الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً – كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فما أجملها من عبارات، وما أعذبها من كلمات، وما أعظمها من تضحيات، حب ووفاء، وصدق وولاء، عهد وعقد، لا رجوع ولا تقهقر، ولا كسل ولا تواني، بل تقدم إلى الامام، وطلب للشهادة، وبحثٍ عن الموت، ومفارقةٍ للأهل والأولاد، والصاحبة والأزواج؛ كل هذا تجسد في الرعيل الأول، والجيل الفريد، أصحاب المبادئ السامية، والمواقف الثابتة، والنماذج الصلبة، والمخرجات المتميزة:
كان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا غزا، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد!!، فأتى عمرو بن الجموح – رضي الله عنه – رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله إن بَنيَّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، ووالله إني لأرجو أن استشهد "فأطأ بعرجتي هذه في الجنة"، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد))، وقال لبنيه: ((وما عليكم أن تدعوه لعل الله – عز وجل – أن يرزقه الشهادة))، فخرج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقتل يوم أحد شهيد1.
وحاله كما قال القائل:
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولـــو نصب المنايا حولنا أسـوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهـ ـدمها ونهدم فوقها الكفارا
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابةٍ يصابون في فج من الأرض غائر
قال ابن عبد البر عن عمرو بن الجموح – رضي الله عنه -: "وكان يولم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا تزوج"، ولهذا مدحه شاعر الأنصار:
فقالوا له جد بن قيس على التي نبخله فيها وإن كان أسودا
فسوَّد عمرو بن الجموح لجوده وحق لعمر بالندى أن يسوَّدا
إذا جاءه السؤَّالُ أذهب ماله وقال خذوه إنه عائد غدا
فلو كنتَ يا جَدُّ بن قيس على التي على مثلها عمرو لكنتَ مسوَّدا
وفي رواية أنه قال: "اللهم لا تردني حتى أطأ بعرجتي هذه الجنة صحيحاً، وقاتل حتى قتل، فمر عليه – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((لكأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة)) إيهٍ إيهٍ!!