السلام عليم ورحمة الله وبركاته
سلمة بن دينار، الإمام القدوة، الواعظ، شيخ المدينة النبويّة، أبو حازم المديني، المخزومي.
ولد في أيام ابن الزبير وابن عمر، وقيل ولاؤه لبني ليث.
قال مصعب بن عبد الله الزبيري: أبو حازم أصله فارسي، وأمّه رومية، وهو مولى بني ليث، وكان أشقر، أفزر، أحول.
طلبه للعلم:
روى عن: سهل بن سعد، وأبي أمامة بن سهل، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن أبي قتادة، والنعمان بن أبي عياش، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأمّ الدرداء، وعمارة بن عمرو بن حزم، وعبيد الله بن مقسم، ومسلم بن قرط، ومحمد بن المنكدر، وأبي مرة مولى عقيل، وبعجة بن عبد الله الجهني، وغيرهم.
وروى عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وذلك منقطع.
قال يحيى الوحاظي: قلت لابن أبي حازم: أسمع أبوك من أبي هريرة؟ قال: من حدثك أن أبي سمع من أحد من الصحابة غير سهل بن سعد، فقد كذب.
روى عنه: ابن شهاب، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، وعمارة بن غزية، وزيد بن أبي أنيسة، وعبيد الله بن عمر، والحَمّادان، والسفيانان، ومالك، وسليمان بن بلال، وأبو غسان محمد بن مطرف، وموسى بن يعقوب، وهشام بن سعد، وفضيل بن سليمان، والدراوردي، وعمر بن علي المقدمي، وعبد العزيز بن أبي حازم وخلق سواهم.
وثَّقه ابن معين، وأحمد، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن سعد، وحديثه في الكتب الستّة.
ثناء الناس عليه:
قال ابن خزيمة: ثقة، لم يكن في زمانه مثله.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما رأيت أحدًا الحكمةُ أقرب إلى فيه من أبي حازم.
وعن يعقوب بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سمعت عون بن عبد الله يقول: ما رأيت أحدًا يفرفر الدنيا فرفرةَ هذا الأعرج، يعني: أبا حازم.
[فرفر الشيءَ يأتي بمعنى: صاح به، وكسره، وضربه].
من أقواله:
♦ قال ابن عيينة عن أبي حازم: إني لأعظ، وما أرى موضعًا، وما أريد إلا نفسي.
♦ وروى ابن عيينة عنه قال: اشتدت مؤنة الدين والدنيا، قيل: وكيف؟ قال: أما الدين، فلا تجد عليه أعوانًا، وأما الدنيا، فلا تمد يدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجرًا قد سبقك إليه.
♦ وقال عنه أيضًا: ليس للملوك صديق، ولا للحسود راحة، والنظر في العواقب تلقيح العقول.
♦ قال سفيان: فذاكرت الزهري هذه الكلمات، فقال: كان أبو حازم جاري، وما ظننت أنه يُحسن مثل هذا.
♦ وروى عبيد الله بن عمر عن أبي حازم قال: لا تكون عالمًا حتى يكون فيك ثلاث خصال: لا تبغ على من فوقك، ولا تحقر من دونك، ولا تأخذ على علمك دنيا.
♦ وروى يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال: ما أحببت أن يكون معك في الآخرة، فاتركه اليوم.
♦ وقال: انظر كل عمل كرهتَ الموت من أجله، فاتركه ثم لا يضرك متى متَّ.
♦ وقال: انظر الذي يصلحك فاعمل به، وإن كان فسادًا للناس، وانظر الذي يفسدك فدعه، وإن كان صلاحًا للناس.
♦ وعنه قال: شيئان إذا عملت بهما أصبت خيرَ الدنيا والآخرة، لا أطوّل عليك، قيل ما هما؟ قال: تحمل ما تكره إذا أحبّه الله، وتترك ما تحبّ إذا كرهه الله.
♦ وعنه: نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا، أعظم من نعمته فيما أعطاني منها؛ لأني رأيته أعطاها قومًا فهلكوا.
♦ وروى محمد بن إسماعيل الصنعاني عن ابن عيينة، قال أبو حازم لجلسائه -وحلف لهم-: لقد رضيت منكم أن يُبقي أحدُكم على دينه كما يبقي على نعله.
♦ وعن ابن عيينة سمعت أبا حازم يقول: لا تعادِيَنَّ رجلا ولا تناصبنه حتى تنظر إلى سريرته بينه وبين الله، فإن يكن له سريرة حسنة، فإن الله لم يكن ليخذله بعداوتك، وإن كانت له سريرة رديئة، فقد كفاك مساوئه، ولو أردت أن تعمل به أكثر من معاصي الله لم تقدر.
♦ وروى يحيى بن محمد المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قلت لأبي حازم: إني لأجد شيئًا يحزنني، قال: وما هو يا ابن أخي؟ قلت: حبي للدنيا، قال: اعلم أن هذا لشيء. ما أعاتب نفسي على بغض شيء حببه الله إلي؛ لأن الله قد حبب هذه الدنيا إلينا، لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا: ألّا يدعونا حبُّها إلى أن نأخذ شيئًا من شيء يكرهه الله، ولا أن نمنع شيئًا من شيء أحبّه الله، فإذا نحن فعلنا ذلك لم يضرنا حبُّنا إياها.
♦ وعنه: وما إبليس؟ لقد عصي فما ضر، ولقد أطيع فما نفع.
♦ وعنه قال: أفضل خصلة ترجى للمؤمن أن يكون أشدَّ الناس خوفًا على نفسه وأرجاه لكل مسلم.
♦ وعنه: ما الدنيا؟ ما مضى منها، فحلم، وما بقي منها، فأماني.
♦ وروى يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال: السيء الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إنه ليدخل بيته، وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته فينفرون عنه، فرقًا منه، وحتى إنّ دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإنّ كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى إن قطه ليفر منه.
♦ يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال: تجد الرجل يعمل بالمعاصي، فإذا قيل له: أتحبّ الموت؟ قال: لا وكيف وعندي ما عندي؟ فيقال له: أفلا تترك ما تعمل؟ فيقول: ما أريد تركه، ولا أحب أن أموت حتى أتركه!
♦ وعن أبي حازم قال: إذا رأيت ربّك يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه، فاحذره، وإذا أحببت أخًا في الله فأقل مخالطته في دنياه.
♦ قال أبو حازم: كل نعمة لا تقرب من الله عز وجل فهي بلية.
♦ وعن سفيان قال: قال أبو حازم: ينبغي للمؤمن أن يكون أشدّ حفظًا للسانه منه لموضع قدميه.
♦ وقال: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد ألزق به شيء يسوءك.
♦ وقال: إنما السلطان سوق؛ فما نفق عنده أتى به.
♦ وقال: إنّ العبد ليعمل الحسنة تسرّه حين يعملها، وما خلق الله من سيئة أضرّ له منها، وإنّ العبد ليعمل السيئة حتى تسوءه حين يعملها، وما خلق الله من حسنة أنفع له منها، وذلك أنّ العبد ليعمل الحسنة تسرّه حين يعملها فيتجبر فيها ويرى أنّ له بها فضلا على غيره، ولعلّ الله تعالى أن يحبطها ويحبط معها عملا كثيرًا، وإنّ العبد حين يعمل السيئة تسوءه حين يعملها، ولعلّ الله تعالى يحدث له بها وجلا يلقى الله تعالى وإنّ خوفها لفي جوفه باقٍ.
من مواقفه:
عن يحيى بن أبي كثير قال: دخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجًّا فقال: هل بها رجل أدرك عدّة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال: وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني، قال: والله ما عرفتني قبل هذا، ولا أنا رأيتك فأي جفاء رأيت مني؟ فالتفت سليمان إلى الزهري فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا، فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة؛ فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب، قال: صدقت، فقال: يا أبا حازم ليت شعري ما لنا عند الله تعالى غدًا؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده من كتاب الله تعالى؟ قال: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14]، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قريب من المحسنين، قال سليمان: ليت شعري كيف العرض على الله غدًا؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدَم على أهله، وأما المسيء كالآبق يُقدَم به على مولاه، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتدّ بكاؤه.
وعن سفيان بن وكيع حدثنا ابن عيينة قال: دخل أبو حازم على أمير المدينة، فقال له: تكلم، قال له: انظر الناس ببابك، إن أدنيت أهل الخير، ذهب أهل الشر، وإن أدنيت أهل الشر، ذهب أهل الخير.
وقيل: إنّ بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم، فأتاه وعنده الزهري والأفريقي وغيرهما، فقال: تكلم يا أبا حازم، فقال أبو حازم: إن خير الأمراء من أحبّ العلماء، وإن شرّ العلماء من أحبّ الأمراء.
وعن بلال بن كعب قال: مرّ أبو حازم بأبي جعفر المديني وهو مكتئب حزين، فقال: مالي أراك مكتئبًا حزينًا؟ وإن شئتَ أخبرتك، قال أبو جعفر: أخبرني ما وراءك، قال أبو حازم: ذكرت ولدك من بعدك؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإن كانوا لله أولياء فلا تخف عليهم الضيعة، وإن كانوا لله أعداء فلا تبال ما لقوا بعدك.
وعن زمعة بن صالح قال: كتب بعضُ بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه ألا رفع إليه حوائجه، فكتب إليه: أمّا بعد، جاءني كتابك تعزم علي ألا رفعت إليك حوائجي، وهيهات، رفعت حوائجي إلى من لا يختزم الحوائح وهو ربي عز وجل، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني قنعت.
[كذا جاء يختزم، ولعله يخترم].
وعن عبيد الله بن محمد بن يزيد بن حبيش قال: سمعت أبي يذكر أنه بلغه عن أبي حازم أنهم أتوه فقالوا له: يا أبا حازم أما ترى قد غلا السعر، فقال: وما يغمّكم من ذلك، إنّ الذي يرزقنا في الرخص هو الذي يرزقنا في الغلاء.
وعن جرير قال: كان أبو حازم يمرّ على الفاكهة في السوق فيشتهيها فيقول: موعدك الجنة.
وعن عبد الله بن صالح عن ليث بن سعد عن أبي حازم قال: إني لأدعو الله في صلاتي حتى بالملح.
وفاته:
روى أبو نباتة المدني عن محمد بن مطرف قال: دخلنا على أبي حازم الأعرج لما حضره الموت، فقلنا: كيف تجدك؟ قال: أجدني بخير، راجيًا لله، حَسَنَ الظنّ به، إنّه والله ما يستوي من غدا أو راح يعمر عقد الآخرة لنفسه فيقدمها أمامه قبل أن ينزل به الموتُ حتى يقدم عليها، فيقوم لها وتقوم له، ومن غدا أو راح في عقد الدنيا يعمرها لغيره، ويرجع إلى الآخرة لا حظ له فيها ولا نصيب.
مات أبو حازم في خلافة أبي جعفر بعد سنة أربعين ومائة، وقيل غير ذلك.
المصادر:
♦ حلية الأولياء.
♦ سير أعلام النبلاء.
♦ التاريخ الكبير للبخاري.
♦ الأعلام للزركلي.
♦ طبقات ابن سعد.