الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإن من أهم المهمات وأفضل القربات التناصح والتوجيه إلى الخير والتواصي بالحق والصبر عليه ، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عز وجل ، ويباعد من رحمته ، وأسأله عز وجل أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وسائر المسلمين ، وأن يمنحنا الفقه في دينه ، والثبات عليه ، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ، وأن يصلح جميع ولاة أمور المسلمين ، ويوفقهم لكل خير ، ويصلح لهم البطانة ، ويعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد ، ويمنحهم الفقه في الدين ، ويشرح صدورهم لتحكيم شريعته ، والاستقامة عليها إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
إن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوع عظيم ، جدير بالعناية ؛ لأن في تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها ، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير ، واختفاء الفضائل ، وظهور الرذائل.
وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته في الإسلام ، وبيّن سبحانه أن منزلته عظيمة ، حتى إنه سبحانه في بعض الآيات قدمه على الإيمان ، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام ، كما في قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110].
ولا نعلم السر في هذا التقديم ، إلا عظم شأن هذا الواجب ، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة ، ولا سيما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة ؛ لظهور المعاصي ، وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة.
وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه وفي عهد السلف الصالح يعظمون هذا الواجب ، ويقومون به خير قيام ، فالضرورة إليه بعد ذلك أشد وأعظم ، لكثرة الجهل وقلة العلم وغفلة الكثير من الناس عن هذا الواجب العظيم.
وفي عصرنا هذا صار الأمر أشد ، والخطر أعظم ، لانتشار الشرور والفساد ، وكثرة دعاة الباطل ، وقلة دعاة الخير في غالب البلاد كما تقدم.
ومن أجل هذا أمر الله سبحانه وتعالى به ، ورغب فيه ، وقدّمه في آية آل عمران على الإيمان ، وهي قوله سبحانه وتعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110].
يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فهي خير الأمم وأفضلها عند الله ، كما في الحديث الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ).
والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر موجود في الأمم السابقة ، بعث الله به الرسل ، وأنزل به الكتب.
وأصل المعروف توحيد الله، والإخلاص له.
وأصل المنكر الشرك بالله، وعبادة غيره.
وجميع الرسل بعثوا يدعون الناس إلى توحيد الله ، الذي هو أعظم المعروف ، وينهون الناس عن الشرك بالله ، الذي هو أعظم المنكر.
ولما فرط بنوا إسرائيل في ذلك وأضاعوه ، قال الله جل وعلا في حقهم: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [المائدة:78].
ثم فسر هذا العصيان فقال سبحانه: { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة:79].
فجعل هذا من أكبر عصيانهم واعتدائهم ، وجعله التفسير لهذه الآية { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } [المائدة:78-79].
وما ذلك إلا لعظم الخطر في ترك هذا الواجب.
وأثنى الله جل وعلا على أمة منهم في ذلك فقال سبحانه في سورة آل عمران: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } [آل عمران:113-115].
هذه طائفة من أهل الكتاب لم يصبها ما أصاب الذين ضيعوه، فأثنى الله عليهم سبحانه وتعالى في ذلك.
وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل في سورة التوبة قدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما ذلك إلا لعظم شأنه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، ومع ذلك قدمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال سبحانه: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:71].
فقدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة ، مع أن الصلاة عمود الإسلام ، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين ،
فلأي معنى قدم هذا الواجب؟
لا شك أنه قُدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به.
ولأن بتحقيقه تصلح الأمة ، ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل ، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله ، ويأتون كل خير ويذرون كل شر.
وبإضاعته والغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة ، والشرور الكثيرة ، وتفترق الأمة ، وتقسوا القلوب أو تموت ، وتظهر الرذائل وتنتشر، وتختفي الفضائل ويهضم الحق ، ويظهر صوت الباطل ، وهذا أمر واقع في كل مكان وكل دولة وكل بلد وكل قرية لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر، فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات ويسود فيها الفساد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أهل الرحمة:
وبين سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة ، فقال سبحانه وتعالى: { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } [التوبة:71].
فدل ذلك على أن الرحمة ، إنما تنال بطاعة الله واتباع شريعته ، ومن أخص ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تنال الرحمة بالأماني ولا بالأنساب؛ ككونه من قريش أو من بني هاشم أو من بني فلان.
ولا بالوظائف ، ككونه ملكا ، أو رئيس جمهورية ، أو وزيرا أو غير ذلك من الوظائف ، ولا تنال أيضاً بالأموال والتجارات ، ولا بوجود كثرة المصانع ، ولا بغير هذا من شئون الناس.
وإنما تنال الرحمة بطاعة الله ورسوله ، واتباع شريعته.
ومن أعظم ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله في كل شيء ، فهؤلاء هم أهل الرحمة ، وهم الذين في الحقيقة يرجون رحمة الله ، وهم الذين في الحقيقة يخافون الله ويعظمونه ، فما أظلم من أضاع أمره وارتكب نهيه ، وإن زعم أنه يخافه ويرجوه.
وإنما الذي يعظم الله حقا ، ويخافه ويرجوه حقا ، من أقام أمره واتبع شريعته ، وجاهد في سبيله ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
قال سبحانه في سورة البقرة: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ال لَّهِ } [البقرة:218].
فجعلهم سبحانه راجين رحمة الله ، لما آمنوا وجاهدوا وهاجروا لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ، ما قال:
إن الذين بنو القصور.
أو الذين عظمت تجاراتهم.
أو تنوعت أعمالهم.
أو الذين ارتفعت أنسابهم هم الذين يرجون رحمة الله.
بل قال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة:218].
فرجاء الرحمة وخوف العذاب ، يكونان بطاعة الله ورسوله ، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولتكن منكم أمة:
وفي آية أخرى حصر سبحانه الفلاح في الدعاة إلى الخير، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقال عز وجل: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104].
فأبان سبحانه أن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وهي:
الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – هم المفلحون ، والمعنى أنهم هم المفلحون على الكمال والتمام ، وإن كان غيرهم من المؤمنين مفلحا ، إذا تخلى عن بعض هذه الصفات لعذر شرعي ، لكن المفلحون على الكمال والتمام هم هؤلاء الذين دعوا إلى الخير ، وأمروا بالمعروف وبادروا إليه ، ونهوا عن المنكر وابتعدوا عنه.
أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى: كرياء وسمعة ، أو حظ عاجل أو أسباب أخرى ، أو يتخلفون عن فعل المعروف ، ويرتكبون المنكر، فهؤلاء من أخبث الناس ، ومن أسوئهم عاقبة.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه – أي أمعاؤه – فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون مالك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال فيقول لهم بلى ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه!! ).
هذه حال من خالف قوله فعله – نعوذ بالله – تسعر به النار، ويفضح على رؤوس الأشهاد ، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار.
هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى ، وتندلق أقتاب بطنه ، يسحبها ، لماذا؟!
لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه ، وينهى عن المنكر ويأتيه.
فعلم بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله ، والنهي عن المنكر مع تركه.
وهذا هو الواجب على كل مسلم، وهذا الواجب العظيم أوضح الله شأنه في كتابه الكريم، ورغب فيه، وحذر من تركه، ولعن من تركه.
فالواجب على أهل الإسلام أن يعظموه ، وأن يبادروا إليه ، وأن يلتزموا به طاعة لربهم عز وجل ، وامتثالاً لأمره ، وحذراً من عقابه سبحانه وتعالى.
وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا الأمر ، وتبين ذلك أعظم بيان وتشرحه ، فيقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [خرجه الإمام مسلم في صحيحه].
فبين صلى الله علية وسلم مراتب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الثلاث:
المرتبة الأولى:
الإنكار باليد مع القدرة ، وذلك بإراقة أواني الخمر، وكسر آلات اللهو، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده إن استطاع ذلك كالسلطان ونحوه من أهل القدرة ، وكإلزام الناس بالصلاة ، وبحكم الله الواجب اتباعه ممن يقدر على ذلك، إلى غير هذا مما أوجب الله.
وهكذا المؤمن مع أهله وولده ، يلزمهم بأمر الله ويمنعهم مما حرم الله باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام.
وهكذا من له ولاية من أمر أو محتسب ، أو شيخ قبيلة أو غيرهم ممن له ولاية من جهة ولي الأمر، أو من جهة جماعته ، حيث ولوه عليهم ، عند فقد الولاية العامة يقوم بهذا الواجب حسب طاقته ، فإن عجز انتقل إلى:
المرتبة الثانية:
وهي اللسان ، يأمرهم باللسان وينهاهم كأن يقول: يا قوم اتقوا الله ، يا إخواني اتقوا الله ، صلوا وأدوا الزكاة ، اتركوا هذا المنكر، افعلوا كذا ، دعوا ما حرم الله ، بروا والديكم ، صلوا أرحامكم ، إلى غير هذا ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر باللسان ، ويعظهم ويذكرهم ، ويتحرى الأشياء التي يفعلونها ، حتى ينبههم عليها.
ويعاملهم بالأسلوب الحسن ، مع الرفق ، يقول عليه الصلاة والسلام: ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: { إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه } [خرجه الإمام مسلم في صحيحه].
وجاء جماعة من اليهود ، فدخلوا عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( السام عليك يا محمد ) ، يعنون الموت ، وليس مرادهم السلام.
فسمعتهم عائشة رضي الله عنها ، فقالت: ( عليكم السام واللعنة ) ، في لفظ آخر: ( ولعنكم الله ، وغضب عليكم ) ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( مهلاً يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ) قالت: ( ألم تسمع ما قالوا؟ ) قال: ( ألم تسمعي ما قلت لهم؟ قلت لهم وعليكم فإنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا ).
هذا وهم يهود رفق بهم عليه الصلاة والسلام ، لعلهم يهتدون ، ولعلهم ينقادون للحق ، ولعلهم يستجيبون لداعي الإيمان.
فهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق ، يتحرى الرفق والعبارات المناسبة ، والألفاظ الطيبة عندما يمر على من قصر في ذلك ، في المجلس أو في الطريق أو في أي مكان يدعوهم بالرفق والكلام الطيب ، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم ، أو كابروا فيه يجادلهم بالتي هي أحسن ، كما قال سبحانه: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل:125].
وقال سبحانه: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت:46].
من هم أهل الكتاب؟ … هم اليهود والنصارى ، وهم كفار، ومع ذلك يقول الله عنهم: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } [العنكبوت:46].
والمعنى أن من ظلم منهم وتعدى وأساء الكلام فإنه ينتقل معه إلى علاج آخر غير الجدال بالتي هي أحسن ، كما قال تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى:40].
وقال سبحانه: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة:194].
لكن ما دام المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق ، فإنه يكون بالتي هي أحسن لأن هذا أقرب إلى الخير، قال سفيان الثوري رحمه الله: ( ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقا فيما يأمر به ، رفيقاً فيما ينهى عنه ، عدلا فيما يأمر به ، عدلاً فيما ينهي عنه ، عالماً بما يأمر به ، عالماً بما ينهى عنه ).
وهذا معنى كلام السلف رحمهم الله ، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة ، لا يأمر ولا ينهى إلا عن علم ، لا عن جهل.
ويكون مع ذلك رفيقاً عاملاً بما يدعوه إليه تاركاً ما ينهى عنه ، حتى يقتدى به.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )[خرجه الإمام مسلم في صحيحه].
وهذا الحديث مثل حديث أبي سعيد السابق المتضمن الإنكار باليد ، ثم اللسان ثم القلب.
فالخلوف التي تخلف بعد الأنبياء هذا حكمهم في أممهم ، فيؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعلمون أحكام الله ، ويجاهدون في ذلك باليد ثم اللسان ثم القلب.
وهكذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يجب على علمائهم وأمرائهم وأعيانهم وفقهائهم أن يتعهدوهم بالدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل ، وإرشاد الضال ، وإقامة الحدود والتعزيرات الشرعية ، حتى يستقيم الناس ، ويلزموا الحق ، ويقيموا عليهم الحدود الشرعية ، ويمنعوهم من ارتكاب ما حرم الله حتى لا يتعدى بعضهم على بعض ، أو ينتهكوا محارم الله.
وقد ثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، الخليفة الراشد أنه قال: ( إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ) ويروى عن عمر رضى الله عنه أيضاً.
وهذا صحيح ، كثير من الناس لو جئته بكل آية ، لم يمتثل ، لكن إذا جاءه وازع السلطان بالضرب والسجن ونحو ذلك أذعن ، وترك باطلة .. لماذا؟!
لأن قلبه مريض ، ولأنه ضعيف الإيمان أو معدوم الإيمان .. فلهذا لا يتأثر بالآيات والأحاديث .. لكن إذا خاف من السلطان ارتدع ووقف عند حده ، ووازع السلطان له شأن عظيم.
ولهذا شرع الله لعباده القصاص والحدود والتعزيرات لأنها تردع عن الباطل ، وأنواع الظلم ، ولأن الله يقيم بها الحق ، فوجب على ولاة الأمور أن يقيموها ، وأن يعينوا من يقيمها ، وأن يلاحظوا الناس ، ويلزموهم بالحق ، ويوقفوهم عند حدهم حتى لا يهلكوا ، وينقادوا مع تيار الباطل ، ويكونوا عوناً للشيطان وجنده علينا.
المرتبة الثالثة:
إذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان انتهي إلى القلب ، يكره المنكر بقلبه ، ويبغضه ولا يكون جليساً لأهله.
وروي عن عبدالله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال له بعض الناس:
( هلكت أن لم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر .. فقال له رضي الله عنه: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر ).
رد الدعاء وعدم النصر:
ومما يتعلق بموضوعنا: موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما ورد في الحديث أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( يقول الله عز وجل: مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم ).
وفي لفظ آخر من حديث حذيفة يقول عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ) [رواه الإمام أحمد].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المهمات العظيمة كما سبق ، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: ( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم على لسان أنبيائهم داود وعيسى بن مريم ) { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة:61].
وفي لفظ آخر: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم ).
فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن إهمال هذا الواجب وعدم العناية به – أعني واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – من أسباب رد الدعاء وعدم النصر كما تقدم.
ولا شك أن هذه مصيبة عظيمة ، من عقوبات ترك هذا الواجب أن يخذل المسلمون وأن يتفرقوا وأن يسلط عليهم أعداؤهم ، وأن لا يستجاب دعاؤهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس ، إذا رأى المنكر، وليس عنده من يزيله غيره ، فإنه يجب عليه أن يزيله مع القدرة ، لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [خرجه مسلم في الصحيح].
أما إن كانوا جماعة فإنه يكون في حقهم فرض كفاية في البلد أو القرية أو القبيلة ، فمن أزاله منهم حصل به المقصود وفاز بالأجر .. وإن تركوه جميعا أثموا كسائر فروض الكفايات.
وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحد وجب عليه عينا أن يعلم الناس ، ويدعوهم إلى الله ، ويأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر حسب طاقته ، لما تقدم من الأحاديث ، ولقوله سبحانه وتعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن:16].
الصبر والإحتساب:
ومن وفقه الله للصبر والاحتساب من العلماء والدعاة ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والإخلاص لله ، نجح ووفق وهدى ونفع الله به كما قال سبحانه وتعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:2-3].
وقال تبارك وتعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق:4].
وقال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد:7].
وقال تعالى: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر].
فالرابحون الناجون في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة التقوى ، ولكن الله سبحانه خصها بالذكر لمزيد من الإيضاح والترغيب.
والمقصود أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله وصبر على ذلك فهو من أهل هذه الصفات العظيمة ، الفائزين بالربح الكامل والسعادة الأبدية ، إذا مات على ذلك.
ومما يؤكد الالتزام بهذه الصفات العظيمة قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [المائدة:2].
فلابد يا أخي أن تعرف المعروف بالتعلم والتفقه في الدين ، ولابد أن تعرف المنكر بذلك ، ثم تقوم بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالتبصر والتفقه في الدين من علامات السعادة ودلائل أن الله أراد بالعبد خيراً ، كما في الصحيحين عن معاوية رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).
فإذا رأيت الرجل يتبع حلقات العلم ، ويسأل عن العلم ، ويتفقه ويتبصر فيه ، فذلك من علامات أن الله أراد به خيراً فليلزم ذلك ، وليجتهد ولا يمل ولا يضعف ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) [رواه الإمام مسلم في صحيحه].
فطلب العلم له شأن عظيم ، ومن الجهاد في سبيل الله ، ومن أسباب النجاة ومن الدلائل على الخير ، ويكون بحضور حلقات العلم ، ويكون بمراجعة الكتب المفيدة ، إذا كان ممن يفهمها ، ويكون بسماع الخطب والمواعظ ، ويكون بسؤال أهل العلم .. كل ذلك من الطرق المفيدة.
ويكون أيضاً بحفظ القرآن الكريم ، وهو الأصل في العلم ، فالقرآن رأس كل علم ، وهو الأساس العظيم ، وهو حبل الله المتين ، وهو أعظم كتاب وأشرف كتاب ، وهو أعظم قائد إلى الخير ، وأعظم ناه عن الشر.
فوصيتي لكل مؤمن ولكل مؤمنة العناية بالقرآن والإكثار من تلاوته والحرص على حفظه أو ما تيسر منه ، مع التدبر والتعقل ، ففيه الهدى والنور، كما قال سبحانه: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء:9].
وقال عز من قائل: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ص:29].
ويقول تبارك وتعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد:24].
فعلينا أن نعني بكتاب الله ، تلاوة وحفظا ، وتدبرا وتفقها ، وعملا وسؤالا عما أشكل.
وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي الوحي الثاني ، وهي الأصل الثاني ، وهي المفسرة لكتاب الله ، والدالة عليه.
فعلى طالب العلم ، وعلى كل مسلم أن يعني بذلك حسب طاقته ، وحسب علمه بالحفظ والمراجعة ، كحفظ الأربعين النووية وتكملتها لابن رجب خمسين حديثا ، وهي من أجمع الأحاديث وأنفعها ، وهي من جوامع الكلم ، فينبغي حفظها للرجل والمرأة.
ومثل ذلك "عمدة الحديث" للحافظ عبد الغني المقدسي ، كتاب عظيم جمع أربعمائة حديث وزيادة يسيرة من أصح الأحاديث في أبواب العلم .. فإذا تيسر حفظها فذلك من نعم الله العظيمة.
وهكذا "بلوغ المرام" للحافظ ابن حجر، كتاب عظيم مختصر، ومفيد محرر، فإذا تيسر لطالب العلم حفظه فذلك خير عظيم.
ومما يتعلق بكتب العقيدة: كتابان جليلان للشيخ الإمام محمد عبد الوهاب رحمه الله هما: "كتاب التوحيد"، وكتاب "كشف الشبهات".
ومن كتب العقيدة المهمة كتاب "العقيدة الواسطية" لشيخ الإسلام ابن تيمية فهو كتاب جليل مختصر عظيم الفائدة في مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة.
وكتاب "الإيمان" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كتاب عظيم ، جمع فيه جملة من الأحاديث المتعلقة بالإيمان ، فينبغي لطالب العلم وطالبة العلم أن يحفظا ما تيسر من هذه الكتب المفيدة وأشباهها ، مع العناية بالقرآن الكريم والإكثار من تلاوته وحفظه ، أو ما تيسر منه كما تقدم ، ومع العناية بالمذاكرة مع الزملاء وسؤال المدرسين والعلماء الذين يعتقد فيهم الخير والعلم عما أشكل عليه ، ويسأل ربه التوفيق والإعانة ، ولا يضعف ولا يكسل ويحفظ وقته ويجعله أجزاء:
جزء من يومه وليلته لتلاوة القرآن الكريم وتدبره.
وجزء لطلب العلم والتفقه في الدين وحفظ المتون ومراجعة ما أشكل عليه.
وجزء لحاجته مع أهله.
وجزء لصلاته وعبادته، وأنواع الذكر والدعاء.
ومما يفيد طالب العلم وطالبة العلم فائدة عظيمة الاستماع لبرنامج نور على الدرب ، فهو برنامج مفيد لطالب العلم وعامة المسلمين وغيرهم ، لأن فيه أسئلة وأجوبة مهمة لجماعة من المشايخ المعروفين بالخير والعلم ، فينبغي العناية بهذا البرنامج ، واستماع ما فيه من فائدة ، وهو يذاع مرتين في كل ليلة ، بين المغرب والعشاء من نداء الإسلام ، والساعة التاسعة والنصف من إذاعة القرآن الكريم.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع ، والعمل الصالح ، وأن يمنحنا الفقه في دينه ، والثبات عليه ، وأن يرزقنا جميعا القيام بهذا الواجب حسب الطاقة والإمكان ، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين للقيام بهذا الواجب والصبر عليه ، وأن يوفق من أسند إليه هذا الواجب أن يقوم به على خير ما يرام وأن يعين الجميع على أداء حقه والنصح له ، ولعباده إنه تعالى جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هو سبب صلاح المجتمع كما أنه هو سفينة النجاة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن من أهم الواجبات الإسلامية التي يترتب عليها صلاح المجتمع وسلامته ونجاته في الدنيا والآخرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك هو سفينة النجاة ، كما ثبت في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا من نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )[صحيح البخارى].
فتأمل أيها المسلم هذا المثل العظيم من سيد ولد آدم ورسول رب العالمين ، وأعلم الخلق بأحوال المجتمع وأسباب صلاحه وفساده ، تجده واضح الدلالة على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه سبيل النجاة وطريق صلاح المجتمع ، ويتضح من ذلك أيضاً أنه واجب على المسلمين وفرض عليهم القيام به ، لأنه هو الوسيلة إلى سلامتهم من أسباب الهلاك ، وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم بسبب صفاتها الحميدة التي من أهمها قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال عز وجل: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110].
وتأمل أيها المسلم الذي يهمه دينه وصلاح مجتمعه كيف بدأ الله سبحانه في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان ، مع كون الإيمان شرطا لصحة جميع العبادات يتبين لك عظم شأن هذا الواجب ، وأنه سبحانه إنما قدم ذكره لما يترتب عليه من الصلاح العام.
وقال عز وجل: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[التوبة:71].
فانظر يا أخي كيف بدأ في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الصلاة والزكاة ، وما ذاك إلا لما تقدم بيانه من عظم شأنه وعموم منفعته وتأثيره في المجتمع ، وتدل الآية أيضاً على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أخلاق المؤمنين والمؤمنات وصفاتهم الواجبة التي لا يجوز لهم التخلي عنها أو التساهل بها ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذم الله سبحانه من ترك هذا الواجب من كفار بني إسرائيل ولعنهم على ذلك فقال سبحانه في كتابه المبين من سورة المائدة: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }[المائدة:78و79].
وفي هذه الآية إرشاد من الله سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن سبب لعن كفار بني إسرائيل وذمهم هو عصيانهم واعتداؤهم ، وأن من ذلك عدم تناهيهم عن المنكر فيما بينهم لتحذر هذه الأمة سبيلهم الوخيم ، ويبتعدوا عن هذا الخلق الذميم ، ويتضح من ذلك أن هذه الأمة متى تخلقت بأخلاق كفار بني إسرائيل المذمومة استحقت ما استحقه أولئك من الذم واللعن ، لأنه لا صلة بين العباد وبين ربهم إلا صلة العبادة والطاعة ، فمن استقام على عبادة الله وحده وامتثال أوامره وترك نواهيه استحق من الله الكرامة فضلاً منه وإحساناً ، وفاز بالثناء الحسن والعاقبة الحميدة ، ومن حاد عن سبيل الحق استحق الذم واللعن ، وباء بالخيبة والخسران ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) [خرجه مسلم في الصحيح].
وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) [خرجه مسلم في الصحيح].
فاتق الله أيها المسلم في نفسك وجاهدها لله ، واستقم على أمره ، وجاهد من تحت يديك من الأهل والذرية وغيرهم ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر حسب طاقتك في كل مكان وزمان عملا بهذه الأدلة الشرعية التي ذكرتها لك آنفاً ، وتخلق بأخلاق المؤمنين واحذر من أخلاق الكافرين والمجرمين ، واحرص جهدك على نجاتك ونجاة أهلك وإخوانك المسلمين ، كما قال عز وجل: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا }[طه:132].
وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم:6].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ( يا أيها الناس: إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتسألوني فلا أعطيكم ، وتستنصروني فلا أنصركم ) [أخرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه وهذا لفظ ابن حبان].
والمعروف: هو كل ما أمر الله به ورسوله.
والمنكر: هو كل ما نهى الله عنه ورسوله.
فيدخل في المعروف جميع الطاعات القولية والفعلية ، ويدخل في المنكر جميع المعاصي القولية والفعلية.
ثم اعلم – يا أخي – أن كل مسلم راع على من تحت يده ومسئول عن رعيته كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته ) [خرجه مسلم في الصحيح].
فاتق الله يا عبد الله وأعد جواباً لهذا السؤال قبل أن ينزل بك من أمر الله ما لا قبل لك به ، والله المسئول أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم ، وأن يوفقنا وسائر المسلمين للقيام بأمره والثبات على دينه ، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر ، والتواصي بالحق والصبر عليه بصدق وإخلاص ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
مع أن النبي – صلى الله عليه وسلم ـ كان يلقى معارضة وضجرا من البعض.
إلا أن الغالب هم الذين يقبلون منه نصحه ويتحولون من المنكر إلى المعروف ومن الخطأ إلى الصواب.
ولو تأملت الألفاظ المستخدمة والطريقة المتبعة والسلوك المطروق في أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم لعرفت سر القبول والتغير في حياة الناس والتخلي عن موروث وعادات وتقاليد تأصلت في نفوس الناس تخلوا عنها وقبلوا بالحق عن طيب نفس.
ولعل السر في ذلك هي الصفات العظيمة التي كان يتحلى بها النبي صلى الله عليه وسلم في سلوكه مع الناس وهي التي يجب أن يلحظها ويتحلى بها الدعاة والعلماء في أمرهم ونهيهم ودعوتهم.
ومن أهم هذه الصفات كما هو مستفاد من السيرة النبوية بإجمال العلم بما يأمر وينهى وحسن الرأي والدراية والتلطف مع الناس والابتعاد عن التجريح أو التشهير أو الإحراج أو الخشونة إلى غيرها مما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.
تفصيل هذه الصفات
أولاً : العلــــــــــم :
فلا بد في الآمر والناهي أو من يقول بعمل أو وظيفة الحسبة من أن يكون عالما بما يأمر وينهى حتى لا ينهى الناس عما أحل الله أو يحرف على الناس أمرا مباحا أو يسكت عن أمر محرم لذلك كانت أول شروط المحتسب العلم.
وليست لفظ العلم مقتصرة على العلم بما يأمر وينهى وإنما يشمل مفهوم العلم ، العلم بطرق الدعوة وأساليب مخاطبة الجمهور فليس أفهام الناس ومزجتهم على حد سواء لذا وضع الله لنا القاعدة الأساسية والتي يكون منها المنطلق فقال سبحانه وتعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[النحل:125].
فمن الناس من تكون الحكمة والمنطق السوي كاف في إقناعه وردعه عما هو فيه ، ومن الناس من ينكسر قلبه ويؤنبه ضميره ويعترف بخطئه بالموعظة الحسنة ، ومن الناس من لا يصلحه ولا يقوم مزاجه إلا الجدال غير أن المؤمن يجادل بالتي هي أحسن لأنه غير مطالب بإقناعهم بقدر ما هو مطالب ببذل السبب وتبليغ الخير لهم ، ولما كان للعلم منزلة عظيمة ومكانة بالغة في حياة المحتسب والداعية رغب الله فيه لهم وحثهم عليه بل ألزمهم بطلبه وذلك مأخوذ من قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }[التوبة:122].
يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية : كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر ديهم ويتفقهون فيب دينهم ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا أقدمنا عليهم .
قال : فيأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بطاعة الله وطاعة رسوله ويبعثهم إلى قوهم بالصلاة والزكاة وكانوا إذا أتوا قومهم .. يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة [تفسير بن كثير] .
ثانياً : العمل بما يعلم :
والشرط الثاني لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو من يقوم بوظيفة الحسبة أن يكون عاملا بما يعلم مطبقا لما يقول ، تصدق أفعاله أقواله.
وقد عاب الله على من اتصف بالضد أو النقيض فقال تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[البقرة:44].
كما ذم سبحانه وتعالى مَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وخالف فعله قوله فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصف:2و3] ، والسنة مليئة في ذم من يتصف بهذه الصفة.
فعن أسامة بن زيد قال سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان مالك : ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ) [رواه الإمام أحمد].
ويا له من وصف عجيب لحال صاحب هذه الصفة الذميمة فدورانه في النار يدل على استمراره على فعل المعصية وإصراره عليها في الدنيا كالحمار الذي يدور وخروج أمعائه واندلاقها في النار دليل على أن الله سيظهر منه ما كان خافيا في الدنيا وما كان مستترا من قبائح الذنوب والأفعال ، واجتماع أهل النار عليه فيه الفضيحة له كما غش الناس في الدنيا ففضحه الله في الآخرة فلا يكتمل حسن أداء المحتسب إلا بتطبيق ما يقول وفعل ما يأمر به وقد قال أبو الدرداء : ويل لمن لا يعلم ـ قالها مرة ـ وويل لمن يعلم ولا يعمل ـ قلها سبع مرات [احياء علوم الدين].
وقال مالك بن دينار : إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلب كما يزل القطر عن الصفا [احياء علوم الدين].
يقول الإمام الغزالي رحمه الله : إن هداية الغير فرع للاهتداء ، وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة والإصلاح زكاة عن نصب الصلاح ، فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج [احياء علوم الدين].
وما أجمل ما قال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله المتوفى سنة 65 هـ في العيب والتوبيخ على من يأمر وينهى وينسى نفيه كالطبيب المعالج من الأسقام وهو سقيم :
يا أيهـــــــــا الرجل المعلــــم غيـــــره هلا لنفسك كان ذا التعليــــم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيــــم
وتراك تصـلـــــــــح بالرشـاد عقولنـــا أبدا وأنت من الرشاد عديــــم
أبدأ بنفســـك فانهـهــــا عـن غيــهـا فإذا انتهت عنه فأنت حكيــــم
فهناك يُسمـــع ما تقول ويــــهتـــدى بالقول منك فينفع التعليـــــم
لا تنـــه عن خــلق وتـأتــي مثلـــــه عار عليك إذا فعلت عظيــــم
ثالثا : الإخـــــــــلاص :
فلا بد للآمر والناهي والموجه والمربي وكل من يرجو قبول عمله الإخلاص مع الله فيما يقول ويفعل لأن الله لا يتقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم قال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة:27].
أي إنما يقبل الله من المخلصين في أعمالهم.
وفي كتاب هداية المرشدين لشيخ علي محفوظ رحمه الله : فينبغي للداعي أن يتحلى بالآداب الشرعية ، والإخلاص في الدعوة إلى الله تعالى حتى يكون وارثا نبويا ، وعالما ربانيا ، وأن يعلم أنه لا يجتمع الإخلاص في القلب ، ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار ، والضب والحوت فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة ، فإذا تم لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.
فعلى المحتسب أن يربي نفسه على الإخلاص في أفعاله وأقواله قاصدا منها وجه الله وليس مدحا ولا ثناء ولا جاها ولا منصبا لعل قراءتك لهذا الحديث تكون رادعا لك من أن يساورك شيء مما يخدش إخلاصك من العجب والرياء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمة الله فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال فلان جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ . فقد قيل . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال ، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها . قال فما عملت فيها قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك . قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ) [خرجه الإمام مسلم في صحيحه].
فلأن عقاب وعذاب العالم والموجه والمحتسب والمعلم أكبر من غيره إذا فقد الإخلاص صار الإخلاص شرطا لا بد منه لمن تصدى لهذه الأعمال الجليلة ولا تنفع كثرة الأعمال إن لم تكن خالصة لوجه الله عز وجل من أمر ونهي وتوجيه وإرشاد .
فما لم يكن المقصود منه وجه الله ثم إصلاح البشر فإن ربي عز وجل يجعلها يوم القيامة هباء منثورا والله يقول : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }[الكهف:110].
يقول سليمان الداراني : طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.
وكتب عمر بالخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس.
وقال أيوب السختياني : تخليص النيات على العباد أشد عليهم من جميع الأعمال.
غير أن هناك قضية مهمة لا بد من إيضاحها إلا وهي ليس شرطا من إخلاصك أن تجد القبول من الناس ، أي بمعنى عدم قبول الناس لقولك ليس طعنا في إخلاصك.
فليس أحد أشد إخلاصا من أنبيء الله دعواتهم مع أقوامهم ومع ذلك فيقدم النبي يوم القيامة ومعه الواحد والنبي ومعه الثلاثة والنبي ومعه الجماعة والنبي وليس معه أحد ولزيادة الإيضاح نذكر ما ذكره الله عن أصحاب القرية في سورة يس إذ أرسل الله لهم اثنين فكذبوهما فعزز الله دعوتهم برسول ثالث فكذبوهم وثلاثة رسل مخلصين وما آمن إلا رجل واحد قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } [يس:13و14].
ثم بين تعالى أنه ما من إلا واحد : {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } [يس:25و26و27].
فليعلم الآمر بالمعروف أن إخلاصه شرطا في قبول الله لعمله وعدم قبول الناس لإرشاده وتوجيهه ليس طعنا في إخلاصه فالناس يقبلون ممن يقتنعون في كلامه مخلصا كان أم مشركا خيّرا كان أم فاسقا.
لذا على المحتسب أن يجعل هذه القضية نصب عينه ولا يغرنه كثرة الهالكين وقلة السالكين ولا يجعل للشيطان سبيلا عليه في أن يشككه في نيته وإخلاصه لعدم استجابة الناس له فما عليك إلا بذل السبب بالطريقة المشروعة مصحوبا بالإخلاص وعلى الله الهداية.
أي أن يكون الآمر بالمعروف صاحب أمانة وذمة وضمير حي في تبليغ وأداء ما أمر الله به قال تعالى : {
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } [الأحزاب:72].فالله قد حمّل بني آدم الأمانة وبالأخص الدعاة إلى الله حمّلهم أمانة تبليغ هذا الدين فهم أمناء الله في هذه الأرض يبلغون ما أمر الله ما نهى الله عنه على أكمل وجه دون نقص ولا زيادة ، ومن الأمانة المنوطة بالمحتسب والداعية أن يبلغ ما كلف به من الله من أمر ونهي في كل الأحوال لا أن يأمر إذا اشتهى ويسكت إذا لم يشته ، فمن واجب المحتسب أن يكون أمينا على ما اتمن عليه لا أن يأمر بالمعروف إذا دفعه هواه ولا ينهى عن المنكر إذا عارضه هواه ومزاجه .
ولا شك أن تضييع الأمانة من علامات الساعة إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : (
أول ما يرفع من الناس الأمانة ، و آخر ما يبقى من دينهم الصلاة ، و رب مصل لا خلاق له عند الله تعالى ) [الألبانى: حسن].ويقول ابن مسعود رضي الله عنه : ( كيف بكم إذا لبستكم فتنة ، يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، وتتخذ سنة ، فإن غيرت يوما قيل : هذا منكر ! قيل : ومتى ذلك ؟ قال ، إذا قلت أمناؤكم ، وكثرت أمراؤكم ، وقلت فقهاؤكم ، وكثرت قراؤكم ، وتفقه لغير الدين ، والتمست الدنيا بعمل الآخرة ) [الألبانى: صحيح لغيره].
فليس أجمل بالمحتسب من أن يؤدي الأمانة التي وكلّت له على أكمل وجه حتى تبرأ ذمته ولا يلحقه سخط الله وغضبه في قوله تعالى فيمن زاد ونقص وضيع الأمانة : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [النحل:116].
وكيف لا تكون هذه الصفة واجبة في حق المحتسب وهو الذي يأمر الناس بالعدل والقسط والمعروف وأداء الأمانات . وينهاهم عن الغش والكذب والخداع ونقص الموازين وتضييع الحقوق ، فكل منكر قد نهى الله عنه فالمحتسب أولى الناس باجتنابه وكل معروف وخير أمر الله به فالمحتسب أولى الناس بالتحلي به والأخذ به.
خامساً : الصبــــــــــــــــــر :
فلابد للآمر بالمعروف والداعي من الصبر إذ به يتحمل أذى الناس فلا ولن يكون كلامك وأمرك ونهيك مقبولا لدى الجميع ولن يكون ماءً عذبا على قلوب الجميع بل سيرضى به البعض والبعض الآخر لربما خالفك ولكن كتم في نفسه والبعض لربما آذاك بكلامه أو أفعاله لذا اقتضى الحال أن يتحلى المحتسب بالصبر على ما يلقى من الأذى والبلى من الناس.
والله يقص لنا عن وصية لقمان لابنه يوصيه بذلك : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
وقال تعالى : { وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر].
والله سبحانه وتعالى يواسي رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر حال من سبقه من الرسل وما أصابهم ولكنهم صبروا على تكذيب الناس لهم وإيذائهم وتعذيبهم قال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِي } [الأنعام:34].
فليس للمحتسب أن يسخط ولا أن يتضجر من سباب أو شتم أو غير ذلك وليكن مثله الأعلى في ذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أصابه ما أصابه في سبيل الله ولم يجزع ولم يضجر ولعل حادثة واحدة مما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم كافية في أن تكون عبرة للمحتسب يتذكرها كلما فقد أعصابه وتوازنه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه: يا رسول الله ! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال ( لقد لقيت من قومك . وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة . إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال . فلم يجبني إلى ما أردت . فانطلقت وأنا مهموم على وجهي . فلم أستفق إلا بقرن الثعالب . فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني . فنظرت فإذا فيها جبريل . فناداني . فقال : إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك . وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي . ثم قال : يا محمد ! إن الله قد سمع قول قومك لك . وأنا ملك الجبال . وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك . فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ) . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا.
يا له خلق عال كريم عظيم سمى عن أن يقبل الإساءة بالإساءة وهذا الذي ينبغي بل يجب أن يتحلى به كل محتسب وكل داع يرجو أن يكون لدعوته صدا وتأثيرا بين الناس ولقوله سامع ولأمره مطيع ولنهيه مجتنب.