بسم الله الرحمن الرحيم
تحرص على أداء صلاتها، وتتسربل بأدوات الحشمة في كل زمان ومكان، وتؤدي واجباتها في البيت والوظيفة، ولكنها في نفس الوقت لا تجد غضاضة في سماع أغنية جميلة، أو متابعة مسلسل ممتع، أو حتى في مشاهدة فلم مثير، وفي كثير من الأحيان تشعر بالملل فيكون علاجه مكالمة هاتفية مع إحدى الصديقات لضرب موعد في مركز تجاري كبير، أحاديث ممتعة، مطالعة للبضائع الجديدة، وفي ختام الجولة احتساء كوب من القهوة أو الشاي في الاستراحة الموجودة في ذلك المركز التجاري، وتسمع أحياناً عن أماكن الخير، وحلق الذكر، ودروس العلم، ولكنها تجد أنها ليست بحاجة إلى كل هذه الأشياء، وكم نصحتها بعض الزميلات والقريبات بتجربة الذهاب إلى هذه الأماكن، لكنها تأبى ذلك، كانت ترى في نفسها امرأة محافظة على فروضها الأساسية، وحشمتها المطلوبة، وتعتقد بأنها ليست بحاجة للمزيد.
في أوقات فراغها كانت تطالع شتى أنواع الصحف والمجلات، تبحث عن الخبر الطريف، وتستمتع بالرسوم الكاريكاتورية المضحكة، وتستفيد من الأزياء الجميلة، وتطبق الوصفات الشهية، ولم تكن تفكر في أسعار هذه المطبوعات أبداً، ولم تقارن مسبقاً بينها وبين المطبوعات الهادفة، ولم يثر استغرابها يوماً ذلك التناقض الواضح بينها في الكم والكيف، كانت فقط تتساءل أحياناً عن جدوى متابعتها لهذه المجلات، ولكنها في النهاية كانت تطرح مثل هذا الأفكار خلف ظهرها، وتستمر في متعتها التي تراها وتعتقد بأنها بريئة، كانت في تلك الفترة تعد العدة لاستقبال شهر رمضان، وكانت تتهيأ نفسياً للتغيير المعتاد الذي يطرأ عليها كل عام، تغيّر جذري ولمدة شهر واحد فقط.
دخل شهر رمضان المبارك، وبدأ الجميع إعادة حساباتهم، فقد كانت نسائم الخير والبركة تخالط المشاعر وتداعب الأحاسيس، وكانت روحانية الشهر الكريم تتسلل إلى النفوس على تباين درجاتها، يتسابق الجميع للنهل من المعين الصافي، ويحرصون على زيادة أرصدتهم الأخروية.. حتى أصحاب التجاوزات لهم تعامل آخر مع هذا الشهر بالذات، جميعهم اعتبروه فرصة قد لا تعود، وقد أعدوا العدة لاستغلال دقائقه وثوانيه، ومثلها مثل غيرها، تفكرت في هذه الفرصة الذهبية، وقررت الاستفادة منها قدر الاستطاعة، شهر واحد في السنة كلها، وبعدها راحة لمدة أحد عشر شهراً، هكذا كانت تحدّث نفسها، وهكذا كانت سيرتها مع نفسها طوال السنوات الماضية، فالتعامل مع شهر رمضان مختلف عن غيره، وما تمنع نفسها منه في هذا الشهر الفضيل تحصل عليه في بقية شهور السنة، فجميع الملهيات وأدوات المتعة تمتنع عنها في رمضان، أما في غيره فكان الوضع بالنسبة لها مختلف تماماً، كانت مقتنعة تماماً بأسلوبها بالرغم من كم النصائح التي تلقى عليها من والدتها وكثير من زميلاتها، ولكنها كانت مقتنعة بأن وضعها لا غبار عليه، وأن حياتها وتصرفاتها ليست بحاجة إلى أي تغيير.
منذ الساعات الأولى ليومها، تشمّر عن ساعديها ولا تترك فرصة تواتيها إلا وتستفيد منها، في وظيفتها، وفي بيتها، تحمل القرآن الكريم للتلاوة في كل لحظة، تفترش سجادتها بين الحين والآخر لأداء بعض النوافل، وكثيراً ما يعلو صوتها مستنكرة عندما تسمع أصوات الفيديو أو التلفاز وهي تضج بالموسيقى، كان صغارها يطالعونها بدهشة ويتساءلون عن الفرق بين الأمس واليوم! ترد على نظراتهم البريئة بقولها:
ـ نحن الآن في رمضان، ومن غير المناسب أن تعلو مثل هذه الأصوات في بيتنا الآن.
وفي المساء يكون استعدادها كبيراً لأداء صلاة التراويح، كانت تؤديها أحياناً في البيت وفي أحيان أخرى يصطحبها زوجها لأدائها في الجامع القريب، تشعر بالسعادة بعد عودتها إلى البيت، وتتذكر كيف أمضت ساعات يومها، تواتيها لحظات ارتياح وشعور بالرضا عن النفس، وتقرر فيما بينها وبين نفسها بأنها في الغد ستكون أكثر حرصاً واجتهاداً، يأتي الغد سريعاً وتحرص على استغلاله جيداً، منذ الصباح جد واجتهاد، وتوزيع دقيق للوقت بين البيت والوظيفة والواجبات الدينية، وعندما يحل الظلام، ويقترب موعد صلاة العشاء والتراويح، تسارع باستعدادها المعتاد، تريد الوصول للجامع مبكراً، وها هي من أوائل المرتادات لهذا المكان الطاهر، تحية المسجد، وبعدها تقام صلاة العشاء، تليها دقائق للسنة الراتبة، وفي الختام صلاة التراويح، وتلاوة الإمام تهزّ أعماقها، وتسيطر على مشاعرها وأحاسيسها، وتذرف الدموع الساخنة خلال دعاء القنوت، ويستشعر عقلها كل حرف يقال بكثير من الذلة والخضوع للمولى عز وجل.
انتهت الصلاة وعاجلت عينيها بمنديل ورقي، مسحت آثار دموعها قبل أن تتهيأ للخروج، نزلت السلالم باتجاه الباب الخارجي، وبين عشرات السيارات كانت تبحث عن سيارة زوجها، استغربت عدم وجوده مبكراً.. فلم تكن عادته، بدأ كم السيارات المقابلة للمسجد يخف شيئاً فشيئاً، ومازالت تترقب حضوره، أخيراً حضر، بادرها بالاعتذار لتأخره؛ لانشغاله بسؤال أحد طلبة العلم عن مسألة ما، وعندما همّ بالقيادة إذا بها تستوقفه قليلاً.. سيارة كبيرة على الجانب الآخر مكتظة بالنساء، وإحداهن تلوّح بيدها مستفهمة عن شيء ما، استأذنته لسؤالها فأجابها لذلك، نزلت على عجل وتوجهت إليهن تسألهن عن حاجتهن:
ـ هل تريدين شيئاً؟
• جزاك الله خيراً على المبادرة.
ـ ما هي حاجتك؟
• هل هذا هو جامع (….)؟
ـ لا، لا أعتقد.
• أليست هنا محاضرة (….)؟
ـ ليس هنا أي محاضرات، ولعل الخطأ في اسم الجامع.
• جزاك الله خيراً وسنبحث عنه.
ـ لحظة لأسأل زوجي عن الجامع الذي تبحثين عنه.
تذهب إليه بسرعة وتسأله عن اسم الجامع المطلوب، يشير إليها بالركوب ويطلب منها أن تشير إليهن بمتابعته، تسير السيارتان الواحدة خلف الأخرى، وبعد أقل من خمس دقائق يصل إلى الجامع المقصود، تشير بدورها إليهن وتراقبهن وهن يدخلن الواحدة تلو الأخرى، لا تعرف في هذه اللحظة سر رغبتها في الحضور هذه المرّة، منظر الواحدة منهن وهي تستحث الخطى نحو المحاضرة أثار عندها دافع الفضول وحب الاستطلاع.
أدار محرك السيارة ولكنها استوقفته، تساءل عن السبب فأخبرته برغبتها في حضور ما يسمى بالمحاضرة، تردد قليلاً.. ولكنه وافق في النهاية أمام إصرارها، وأخبرها بعودته بعد ساعة، نزلت، ولحقت بهؤلاء النسوة، دخلت الجامع، وصعدت السلالم، سارت في ممر طويل، دخلت المكان المخصص للنساء، مكان واسع وعدد كبير من النساء، مكتب متوسط الحجم يتوسط هذا المكان، أخذت لها مكاناً متوسطاً، عدد الحضور والحركة والهمس بازدياد مستمر، وعندما بدأت المحاضرة خلا المكان من أي صوت آخر، واشرأبت الأعناق نحو مصدر الصوت، وتركزت الأبصار للمحاضرة، وأرهف الجميع السمع، كانت مشدوهة بهذه الأجواء، ومتفاعلة مع كل ما يقال، الآية، الحديث، الموعظة، القصة، كل هذا الكلام تعرفه مسبقاً، ولكن وقعه الآن على سمعها ووجدانها مختلف جداً، وعندما كان الحديث عن الملهيات التي ملأت البيوت كاد فؤادها يتمزق، وذهب الحديث إلى آثار المعاصي والذنوب على حياة الأفراد والمجتمعات المسلمة، فكانت تمرر عينيها على الحضور وتسأل نفسها بصمت:
ـ أين أنا من كل هذا؟!
ـ ما هذه الغشاوة التي حجبت عني الحقيقة؟!
ـ العبادة أساس الخلق في كل زمان ومكان، وأنا أركزها في رمضان فقط!!
ـ سبحان الله، كيف حضرت إلى هذا المكان دون تخطيط مسبق؟!
استرسلت في تساؤلاتها، ويدها ترتفع بين لحظة.. وأخرى تمسح دموعها الغزيرة، تنتهي المحاضرة وتبدأ النساء في مغادرة المكان. تلملم جراحها وتعدل عباءتها وغطاء وجهها، وتهم بالخروج أسوة بغيرها، وتشعر بالحقيقة ماثلة أمام عينيها، حقيقة المتع التي تعدها بريئة، والأوقات المهدرة فيها، والمجالس الإيمانية التي غفلت عنها طوال سنواتها الماضية، نعم.. تعرف كثيرا من الأشياء، ولكنها وجدت لسماعها في مجلس الذكر أثراً كبيراً، رمضان موسم الخير والبركة، ولكن الغفلة فيما عداه من الشهور خطأ كبير وجرم فادح في حق النفس والمجتمع، نتيجة أساسية تخرج بها من هذا المكان الطاهر، وتفكر أن تسير بمقتضاها مستقبلاً، ترتيب لرمضان وترتيب لغيره من الشهور طوال سنوات العمر إن شاء الله.
بقلم الكاتبة:هيا الرشيد