ولد السلطان عبد الحميد الثاني يوم الأربعاء 22 سبتمبر 1842م. توفيت والدته متأثرة بمرض السلّ وهو في الثامنة من عمره، فاحتضنته الزوجة الثانية لوالده التي كان معروفاً عنها أنّها شديدة التديُّن، وأسبغت عليه كل حنانها وعطفها، وقد بادلها عبد الحميد هذا الحب، فكان يقول عنها: "لو كانت والدتي حيَّة لما استطاعت أن ترعاني أكثر من رعايتها"، وعندما توفيت أوصت بجميع ثروتها لابنها الذي أحبَّته.
قضى السلطان شبابه يطلب العلم على عكس ما صوّره أعداؤه بأنه كان شخصاً جاهلاً لا يعرف القراءة والكتابة إلا بصعوبة؛ فهو قد درس اللغة التركية والفارسية والعربية والفرنسية، وكان يقول الشعر، ومحبَّاً للمطالعة.. كما عُرف بتقواه وتمسُّكه بدينه، وتقول عنه ابنته عائشة: "كان والدي يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، ويقرأ القرآن الكريم، وكان كثير الارتياد للجوامع، لا سيما في شهر رمضان".
اعتلى عبد الحميد الثاني عرش الدولة يوم الخميس 31 أغسطس 1876م وهي مثقلة بالديون والأعباء والمشاكل الداخلية والخارجية؛ ففي الداخل نشطت الأفكار القومية العصبية، والأحزاب العلمانية ذات الأفكار الهدّامة، والمحافل الماسونية، وظهرت حركات تركيا الفتاة، والشبيبة العثمانية، والاتحاد والترقي؛ وكلها حركات تدعو للتغريب وهدم الخلافة الإسلامية.. وفي الخارج ظهرت التهديدات الروسية بقوة في صورة حربين متتاليتين، والاحتلال الإنجليزي لمصر والسودان وقبرص، والاحتلال الفرنسي للجزائر وتونس، يضاف إلى ذلك الثورات العاتية في البلقان، خاصة في بلغاريا والصرب والجبل الأسود، بتحريض علني وسافر من الروس.
في هذا الجو المكفهر، حكم السلطان عبد الحميد الثاني لأكثر من 30 سنة، استطاع خلالها أن يواجه أعداداً لا تحصى من الأعداء بالداخل والخارج، واستطاع أن يحفظ الدولة من الانهيار بعد الحرب مع روسيا، وقمع تمرد كريت، وانتصر على اليونان، ودرّب الجيش على أساليب القتال الحديثة، وواجه موجات التغريب وأفكار العلمانية بالدعوة لإنشاء الجامعة الإسلامية ليعيد مفهوم الخلافة الإسلامية، فيجتمع المسلمون تحت لوائها، وفتح المدارس المتنوعة، والجامعات بكلياتها المختلفة، وتوسع في العمران، وأنشأ الخط الحديدي الحجازي من دمشق إلى المدينة المنورة وكان طوله 1327كم.
أما بالنسبة لموقفه تجاه فلسطين، فلقد حاول الصهاينة منذ بَدء هذه الحركة الاتصال بالسلطان عبد الحميد لإقناعه بفتح الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والسماح لهم بإقامة مستوطنات للإقامة فيها، وقد قام هرتزل باتصالاته تلك برعاية من الدول الاستعمارية الأوروبية، وكان هرتزل يعلم مدى الضائقة المالية التي تمرُّ بها الدولة العثمانية؛ لذلك حاول إغراء السلطان بحل مشاكل السلطنة المالية مقابل تنفيذ مطالب اليهود، لكنَّ السلطان ما وهن وما ضعف وما استكان أمام الإغراء حيناً، والوعد والوعيد حيناً آخر، حتى أدرك اليهود في النهاية أنه ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة، فإنَّ حلمهم بإنشاء وطن قومي لهم سيظل بعيد المنال.. وجاء في رسالة السلطان عبد الحميد ردَّاً على محاولات هرتزل: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حيّ فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
بعد هذا لم يكن أمام القوى المعادية للإسلام داخلياً وخارجياً إلا الإطاحة بحكم الرجل القوي عبد الحميد الثاني، الذي كان بمنزلة عقبة كؤود في سبيل تمكين اليهود من اغتصاب فلسطين.
بدأت خطوات الإطاحة بتدبير مظاهرات صاخبة في عدة مدن مثل «سلانيك» و«مناستر»؛ للضغط على عبد الحميد من أجل إعادة الدستور، فالتف عبد الحميد على هذه الضغوط وأعلن عودة البرلمان والدستور وسكت عن اعتداءات رجال الاتحاد والترقي على رجاله المقربين وأتباعه.. لم تكن هذه الخطوة كافية للإطاحة برجل في وزن عبد الحميد له مكانة وجلاله في قلوب العثمانيين، فتم تدبير حادثة 31 مارس سنة 1909 في إسطنبول، وهي الحادثة التي قتل فيها بعض عسكر جمعية الاتحاد والترقي بإسطنبول، وحدثت فوضى عارمة في العاصمة بتخطيط يهودي صرف، وعلى أثره دخل عسكر الاتحاد والترقي من سلانيك إلى إسطنبول وارتكبوا مذبحة كبيرة في قصر الخلافة بلا مبرر، وقتلوا إسماعيل حقي وزير الحربية، ووجهوا اتهامات للسلطان عبد الحميد بأنه يريد إحياء الشريعة الإسلامية!
تم تشكيل ما يسمى المجلس الملكي، فاجتمع مع مجلس حركة الاتحاد والترقي وقرروا خلع السلطان عبد الحميد، وذلك بعد استصدار فتوى من شيخ الإسلام محمد ضياء الدين تحت التهديد، وتوجه وفد مكون من الفريق بحري «عارف حكمت»، وآرام الأرمني، وأسعد طوبطاني، وعمانوئيل قره صو اليهودي؛ إلى قصر الخلافة وسلموا رسالة الخلع للسلطان، الذي تقبّل الأمر بهدوء لكن بعزة المسلم وكرامة خليفة المسلمين، وتمّ نفيه إلى (قصر الأتيني) الذي كان يملكه شخص يهودي إمعاناً في إذلاله، حيث عاش معزولاً عن الناس، محاطاً بحراسة مشددة بعد أن جُرّد من كل ثروته، ثم نُفي بعد ذلك إلى (قصر بيلربي)، حيث توفي عن عمر الـ 76 عاماً في (10فبراير 1918م).
وهكذا طويت صفحة الخلافة الأخيرة، وبالإطاحة بالسلطان عبد الحميد سقطت الدولة العثمانية سقوطها الحقيقي، واعتبر اليهود وكل أعداء الإسلام هذا اليوم عيداً لهم، وطبعوا بذلك طوابع بريدية، واستعدوا للانقضاض على فلسطين.
قالوا في السلطان عبد الحميد:
البروفيسور ورئيس جامعة بودابست اليهودي (أرمينيوس وامبري): "إرادة حديدية، عقل سليم.. شخصية وخُلُق وأدب رفيع جداً، يعكس التربية العثمانية الأصيلة، هذا هو السلطان عبد الحميد.. والسلطان متواضع ورزين إلى درجة حيّرتني شخصياً، وهو لا يجعل جليسه يشعر بأنه حاكم وسلطان كما يفعل كل الملوك الأوروبيين في كل مناسبة، يلبس ببساطة ولا يُحبُّ الفخفخة، أفكاره عن الدين والسياسة والتعليم ليست رجعية، ومع ذلك فإنَّه متمسك بدينه غاية التمسُّك، يرعى العلماء ورجال الدين، ولا ينسى بطريرك الروم من عطاءاته الجزيلة".
جمال الدين الأفغاني: "إنّ السلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة".
البطريرك الماروني إلياس الحويك: "لقد عاش لبنان وعاشت طائفتنا المارونية بألف خير وطمأنينة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولا نعرف ماذا تخبئ لنا الأيام بعده".