقد كانت لمجهودات المهلب بن ابي صفرة (والي خراسان) اكبر الاثر ففي فتح ما يعرف الأن بافغانستان.
وكذلك الدور الكبير الذي قام به الحجاج بن يوسف عندما حشد الجيوش وقال قولته المشهورة "" أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها"" ووجد الحجاج في قتيبة بن مسلم الباهلي غايته فقد كان قائدا بارعا, ولاه الحجاج خراسان سنة (85هـ = 704م)، وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد؛ فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من النواحي والممالك والمدن الحصينة، مثل: بلخ، وبيكند، وبخارى، وشومان، وكش، والطالقان، وخوارزم، وكاشان، وفرغانه، والشاس، وكاشغر الواقعة على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند.
لم تستطع الصين وقف موجات الفتوحات الاسلامية في آسيا الوسطي عسكريا واكتفت بدعم زعماء القبائل وتحريضهم علي القتال ضد المسلمين دون أن تحقق نجاحا يذكر.
ففي هذه الوقت لم يكن بمقدور الصين مواجهة المسلمين عسكريا نظرا للمشاكل والثورات التي عاشتها الصين في تلك الفترة, بالاضافة الي سمعة الجيش المسلم الذي لا يقهر فقد هزم الفرس وأسقطوا دولتهم كما قلموا أظافر الدولة الرومانية واستولوا علي أكثر أملاكها حتي بلاد الغال البعيدة (فرنسا) لم تسلم من غزوات المسلمين.
معركة طلاس
علي الرغم من استيلاء المسلمين علي معظم مناطق آسيا الوسطي, إلا أن الصين احتفظت ببعض المناطق الهامة الباقية والتي تتمثل في قرغيزيا.
لكن الصين كانت تطمح دائما في استعادة نفوذها المفقود فاستغلت الازمة التي تعيشها الدول الاموية وانشغالها بمقاومة الثورات والمعارضين, وقامت(الصين) بإرسال حملة عسكرية بقيادة القائد (جاو زيانزي) استطاعت تلك الحملة استرجاع بعض المدن الهامة من المسلمين مثل كش والطالقان وتوكماك -وهي تقع الان في جمهورية أوزبكستان- بل وصل الامر الي تهديد مدينة كابول إحدي كبري مدن المسلمين في آسيا الوسطي وذلك في سنة 748 ميلادية 130 هجرية.
الجبهة الاسلامية
أدي وصول العباسيين إلي سدة الخلافة إلي استقرار الدولة الاسلامية وبالتالي التفكير في تأمين حدودها, فأرسل الخليفة أبو جعفر المنصور الي أبو مسلم واليه علي خراسان بالتحضير بحملة لاستعادة هيبة المسلمين في تركستان(اي آسيا الوسطي) فقام ابو مسلم بتجهيز جيشا زحف به إلي مدينة "مرو" وهناك وصلته قوات دعم من اقليم طخارستان -يقع هذا الاقليم في افغانستان- وسار أبو مسلم بهذا الجيش الي سمرقند وانضم بقواته مع قوات زياد بن صالح الوالي السابق للكوفة, وتولي زيادة قيادة الجيش.
الجبهة الاسلامية
حشد الصينيون 30 ألف مقاتل طبقا للمصادر الصينية و100 ألف مقاتل طبقا للمصادر العربية, وكان جاو زيانزي علي رأس الجيش الصيني,
وفي يوليو 751 اشتبكت الجيوش الصينية مع الجيوش الاسلامية بالقرب من مدينة طلاس أو طرار والتي تقع علي نهر الطلاس بجمهورية قرغيزيا.
احداث المعركة
اشتبكت الجيوش الاسلامية مع الجيوش الصينية,وحاصر فرسان المسلمين الجيش الصيني بالكامل وأطبق عليه الخناق مما أدي الي سقوط الآف القتلي من الجانب الصيني, وهرب جاو زيانزي من المعركة بعد أن خسر زهرة جنده, اما عن زياد بن صالح فقد أرسل الاسري وكانوا 20 ألف إلي بغداد وتم بيعهم في سوق الرقيق.
أهمية المعركة
ترجع أهمية المعركة في أنها كانت اول وأخر صدام عسكري حدث بين المسلمين والصينيين,كما انها أنهت نفوذ الصين في آسيا الوسطي -بعد ان سقطت قرغيزيا في ايدي المسلمين- حيث تم صبغ تلك المنطقة (اسيا الوسطي) بصبغة اسلامية بعد أن اسلم أكثر قبائلها وغدت مناطق اشعاع اسلامي وحضاري وانجبت علماء مسلمين عظام كالامام البخاري والترمذي وابا حنيفة وغيرهمكما انها ادت الي وصول الورق الصيني الي دول الشرق الاسلامي بعد ان أسر المسلمين عدد كبير من صناع الورق الصينيين,ونقلهم الي بغداد.
يتبع
يعتبر دخول الإسلام إلى بلاد الهند الشاسعة أشبه ما يكون بالملاحم الأسطورية التي سطرها كبار المؤلفين والمؤرخين، والإسلام قد دخل بلاد الهند الضخمة والواسعة منذ القرن الأول الهجري، ولكنه ظل في بلاد السند بوابة الهند الغربية فترة طويلة من الزمان، حتى جاء العهد الذي اقتحم فيه الإسلام تلك البلاد الكبيرة المتشعبة الأفكار والعادات، والمبنية على نظام الطبقات، فاصطدم الإسلام ليس فقط مع القوة المادية والجيوش الحربية ولكنه اصطدم أيضا مع الأفكار الغربية والانحرافات الهائلة و الضلالات المظلمة لذلك فإن معركة الإسلام مع الكفر بأنواعه الكثيرة بالهند ظلت لمئات السنين، ومازالت قائمة حتى وقتنا الحاضر والذي نلمسه جلياً في المذابح والمجازر السنوية والموسمية التي يقوم بها عباد البقر من الهندوس ضد المسلمين، الذين تحولوا من قادة وحكام للبلاد إلى أقلية وذلك رغم ضخامة أعدادهم مقارنة بغيرهم من بلدان العالم .
الإسلام والهند
بلاد الهند قديماً قبل التقسيم الحالي كانت تشمل بجانب الهند كلا من [باكستان ، وأفغانستان، وبورما،] وغيرهم إلى حدود الصين، وكانت منقسمة إلى بلاد الهند وبلاد السند، لذلك فلقد عرفت عند الجغرافيين باسم ‘شبه القارة الهندية’ لضخامتها، ولقد دخل الإسلام إلى بلاد السند منذ الأيام الأولى للدولة الإسلامية، وبالتحديد سنة 15 هجرية في خلافة ‘عمر بن الخطاب’عن طريق الحملات الاستكشافية التي قادها ‘الحكم بن العاص’ الذي وصل إلى ساحل الهند، وتواصلت الحملات الاستكشافية أيام أمير المؤمنين ‘عثمان بن عفان’ ولكنه رضي الله عنه رفض إرسال جيوش كبيرة خوفاً على المسلمين لبعد البلاد واتساعها .
ظل الأمر هكذا حتى صدر الدولة الأموية وعندما تولى ‘زياد بن أبيه’ العراق وما بعدها، فقرر أن يجعل سواحل الهند ولاية منفصلة سميت بالثغر، وتشمل المساحة التي تلي [سجستان وزابلستان وطخارستان ‘أفغانستان الآن] وكان أول من تولاها رجل اسمه ‘راشد بن عمرو’ ومن يومها بدأت الحملات الجهادية القوية للفتح الإسلامي للهند، وبرز رجال في تلك الحملات : أمثال [عباد بن زياد وسعيد بن أسلم ومحمد بن هارون] وكلهم أكرمهم الله بالشهادة في ميادين الجهاد .
كان التحول الكبير في مسيرة الفتح الإسلامي للهند عندما تولى الشاب القائد ‘محمد بن القاسم الثقفي’ رحمه الله قيادة الحملات الجهادية بناحية السند، وحقق انتصارات هائلة بالقضاء على ملك السند ‘داهر البرهمى’ وفتح معظم بلاد ‘السند’ وضمها للدولة الإسلامية، وأزال عنها شعائر الشرك والكفر والبوذية والبرهمية، وذلك سنة 89 هجرية، ولكن ‘محمد بن القاسم’ ما لبث أن راح ضحية لمؤامرة دنيئة قامت بها ‘صيتا ابنة داهر’ حيث ادعت وافترت عليه كذباً أنه أغتصبها، وسجن ‘ابن القاسم’ ومات في سجنه، وحزن عليه أهل ‘السند’ حزناً شديداً، وبموته توقفت حركة الفتح الإسلامي للهند .
وبعد ذلك انتفض ملوك ‘الهند’ و’السند’ وعادوا إلى عروشهم، فلما تولى الخليفة الراشد ‘عمر بن عبد العزيز’ كتب إلى ملوك ‘السند’ يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يظل كل ملك منهم مكانه، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فأجابوه، ودخلت بلاد ‘السند’ كلها في الطاعة المسلمين، وأسلم أهلها وملوكها وتسموا بأسماء العرب، وبهذا أصبحت بلاد ‘السند’ بلاد إسلام، وقد اضطرب أمر ‘السند’ في أواخر أيام بنى أمية، ولكنها عادت إلى الطاعة والانتظام في أيام ‘أبى جعفر المنصور’ وفي أيامه افتتحت ‘كشمير’ ودخلت في دولة الإسلام، ولكن ظلت بلاد ‘الهند’ الغربية بعيدة عن الإسلام حتى ظهرت عدة دول محلية موالية للخلافة العباسية، ولكنها مستقلة إدارياً وسياسياً ومالياً ، ومن أعظم تلك الدول المحلية التي ساعدت على نشر الإسلام دولة الغزنويين وقائدها الفاتح الكبير ‘محمود بن سبكتكين’ .
الدولة الغزنوية
اسمها مشتق من اسم عاصمتها وهى مدينة ‘غزنة’ الموجودة حالياً بأفغانستان وأصل هذه الدولة يرجع إلى القائد ‘سبكتكين’ الحاجب التركي الذي عمل في خدمة الأمير ‘عبد الملك بن نوح السامانى’ وترقى في المناصب وارتفعت به الأطوار حتى نال رضا أمراء ‘السامانية’ فعينوه والياً على ‘خراسان’ و’غزنة’ و’بيشاور’، فكون نواة الدولة ‘الغزنوية’ وتفرغ لمحاربة أمراء وملوك ‘الهند’ وخاصة ملوك شمال ‘الهند’، وأكبرهم الملك ‘جيبال’ الذي قاد ملوك وأمراء الشمال الهندي، واصطدم مع المسلمين بقيادة ‘سبكتكين’ سنة 369هجرية، وكان النصر حليفاً للمسلمين، فرسخ بذلك ‘سبكتكين’ الوجود الإسلامي وكذا أركان دولته الوليدة ببلاد ‘الأفغان’ و’طاجيكستان’ .
وكل ما قام به ‘سبكتكين’ كان باسم ‘السامانيين’ وملوك ما وراء النهر، ولم يعلن استقلاله حتى وقتها، ثم قام بأداء أعظم مهمة لصالح الدولة ‘السامانية’ عندما قضى على قوة ‘البوبهيين’ الشيعة بنيسابور’ سنة 383 هجرية، فقام الأمير ‘نوح بن نصر السامانى’ بتعين ‘محمود بن سبكتكين’ والياً على ‘نيسابور’ن وبالتالي غدت الدولة ‘الغزنوية’ أوسع من الدولة ‘السامانية’ نفسها، ومات ‘سبكتكين’ سنة 388 هجرية، وخلفه ابنه ‘محمود’ لتدخل المنطقة عهداً جديداً من الفتوحات، لم تعرف مثله منذ أيام الخليفة ‘الفاروق’ .
الفاتح الكبير
لم يكد الأمر يستقر للقائد الجديد ‘محمود بن سبكتكين’ حتى بدأ نشاطاً جهادياً واسعاً أثبت أنه من أعاظم الفاتحين في تاريخ الإسلام، حتى قال المؤرخون أن فتوحه تعدل في المساحة فتوح الخليفة ‘عمر بن الخطاب’، وقد اتبع سياسة جهادية في غاية الحكمة تقوم أساساً على تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية عسكرياً وسياسياً وعقائدياً وهو الأهم فعمل على ما يلى :
1- القضاء على كل المذاهب والعقائد الضالة المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة مثل الاعتزال والتشيع والجمهية والقرامطة والباطنية ، والعمل على نشر عقيدة السلف الصالح بين لبلاد الواقعة تحت حكمه.
2- قضى على الدولة ‘البويهية’ الشيعية والتي كانت من عوامل التفرق والانحلال في الأمة الإسلامية كلها، حتى بلاغ بها الأمر في التفكير بالعودة للعصر ‘الساسانى’ الفارسى، واتخاذ ألقاب المجوس مثل ‘شاهنشاه’ وبالقضاء على تلك الدولة الرافضية قدم السلطان ‘محمود’ أعظم خدمة للإسلام .
3- أزال الدولة السامانية’ التي بلغت حالة شديدة السوء من الضعف والانحلال أثرت بشدة على سير الحملات الجهادية والفتوحات على الجبهة الهندية .
4-أدخل بلاد الغور وسط ‘أفغانستان’ وهى مناطق صحراوية شاسعة في الإسلام، وأرسل إليهم معلمين ودعاة وقراء، وقضى على دولة ‘القرامطة’ الصغيرة بالملتان، وكان يقودها رجل اسمه ‘أبو الفتوح داود’ وأزال عن هذه البلاد العقائد الضالة والفرق المنحرفة مثل الباطنية والإسماعيلية .
5- أعلن خضوع دولته الضخمة وتبعيتها للخلافة العباسية ببغداد وخطب للخليفة العباسي ‘القادر بالله’ وتصدى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين ‘التاهرتى’ الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية ببلاد ‘محمود بن سبكتكين’، وأهدى بغلته إلى القاضي ‘أبى منصور محمد بن محمد الأزدى’ وقال ‘كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحدين’ .
وهكذا ظل السلطان ‘محمود بن سبكتكين’ يرتب للبيت من الداخل ويقوى القاعدة إيمانياً وعقائدياً وعسكرياً، ويكون صفاً واحداً استعداداً لسلسلة الحملات الجهادية الواسعة لفتح بلاد ‘الهند’ .
فتوحات الهند الكبرى
بدأ السلطان محمود فتوحاته الكبيرة ببلاد ‘الهند’ من مركز قوة بعد أن ثبت الجبهة الداخلية لدولته، فقد كان يسيطر على سهول ‘البنجاب’ فكانت مداخل الجبال وممر خيبر الشهير في يده، وكذلك لم يكن هناك مناؤى أو معارض داخلي للسلطان ‘محمود’ يعيق حملاته الجهادية، والهضبة الإيرانية كلها تحت حكمه وسيطرته، لذلك البداية في غاية القوة .
بدأت الحملات الجهادية بحملة كبيرة على شمال ‘الهند’ سنة 392 هجرية، حيث انتصر السلطان ‘محمود’ على ملك الهند الكبير والعنيد ‘جيبال’ وجيوشه الجرارة، ووقع ‘جيبال’ في الأسر، فأطلقه السلطان ‘محمود’ لحكمه يعلمها الله ثم هو : وهى إذلاله نتيجة حروبه الطويلة ضد المسلمين منذ أيام والده السلطان ‘سبكتكين’، وكان من عادة الهنود أنه إذا وقع منهم في أيدي المسلمين أسيراً لا تنعقد له بعدها رياسة، فلما رأى ‘جيبال’ ذلك حلق رأسه ثم أحرق نفسه بالنار، فاحترق بنار الدنيا قبل الآخرة.
غزا السلطان ‘محمود’ بعد ذلك أقاليم : ‘ويهنده’، و’الملثان’، و’بهاتندة’، ثم حارب ‘أناندابال’، وانتصر عليه، وأزال حكمه من شمال ‘الهند’ تماماً وقضى على سلطانه في ‘البنجاب’ وبعد ذلك مباشرة عمل على نشر الإسلام الصحيح في كل نواحى ‘السند’ إلى حوض ‘البنجاب’ .
تصدى السلطان ‘محمود’ لمحاولة أمراء شمال ‘الهند’ استعادة ما أخذ المسلمون، وانتصر عليهم في معركة هائلة سنة 398 هجرية، وفتح أحصن قلاع ‘الهند’ قلعة ‘بيهيمنكر’ على جبال ‘الهملايا’، وأخضع مدينة ‘ناردبين’ أحصن وأقوى مدن إقليم ‘الملتان’ .
وفي سنة 408 هجرية فتح السلطان ‘محمود’ إقليم ‘كشمير’، وحوله لبلد مسلم، وكان لهذا الفتح صدى بعيد نتج عنه دخول العديد من أمراء ‘الهند’ في الإسلام، وعبر السلطان ‘محمود’ بجيوشه نهر ‘الكنج’ أو ‘الجانح’ وهدم نحو عشرة آلاف معبد هندوسى، ثم هاجم أكبر مراكز ‘البراهمة’ في ‘موجهاوان’ وواصل تقدمه وهو يحطم أية قوة هندية تبرز له، ويحول المعابد الهندوسية إلى مساجد يعبد الله فيها وحده، وقد أخذ السلطان ‘محمود’ على عاتقه نشر الإسلام في بلاد الهند والقضاء على الوثنية فيها، وبلغ في فتوحاته إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية ولم تتل به قط سورة ولا آية .
فتح سومنات
استمر السلطان ‘محمود بن سبكتكين’ في حملاته وفتوحاته لبلاد ‘الهند’ وكان كلما فتح بلداً أو هدم صنماً أو حطم معبداً قال الهنود : إن هذه الأصنام والبلاد قد سخط عليها الإله ‘سومنات’ ولو أنه راض عنها لأهلك من قصدها بسوء، ولم يعر السلطان ‘محمود’ الأمر اهتمامه حتى كثرت القالة، وأصبحت يقيناً عند الهنود، فسأل عن ‘سومنات’ هذا فقيل له : إنه أعظم أصنام وآلهة الهنود، ويعتقد الهنود فيه أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على عقيدة التناسخ فيعيدها فيمن شاء، وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر له .
يقع ‘سومنات’ على بعد مائتي فرسخ من مصب نهر ‘الجانح’ بإقليم ‘الكوجرات’ في غرب الهند، ولهذا الصنم وقف عشرة آلاف قرية، وعنده ألف كاهن لطقوس العبادة، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس ولحى زواره، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون على باب الصنم، وأما الصنم ‘سومنات’ نفسه فهو مبنى على ست وخمسين سارية من الصاج المصفح بالرصاص، و’سومنات’ من حجر طوله خمسة أذرع، وليس له هيئة أو شكل بل هو ثلاث دوائر وذراعان .
عندما اطلع سلطان الإسلام السلطان ‘محمود’ على حقيقة الأمر عزم على غزوه وتحطيمهن وفتح معبده : ظناً منه أن ‘الهند’ إذا فقدوه ورأوا كذب ادعائهم الباطل دخلوا في الإسلام، فالسلطان ‘محمود’ لا يبغى من جهاده سوى خدمة ونشر الإسلام فاستخار الله عز وجل،وخرج بجيوشه ومن انضم إليه من المتطوعين والمجاهدين وذلك في 10 شعبان سنة 416 هجرية، واخترق صحارى وقفار مهلكة لا ماء فيها ولا ميرة، واصطدم بالعديد من الجيوش الهندية وهو في طريقه إلى ‘سومنات’، مع العلم أنه أعلم الجميع بوجهته وهدفه، ليرى الهنود إن كان ‘سومنات’ سيدفع عن نفسه أو غيره شيئاً .
بلغ السلطان ‘محمود’ بجيوشه مدينة ‘دبولواره’ على بعد مرحلتين من ‘سومنات’، وقد ثبت أهلها لقتال المسلمين ظناً منهم أن إلههم ‘سومنات’ يمنعهم ويدفع عنهم، فاستولى عليها المسلمون، وحطموها تماماً، وقتلوا جيشها بأكمله، وساروا حتى وصلوا إلى ‘سومنات’ يوم الخميس 15 ذي القعدة سنة 416 هجرية، فرأوا حصناً حصيناً على ساحل النهر، وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين واثقين أن معبدوهم يقطع دابرهم ويهلكهم .
وفي يوم الجمعة 16 ذي القعدة وعند وقت الزوال كما هي عادة المسلمين الفاتحين زحف السلطان ‘محمود’ ومن معه من أبطال الإسلام، وقاتلوا الهنود بمنتهى الضراوة، بحيث إن الهنود صعقوا من هول الصدمة القتالية بعدما ظنوا أن إلههم الباطل سيمنعهم ويهلك عدوهم، ونصب المسلمون السلالم على أسوار المدينة وصعدوا عليها وأعلنوا كلمة التوحيد والتكبير وانحدروا كالسيل الجارف داخل المدينة، وحينئذ اشتد القتال جداً وتقدم جماعة من الهنود إلى معبدوهم ‘سومنات’ وعفروا وجوههم وسألوه النصر، واعتنقوه وبكوا، ثم خرجوا للقتال فقتلوا جميعاً وهكذا فريق تلو الآخر يدخل ثم يقتل وسبحانه من أضل هؤلاء حتى صاروا أضل من البهائم السوائم، قاتل الهنود على باب معبد الصنم ‘سومنات’ أشد ما يكون القتال، حتى راح منهم خمسون ألف قتيل، ولما شعروا أنهم سيفنون بالكلية ركبت البقية منهم مراكب في النهر وحاولوا الهرب، فأدركهم المسلمون فما نجا منهم أحد، وكان يوماً على الكافرين عسيراً، وأمر السلطان ‘محمود’ بهدم الصنم ‘سومنات’ وأخذ أحجاره وجعلها عتبة لجامع غزنة الكبير شكراً لله عز وجل .
أعظم مشاهد المعركة
لهذا المشهد نرسله بصورة عاجلة لكل الطاعنين والمشككين في سماحة وعدالة الدين الإسلامي، وحقيقة الجهاد في سبيل الله وأن هذا الجهاد لم يرد به المسلمون أبداً الدنيا وزينتها، بل كان خالصاً لوجه الله، ولنشر دين الإسلام وإزاحة قوى الكفر وانطلاقاً من طريق الدعوة الإسلامية .
أثناء القتال الشرس حول صنم ‘سومنات’ رأى بعض عقلاء الهنود مدى إصرار المسلمين على هدم ‘سومنات’ وشراستهم في القتال حتى ولو قتلوا جميعاً عن بكرة أبيهم، فطلبوا الاجتماع مع السلطان ‘محمود’ ، وعرضوا عليهم أموالاً هائلة، وكنوزاً عظيمة في سبيل ترك ‘سومنات’ والرحيل عنه، ظناً منهم أن المسلمين ما جاءوا إلا لأجل الأموال والكنوز فجمع السلطان ‘محمود’ قادته، واستشارهم في ذلك، فأشاروا عليه بقبول الأموال للمجهود الضخم والأموال الطائلة التي أنفقت على تلك الحملة الجهادية، فبات السلطان ‘محمود’ طول ليلته يفكر ويستخير الله عز وجل، ولما أصبح قرر هدم الصنم ‘سونمات’، وعدم قبول الأموال وقال كلمته الشهيرة {وإنى فكرت في الأمر الذي ذكر، فرأيت إذا نوديت يوم القيامة أين ‘محمود’ الذي كسر الصنم ؟ أحب إلى من أن يقال : الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا ؟ ! }
وهكذا نرى هذا الطراز العظيم من القادة الربانيين الذين لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة، ولا أموال الدنيا وكنوزها عن نشر رسالة الإسلام وخدمة الدعوة إليه، والذين ضربوا لنا أروع الأمثلة في بيان نصاعة وصفاء العقيدة الإسلامية، وأظهروا حقيقة الجهاد في سبيل الله وغاياته النبيلة .
يتبع