تخطى إلى المحتوى

الجر على الجوار في القرآن 2024

الونشريس

ثمة باب من أبواب النحو يطلق عليه باب (الجر على الجوار)، يريدون به جر حركة لفظ متأخر إتباعاً لما تقدمه من لفظ مجرور بجامع المجاورة ليس إلا. وقد عبر عن المراد من هذا الباب ابن هشام النحوي من خلال قاعدة تقول: إن الشيء يعطى حكم الشيء إذا جاوره. والمثال الشائع والأبرز للتمثيل لهذه القاعدة قول بعضهم: (هذا جِحْرُ ضبٍّ خربٍ) بجر (خربٍ) لمجاورته لمجرور (ضبٍّ)، وحقه الرفع؛ لأنه صفة في المعنى لـ (جِحْرُ) لصحة اتصافه به، وهو مرفوع، والصفة تتبع موصوفها في الحركة الإعرابية، و(الضب) لا يوصف به، وإنما جُرَّ على الجوار.

موقف النحاة من هذا الباب

والنحاة من حيث الجملة قائلون بهذا الباب من النحو، وهم في ذلك تبع لسيبويه، فقد نقل سيبويه في باب الجر عن الخليل قوله: "هذا الذي تجره العرب على الجوار، إنما تجعله على بعض الأوصاف، وهو أن يكون النعت الذي يجره يوافق الاسم الذي يجاوره في: عدته، وفي تذكيره، وتأنيثه. فإن اختلفت العدة، أو كان أحدهما مذكراً والآخر مؤنثاً، استعملوا الكلام على أصله، ولم يجروه على المجاورة". فكلام سيبويه وما نقله عن أستاذه الخليل يدل على القول بهذا الباب من أبواب النحو، إلا أن كلام سيبويه يفيد أن القول بهذا الباب مشروط بأن يكون في الصفات، وأن تكون الصفة موافقة للموصوف من حيث التذكير، والتأنيث، والعدد، فإن اختل شرط من هذه الثلاث لم يُعمل بقاعدة (الجر على الجوار).

وأبو البقاء العكبري اعتبر هذا الباب في النحو، وذكر أن (الجر على الجوار) ليس بممتنع أن يقع في كلام العرب لكثرته، وقد جاء في القرآن والشعر، وذكر أمثلة عليه من القرآن والشعر.

وقد أنكر ابن جني -وهو من أئمة اللغة- (الجر على الجوار) وجعل (خرباً) في قولهم: (جِحر ضبٍّ خربٍ) صفة لـ (ضب) بتقدير مضاف، أي: خرب جحره.

موقف المفسرين من هذا الباب

إذا كان الموقف العام لأهل اللغة والنحاة القول بـ (الجر على الجوار)، فإن الموقف العام للمفسرين عدم الاعتداد به، وتنزيه كلام الله عن القول به؛ فشيخ المفسرين الطبري لم نقف عنده على ذكر لهذا الباب من قريب ولا من بعيد، وفي هذا دلالة على رفضه للقول به.

وأبو جعفر النحاس صاحب "تفسير القرآن"، و"إعراب القرآن"، و"ناسخ القرآن" رفض هذا الباب جملة وتفصيلاً، وعبارته في هذا الصدد تقول: "لا يجوز أن يُعرب الشيء على الجوار في كتاب الله، ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان جحرا ضب خربان…ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها".

والقرطبي نقل قول النحاس هذا من غير تعقيب عليه، ما يعني أنه لا يقول بمذهب (الجر على الجوار)، بل نقل تخطئة ابن عطية لأبي عبيدة القائل في قوله تعالى: {قتال فيه} (البقرة:217) إنه جُرَّ على الجوار، والصواب أنه بدل من {الشهر}، بدل اشتمال.

والرازي سلك المنحى نفسه، واعتبر أنه من غير اللائق حمل كلام الله سبحانه على هذا الباب؛ فعند تفسيره لقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة:6) اعتبر أن من جعل القراءة بالكسر (وأرجلِكم) على أنها من باب العطف على الجوار، أن قوله باطل من وجوه: الأول: أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يُتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله يجب تنزيهه عنه. وثانيها: أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في قوله: جحر ضب خرب، فإن من المعلوم بالضرورة أن (الخرب) لا يكون نعتاً لـ (الضب)، بل لـ (الجِحر)، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها: أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، أما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.

وكلام الرازي يدل دلالة واضحة على أنه لا يعتد بهذا الباب في حمل كلام الله عليه، وإن كان يعترف بأن هذا الباب مجاله الضرورة الشعرية ونحوها.

أما أبو حيان -وهو من أئمة النحو- فموقفه العام في "تفسيره" رفض هذا الباب من النحو؛ فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} (البقرة:105)، وقوله سبحانه: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} (البينة:1) لم يقبل قول أبي إسحاق الشيرازي: إن الأصل في الآيتين هو الرفع، أي: (ولا المشركون)، عطفاً على الذين كفروا، ورد على ما ذهب إليه أبو إسحاق بقوله: "وهذا حديث من قصر في العربية، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح".

كذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {قتال فيه} (البقرة:217)، ذكر أن جمهور القراء قرأ قوله سبحانه: {قتال فيه}، بالكسر على أنه بدل من {الشهر}، بدل اشتمال. في حين أن أبا عبيدة ذهب إلى أن {قتال فيه}، خفض على الجوار، ثم نقل أبو حيان هنا قول ابن عطية: هذا خطأ. ولم يعقب على تخطئة ابن عطية لأبي عبيدة، ما يعني أن أبا حيان يوافق ابن عطية في تخطئة أبي عبيدة، وبالتالي لا يأخذ بمذهب القائلين بـ (الجر على الجوار).

ونظير هذا ما فعله أبو حيان مع الزمخشري الذي ذهب إلى أن {الأيمن} في قوله عز وجل: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن } (طه:80) مجرور على الجوار. قال أبو حيان: "وهذا من الشذوذ والقلة، بحيث ينبغي أن لا تُخَرَّج القراءة عليه، والصحيح أنه نعت لـ {الطور}؛ إما لما فيه من اليُمن، وإما لكونه على يمين من يستقبل الجبل".

ومن هذا القبيل أيضاً رد أبي حيان على ما ذهب إليه أبو الفضل الرازي صاحب كتاب "اللوامح في شواذ القراءات" من أن {مستقر} في قوله عز وجل: {كل أمر مستقر} (القمر:3) مرفوع في الأصل، لكنه جُرَّ للمجاورة. فقد عقب أبو حيان على هذا بقوله: "وهذا ليس بجيد؛ لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ"، فقوله هذا دال على موقفه من القول بـ (الجر على الجوار).

بيد أن أبا حيان لم يكن مطرداً في موقفه من باب (الجر على الجوار)، بل وجدنا في تضاعيف "تفسيره" كلاماً، يُفهم منه القول بـ (الجر على الجوار)؛ ومن الأمثلة على ذلك ما جاء عند تفسيره لقوله سبحانه: {أن الله بريء من المشركين ورسوله} (التوبة:1)، فقد ذكر أبو حيان أن قوله سبحانه: {ورسوله} خُرِّج على العطف على الجوار. فذكر هذا التخريج من غير تعقيب عليه دال على القول بهذا الباب.

وفعل الشي نفسه عنه تفسيره لقوله عز وجل: {كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} (إبراهيم:18)، فقد نقل عن بعضهم قوله: إن {عاصف} من صفة الريح، إلا أنه لما جاء بعد (اليوم) أتبع إعرابه، أي: جُرَّ على الجوار. ذكر أبو حيان هذا القول من غير تعقيب، وليس يخفى ما في هذا من دلالة.

والزركشي في "برهانه" كان من المنكرين لهذا المذهب، فقد ذكر في أثناء بيانه للأمور التي يجب أن يراعيها الناظر في كتاب الله، أن عليه تجنب الأعاريب المحمولة على اللغات الشاذة؛ فإن القرآن نزل بالأفصح من لغة قريش. ونقل في هذا السياق قول الزمخشري في "كشافه" القديم: "إن القرآن لا يُعمل فيه إلا على ما هو فاش دائر على ألسنة فصحاء العرب دون الشاذ النادر، الذي لا يُعثر عليه إلا في موضع أو موضعين". ومثَّل الزركشي لهذا الشذوذ بغلط بعض الفقهاء والمعربين حين جعلوا من العطف على الجوار، قوله تعالى: {وأرجلكم} في قراءة الجر، فقال: "إنما ذلك ضرورة، فلا يُحمل عليه الفصيح"، أي: لا يحمل عليه كتاب الله تعالى.

وتبع السيوطيُّ الزركشيَّ في هذا الموقف، معتبراً أن من قال في {وأرجلكم}: إنه مجرور على الجوار، أن قوله هذا لا يعول عليه؛ لأن الجر على الجوار في نفسه ضعيف شاذ، لم يرد منه إلا أحرف يسيرة، والصواب أنه معطوف على {برؤوسكم}.

على أننا لا نعدم من المفسرين من اعتد بهذا الباب النحوي مطلقاً، والظاهر أنهم كانوا في هذا تبعاً للنحاة؛ فالبيضاوي مثلاً بعد أن ذكر أن أكثر القراء قرؤوا قوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} بفتح اللام، ذكر أن بعضهم قرأه بالجر على الجوار، وعقب على ذلك بقوله: "ونظيره كثير في القرآن والشعر…وللنحاة باب في ذلك"، وصنيع البيضاوي هذا يومئ إلى أنه من القائلين بهذا الباب من النحو، خاصة بعد أن ذكر في تعقيبه أن هذا الباب له أمثلة كثيرة في القرآن والشعر.

واقتفى أثر البيضاوي أبو السعود في "تفسيره"، بل نقل كلام البيضاوي نفسه تقريباً، ودلالة هذا المسلك غير خافية.

أمثلة من القرآن

تقدمت معنا طائفة من الأمثلة القرآنية التي حُملت على أنها من باب (الجر على الجوار)، ونزيد عليها طائفة أخرى؛ توضيحاً للمراد، وتبياناً لما قُرئ من القرآن بـ (الجر) على أنه من (باب الجر على الجوار).

قوله تعالى: {وحور عين} (الواقعة:22)، قرئ بالرفع، والنصب، والجر، وممن قرأ بالجر السلمي، والأعمش، والكسائي: قال الفراء: "الجر على الإتباع في اللفظ، وإن اختلفا في المعنى؛ لأن الحور لا يطاف بهن"، فالعطف بالجر هنا عطف على قوله سبحانه: {بأكواب وأباريق وكأس من معين} (الواقعة:18)، أي: يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا، وحور عين. وقال الزمخشري: العطف على {في جنات} (الواقعة:12)، كأنه قيل: المقربون في جنات، وفاكهة، ولحم طير، وحور. وقد عقب أبو حيان على قراءة الجر بقوله: "وهذا فيه بُعْدٌ، وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي".

قوله سبحانه: {النار ذات الوقود} (البروج:5)، قُرئ {النار} بالكسر، وقيل في إعرابه أقوال، منها: أنها خفض على الجوار، نقله مكي عن الكوفيين، وهذا يقتضي أن {النار} كانت مستحقة لغير الجر، فعُدِل عنه إلى الجر للجوار.

قوله جل وعلا على لسان نوح عليه السلام: {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} (هود:18)، فقد ذهب بعضهم إلى إعراب {أليم} على أنه جر على الجوار؛ لأنه في المعنى صفة لـ (العذاب)، والأصل: عذاب يوم أليماً.

ونحو هذا قوله عز وجل على لسان شعيب عليه السلام: {واني اخاف عليكم عذاب يوم محيط} (هود:84) زعم قوم أنه جُرَّ على الجوار؛ لأنه في المعنى صفة لـ (العذاب)، والأصل: عذاب يوم محيطاً.

قوله عز وجل: {اشتدت به الريح في يوم عاصف} (إبراهيم:18)، قرئ {عاصف} بالجر، وقيل في إعرابه أقوال، منها: أنه خفض على الجوار، أي: كان الأصل أن يتبع (العاصف) {الريح} في الإعراب، فيقال: اشتدت به الريح العاصف في يوم؛ لأن (عاصفاً) من صفة {الريح}، إلا أنه لما جاء بعد (اليوم) أُعرب بإعرابه.

قوله عز وجل: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات:58)، قرأ بعضهم {المتين} بالجر على أنه صفة لـ {ذو} وخفض على الجوار. وقراءة الرفع على أنه صفة لـ {ذو}.

هذه طائفة من الأمثلة القرآنية التي ذهب فيها بعض المفسرين وأهل اللغة إلى أنها من باب الجر على الجوار، وإن كان القول الصواب فيها غير هذا.

ومحصل القول في باب (الجر على الجوار)، أن عموم النحاة احتفلوا بهذا الباب من أبواب النحو، وحملوا عليه جملة من كلام العرب وأشعارهم، بل وحملوا عليه أيضاً جملة من الألفاظ القرآنية. في حين أن عموم المفسرين لم يلقوا بالاً لهذا الباب، واعتبروا أنه باب من أبواب الضرورة النحوية، ومن ثم فمن غير اللائق حمل كلام الله على ما كان هذا شأنه.

    جزاكي الله خيرا

    جزانا واياكي حبيبتي منورة
    الونشريس

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.