ان كنت تعلم انك قد اخدت علي الدهر عهدا ان يكون لك كما تريد في جميع شؤونك واطوارك والا يعطيك ولا يمنعك
الا كما تحب وتشتهي فجدير بك ان تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مارب او استعصي مطلب
اَلْحِجَاب " مَوْضُوعَة "
ذَهَب فُلَان إِلَى أُورُوبَّا وَمَا نُنْكِر مِنْ أَمْره شَيْئًا فَلَبِثَ فِيهَا بِضْع سِنِينَ ثُمَّ عَادَ
وَمَا بَقِيَ مِمَّا كُنَّا نَعْرِفهُ مِنْهُ شَيْء .
ذَهَبَ بِوَجْه كَوَجْه اَلْعَذْرَاء لَيْلَة عُرْسهَا وَعَاد بِوَجْه كَوَجْه اَلصَّخْرَة اَلْمَلْسَاء تَحْت
اَللَّيْلَة الماطرة وَذَهَبَ بِقَلْب نَقِيّ طَاهِر يَأْنَس بِالْعَفْوِ وَيَسْتَرِيح إِلَى اَلْعُذْر وَعَادَ
بِقَلْب مِلَفّ مدخول لَا يُفَارِقهُ اَلسُّخْط عَلَى اَلْأَرْض وَسَاكِنهَا وَالنِّقْمَة عَلَى اَلسَّمَاء
وَخَالِقهَا وَذَهَبَ بِنَفْس غَضَّة خَاشِعَة تَرَى كُلّ نَفْس فَوْقهَا وَعَادَ بِنَفْس ذَهَابه نَزَّاعَة لَا
تَرَى شَيْئًا فَوْقهَا وَلَا تُلْقِي نَظْرَة وَاحِدَة عَلَى مَا تَحْتهَا وَذَهَبَ بِرَأْس مَمْلُوءَة حَكَمَا
وَرَأَيَا وَعَاد بِرَأْس كَرَأْس اَلتِّمْثَال اَلْمُثَقَّب لَا يَمْلَؤُهَا إِلَّا لِهَوَاء اَلْمُتَرَدِّد وَذَهَبَ
وَمَا عَلَيَّ وَجْه اَلْأَرْض أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ دِينه وَوَطَنه وَعَاد وَمَا عَلَى وَجْههَا أَصْغُر فِي
عَيْنه مِنْهُمَا .
وَكُنْت أَرَى أَنَّ هَذِهِ اَلصُّورَة اَلْغَرِيبَة اَلَّتِي يَتَرَاءَى فِيهَا هَؤُلَاءِ اَلضُّعَفَاء مِنْ
اَلْفِتْيَان اَلْعَائِدِينَ مِنْ تِلْكَ اَلدِّيَار إِلَى أَوْطَانهمْ إِنَّمَا هِيَ أَصْبَاغ مُفْرَغَة عَلَى
أَجْسَامهمْ إِفْرَاغًا لَا تَلْبَث أَنْ تَطَلَّعَ عَلَيْهَا اَلشَّمْس اَلْمَشْرِق حَتَّى تَتَّصِل وَتَتَطَايَر
ذَرَّاتهَا فِي أَجْوَاء اَلسَّمَاء وَأَنَّ مَكَان اَلْمَدَنِيَّة اَلْغَرْبِيَّة مِنْ نُفُوسهمْ مَكَان اَلْوَجْه
مِنْ اَلْمِرْآة إِذَا اِنْحَرَفَ عَنْهَا زَالَ خَيَاله مِنْهَا فَلَمْ أَشَأْ أَنْ أُفَارِق ذَلِكَ اَلصَّدِيق
وَلَبِسَتْهُ عَلَى عِلَّاته وَفَاء بِعَهْدِهِ اَلسَّابِق وَرَجَاء لِغَدِهِ اَلْمُنْتَظَر مُحْتَمَلًا فِي سَبِيل
ذَلِكَ مِنْ حُمْقه وَوَسْوَاسه وَفُسَّاد تَصَوُّرَاته وَغَرَابَة أَطْوَاره مَا لَا طَاقَة لِمَثَلِي
بِاحْتِمَال مِثْله حَتَّى جَاءَنِي ذَات لَيْلَة بِدَاهِيَة اَلدَّوَاهِي وَمُصِيبَة اَلْمَصَائِب فَكَانَتْ
آخِر عَهْدِي بِهِ .
دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَرَأَيْته وَاجِمًا مُكْتَئِبًا فحييته فَأَوْمَأَ إِلَى بِالتَّحِيَّةِ إِيمَاء فَسَأَلَتْهُ
مَا بَاله فَقَالَ مَا زِلْت مُنْذُ اَللَّيْلَة مِنْ هَذِهِ اَلْمَرْأَة فِي عَنَاء لَا أَعْرِف اَلسَّبِيل
إِلَى اَلْخَلَاص مِنْهُ وَلَا أَدْرِي مَصِير أَمْرِي فِيهِ قُلْت وَأَيّ اِمْرَأَة تُرِيد ? قَالَ تِلْكَ اَلَّتِي
يُسَمِّيهَا اَلنَّاس زَوْجَتِي وَأُسَمِّيهَا اَلصَّخْرَة اَلْعَاتِيَة فِي طَرِيق مُطَالِبِي وَآمَالِي قَلَّتْ
إِنَّك كَثِير اَلْآمَال يَا سَيِّدِي فَعَنْ أَيّ آمَالك تَحْدُث ? قَالَ لَيْسَ لِي فِي اَلْحَيَاة إِلَّا
أَمَل وَاحِد هُوَ أَنْ أُغْمِض عَيْن ثُمَّ أَفْتَحهَا فَلَا أَرَى بُرْقُعًا عَلَى وَجْه اِمْرَأَة فِي هَذَا
اَلْبَلَد قُلْت ذَلِكَ مَا لَا تَمْلِكهُ وَلَا رَأَى لَك فِيهِ قَالَ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ اَلنَّاس يُرُونَ فِي
اَلْحِجَاب رَأْيِي وَيَتَمَنَّوْنَ فِي أَمَرّه مَا أَتُمَنِّي وَلَا يَحُول بَيْنهمْ وَبَيْن نَزْعه عَنْ وُجُوه
نِسَائِهِمْ إبرازهن إِلَى اَلرِّجَال يجالسنهم كَمَا يَجْلِس بَعْضهنَّ إِلَى بَعْض إِلَّا اَلْعَجْز
وَالضَّعْف وَالْهَيْبَة اَلَّتِي لَا تَزَال تُلِمّ بِنَفْس اَلشَّرْقِيّ كُلَّمَا حَاوَلَ اَلْإِقْدَام عَلَى أَمْر
جَدِيد فَرَأَيْت أَنْ أَكُون أَوَّل هَادِم لِهَذَا اَلْبِنَاء اَلْعَادِيّ اَلْقَدِيم اَلَّذِي وَقَفَ سَدًّا
دُون سَعَادَة اَلْأُمَّة وَارْتِقَائِهَا دَهْرًا طَوِيلًا وَأَنْ يَتِمّ عَلَى يَدَيْ مَا لَمْ يَتِمّ عَلَى يَد
أَحَد غَيْرِي مِنْ دُعَاة اَلْحُرِّيَّة وَأَشْيَاعهَا فَعَرَضَتْ اَلْأَمْر عَلَى زَوْجَتِي فَأَكْبَرَتْهُ وَأَعْظَمَتْهُ
وَخَيْل إِلَيْهَا أَنَّنِي جُثَّتهَا بِإِحْدَى اَلنَّكَبَات اَلْعِظَام والرزايا اَلْجِسَام وَزَعَمَتْ أَنَّهَا
إِنْ بَرَزَتْ إِلَى اَلرِّجَال فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيع أَنْ تَبْرُز إِلَى اَلنِّسَاء بَعْد ذَلِكَ .
حَيَاء مِنْهُنَّ وَخَجَلًا وَلَا خَجَل هُنَاكَ وَلَا حَيَاء وَلَكِنَّهُ اَلْمَوْت وَالْجُمُود وَالذُّلّ اَلَّذِي
ضَرَبَهُ اَللَّه عَلَى هَؤُلَاءِ اَلنِّسَاء فِي هَذَا اَلْبَلَد أَنْ يَعِشْنَ فِي قُبُور مُظْلِمَة مِنْ
خُدُورهنَّ وَخَمْرهنَّ حَتَّى يَأْتِينَ اَلْمَوْت فَيَنْتَقِلْنَ مِنْ مَقْبَرَة اَلدُّنْيَا إِلَى مَقْبَرَة اَلْآخِرَة
فَلَا بُدّ لِي أَنَّ أَبْلَغ أَمْنِيَّتِي وَأَنْ أُعَالِج هَذَا اَلرَّأْس اَلْقَاسِي اَلْمُتَحَجِّر عِلَاجًا
يَنْتَهِي بِإِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا بِكَسْرِهِ أَوْ بِشِفَائِهِ .
فَوَرَدَ عَلَى مَنْ حَدِيثه مَا مَلَأَ نَفْسِي هَمًّا وَحُزْنًا وَنَظَرْت إِلَيْهِ نَظْرَة اَلرَّاحِم اَلرَّاثِي
وَقُلْت أعالم أَنْتَ أَيُّهَا اَلصَّدِيق مَا تَقُول ?
قَالَ نَعَمْ أَقُول اَلْحَقِيقَة اَلَّتِي أَعْتَقِدهَا وَأُدِين نَفْسِيّ بِهَا وَاقِعَة مِنْ نَفْسك وَنُفُوس
اَلنَّاس جَمِيعًا حَيْثُ وَقَعَتْ قُلْت هَلْ تَأْذَن لِي أَنْ أَقُول لَك إِنَّك عِشْت فَتْرَة طَوِيلَة فِي
دِيَار قَوْم لَا حِجَاب بَيْن رِجَالهمْ وَنِسَائِهِمْ فَهَلْ تَذْكُر أَنَّ نَفْسك حَدَّثَتْك يَوْمًا مِنْ
اَلْأَيَّام وَأَنْتَ فِيهِمْ بِالطَّمَعِ فِي شَيْء مِمَّا لَا تَمْلِك يَمِينك مِنْ أَعْرَاض نِسَائِهِمْ فَنِلْت
مَا تَطْمَع فِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُر مَالِكه ? قَالَ رُبَّمَا وَقَعَ لِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَمَاذَا
تُرِيد قُلْت أُرِيد أَنْ أَقُول لَك إِنِّي أَخَاف عَلَى عَرْضك أَنْ يُلِمّ بِهِ مِنْ اَلنَّاس مَا أُلِمّ
بِأَعْرَاض اَلنَّاس مِنْك قَالَ إِنَّ اَلْمَرْأَة اَلشَّرِيفَة تَسْتَطِيع أَنْ تَعِيش بَيْن اَلرِّجَال مِنْ
شَرَفهَا وَعِفَّتهَا فِي حِصْن حَصِين لَا تَمْتَدّ إِلَيْهِ اَلْمَطَامِع فَتُدَاخِلنِي مَا لَمْ أَمْلِك مَعَهُ
وَقُلْت لَهُ تِلْكَ هِيَ اَلْخُدْعَة اَلَّتِي بِالْإِغْوَاءِ بِهَا اَلشَّيْطَان أَيُّهَا اَلضُّعَفَاء والثلمة
اَلَّتِي يغثر بِهَا فِي زَوَايَا رُءُوسكُمْ فَيَنْحَدِر مِنْهَا إِلَى عُقُولكُمْ وَمَدَارِككُمْ فَيُفْسِدهَا
عَلَيْكُمْ فَالشَّرَف كَلِمَة لَا وُجُود لَهَا فِي قَوَامِيس اَللُّغَة وَمَعَاجِمهَا فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ
نُفَتِّش عَنْهَا فِي قُلُوب اَلنَّاس وَأَفْئِدَتهمْ قَلَمًا نَجِدهَا وَالنَّفْس اَلْإِنْسَانِيَّة كَالْغَدِيرِ
اَلرَّاكِد لَا يَزَال صَافِيًا رَائِقًا حَتَّى يَسْقُط فِيهِ حَجَر فَإِذَا هُوَ مُسْتَنْقَع كَدِر وَالْعِفَّة
لَوْن مِنْ أَلْوَان اَلنَّفْس لَا جَوْهَر مِنْ جَوَاهِرهَا وَقَلَّمَا تُثْبِت اَلْأَلْوَان عَلَى أَشِعَّة
اَلشَّمْس اَلْمُتَسَاقِطَة قَالَ أَتُنْكِرُ وُجُود اَلْعِفَّة بَيْن اَلنَّاس قُلْت لَا أُنْكِرهَا لِأَنِّي أَعْلَم
أَنَّهَا مَوْجُودَة بَيْن اَلْبُلْه اَلضُّعَفَاء وَالْمُتَكَلِّفِينَ وَلَكِنِّي أَنْكَرَ وَجَوَّدَهَا عِنْد اَلرَّجُل
اَلْقَادِر المختلب وَالْمَرْأَة اَلْحَاذِقَة اَلْمُتَرَفِّقَة إِذَا سَقَطَ بَيْنهمَا اَلْحِجَاب وَخَلَا وَجْه
كُلّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ .
فِي أَيّ جَوّ مِنْ أَجْوَاء هَذَا اَلْبَلَد تُرِيدُونَ أَنْ تَبْرُز نِسَاؤُكُمْ لِرِجَالِكُمْ ?
أَفِي جَوّ اَلْمُتَعَلِّمِينَ وَفِيهِمْ مَنْ سُئِلَ مَرَّة لِمَ لَمْ يَتَزَوَّج فَأَجَابَ نِسَاء اَلْبَلَد جَمِيعًا
نِسَائِيّ .
أَمْ فِي جَوّ اَلطَّلَبَة وَفِيهِمْ مَنْ يَتَوَارَى عَنْ أَعْيُن خُلَّانه وأتربه وَخَجَلًا أَنْ خَلَتْ
مَحْفَظَته يَوْمًا مِنْ اَلْأَيَّام مَنْ صُوَر عَشِيقَاته وَخَلِيلَاته أَوْ أقفزت مِنْ رَسَائِل اَلْحُبّ
وَالْغَرَام ?
أَمْ فِي جَوّ اَلرُّعَاع وَالْغَوْغَاء وَكَثِير مِنْهُمْ يَدْخُل اَلْبَيْت خَادِمًا ذَلِيلًا وَيَخْرُج مِنْهُ
صِهْرًا كَرِيمًا ?
وَبَعْد فَمَا هَذَا اَلْوَلَع بِقِصَّة اَلْمَرْأَة والتمطق بِحَدِيثِهَا وَالْقِيَام وَالْقُعُود بِأَمْرِهَا
وَأَمْر حِجَابهَا وَسُفُورهَا وَحُرِّيَّتهَا وَأَسْرَارهَا كَأَنَّمَا قَدْ قُمْتُمْ بِكُلّ وَاجِب لِلْأُمَّةِ
عَلَيْكُمْ فِي أَنْفُسكُمْ فَلَمْ يَبْقَ الا أَنْ تُفِيضُوا مِنْ تِلْكَ اَلنِّعَم عَلَى غَيْركُمْ .
بِالْإِغْوَاءِ رِجَالكُمْ قَبْل أَنْ تُهَذِّبُوا نِسَاءَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ اَلرِّجَال فَأَنْتُمْ عَنْ اَلنِّسَاء
أَعْجَز .
أَبْوَاب اَلْفَخْر أَمَامكُمْ كَثِيرَة فَاطْرُقُوا أَيُّهَا شئم وَدَعُوا هَذَا اَلْبَاب موصودا فَإِنَّكُمْ
إِنْ فَتَحْتُمُوهُ فَتَحْتُمْ عَلَى أَنْفُسكُمْ وَيْلًا عَظِيمًا وَشَقَاء طَوِيلًا .
أَرَوْنِي رَجُلًا وَاحِدًا مِنْكُمْ يَسْتَطِيع أَنْ يَزْعُم فِي نَفْسه أَنَّهُ يَمْتَلِك هَوَاهُ بَيْن يَدَيْ
اِمْرَأَة يَرْضَاهَا فَأُصَدِّق أَنَّ اِمْرَأَة تَسْتَطِيع أَنْ تَمْلِك هَوَاهَا بَيْن يَدَيْ رَجُل تَرْضَاهُ .
إِنَّكُمْ تُكَلِّفُونَ اَلْمَرْأَة مَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ تَعْجِزُونَ عَنْهُ وَتَطْلُبُونَ عِنْدهَا مَالًا
تَعْرِفُونَهُ عِنْد أَنْفُسكُمْ فَأَنْتُمْ تُخَاطِرُونَ بِهَا فِي مَعْرَكَة اَلْحَيَاة مُخَاطَرَة لَا تَعْلَمُونَ
بِالْإِغْوَاءِ مِنْ بَعْدهَا أَمْ تَخْسَرُونَهَا وَمَا أَحْسَبكُمْ إِلَّا خَاسِرِينَ .
مَا شَكَتْ اَلْمَرْأَة إِلَيْكُمْ ظُلْمًا وَلَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْكُمْ فِي أَنْ تَحِلُّوا قَيْدهَا وَتُطْلِقُوهَا مَنْ
اسرها فَمَا دُخُولكُمْ بَيْنهَا وَبَيْن نَفْسهَا ?
وَمَا تمضغكم لَيْلكُمْ وَنَهَاركُمْ بِقِصَصِهَا وَأَحَادِيثهَا ?
إِنَّهَا لَا تَشْكُو إِلَّا فُضُولكُمْ وَإِسْفَافكُمْ وَمُضَايَقَتكُمْ لَهَا وَوُقُوفكُمْ فِي وَجْههَا وَحَيْثُمَا
سَارَتْ وَأَيْنَمَا خَلَتْ حَتَّى ضَاقَ بِهَا وَجْه اَلْفَضَاء فَلَمْ تُجْدِ لَهَا سَبِيلًا إِلَّا أَنْ تَسْجُن
نَفْسهَا بِنَفْسِهَا فِي بَيْتهَا فَوْق مَا سَجَنَهَا أَهْلهَا مِنْ دُونهَا بَابهَا وأسلبت
أَسْتَارهَا تَبَرُّمًا وَفِرَارًا مِنْ فُضُولكُمْ فوا عَجَبًا لَكُمْ تَسْجُنُونَهَا بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ تَقِفُونَ
عَلَى بَاب سِجْنهَا تُبْكُونَهَا وَتَنْدُبُونَ شَقَاءَهَا !
إِنَّكُمْ لَا تَرْثُونَ لَهَا بَلْ تَرْثُونَ لِأَنْفُسِكُمْ وَلَا تَبْكُونَ عَلَيْهَا بَلْ عَلَى أَيَّام
قَضَيْتُمُوهَا فِي دِيَار يَسِيل جَوّهَا تَبَرُّجًا وَسُفُورًا وَيَتَدَفَّق خَلَاعَة وَاسْتِهْتَارًا وَتَوَدُّونَ
بجدع اَلْأَنْف لَوْ ظَفِرْتُمْ هُنَا بِذَلِكَ اَلْعَيْش اَلَّذِي خَلَقْتُمُوهُ هُنَاكَ .
لَقَدْ كُنَّا وَكَانَتْ اَلْعِفَّة فِي سِقَاء مِنْ اَلْحِجَاب موكوء فَمَا زِلْتُمْ بِهِ تَثْقُبُونَ فِي
جَوَانِبه كُلّ يَوْم ثَقْبًا وَالْعِفَّة تَسَلُّل مِنْهُ قَطْرَة قَطْرَة حَتَّى تَقْبِض وتكرش ثُمَّ لَمْ
يُكَلِّفكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى جِئْتُمْ اَلْيَوْم تُرِيدُونَ أَنْ تَحِلُّوا وكاءه حَتَّى لَا تُبْقِي فِيهِ
قَطْرَة وَاحِدَة .
عَاشَتْ اَلْمَرْأَة اَلْمِصْرِيَّة حِقْبَة مِنْ دَهْرهَا هَادِئَة مُطَمْئِنَة فِي بَيْتهَا رَاضِيَة عَنْ
نَفْسهَا وَعَنْ عِيشَتهَا تَرَى اَلسَّعَادَة كُلّ اَلسَّعَادَة فِي وَاجِب تُؤَدِّيه لِنَفْسِهَا أَوْ وَقُفَّة
تُقَفِّهَا بَيْن يَدَيْ رَبّهَا أَوْ عطفة تَعَطُّفهَا عَلَى وَلَدهَا أَوْ جَلْسَة تُجْلِسهَا إِلَى جَارَتهَا
تَبُثّهَا ذَات نَفْسهَا وتستبثها سَرِيرَة قَلْبهَا وَتَرَى اَلشَّرَف كُلّ اَلشَّرَف فِي خُضُوعهَا
لِأَبِيهَا وائتمارها بِأَمْر زَوْجهَا وَنُزُولهَا عِنْد رِضَاهُمَا وَكَانَتْ تَفْهَم مَعْنَى اَلْحُبّ
وَتَجْهَل مَعْنَى اَلْغَرَام فَتُحِبّ زَوْجهَا لِأَنَّهُ زَوَّجَهَا كَمَا تُحِبّ وَلَدهَا لِأَنَّهُ وَلَدهَا فَإِنْ
رَأَى غَيْرهَا مِنْ اَلنِّسَاء أَنَّ اَلْحُبّ أَسَاس اَلزَّوَاج رَأَتْ هِيَ أَنَّ اَلزَّوَاج أَسَاس اَلْحُبّ
فَقُلْتُمْ لَهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ يَسْتَبِدُّونَ بِأَمْرِك مَنْ أَهْلك لَيْسُوا بِأَوْفَر مِنْك عَقْلًا
وَلَا أَفْضَل رَأْيًا وَلَا أَقْدِر عَلَى اَلنَّظَر لَك مِنْ نَظَرك لِنَفْسِك فَلَا حَقّ لَهُمْ فِي هَذَا
اَلسُّلْطَان اَلَّذِي يَزْعُمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَيْك بِالْإِغْوَاءِ أَبَاهَا وَتَمَرَّدَتْ عَلَى زَوْجهَا وَأَصْبَحَ
اَلْبَيْت اَلَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ عُرْسًا مِنْ اَلْأَعْرَاس اَلضَّاحِكَة مَنَاحَة قَائِمَة لَا تَهْدَأ
نَارهَا وَلَا يَخْبُو أُوَارِهَا .
وَقُلْتُمْ لَهَا لَا بُدّ لَك أَنْ تَخْتَارِي زَوْجك بِنَفْسِك حَتَّى لَا يَخْدَعك أَهْلك عَنْ سَعَادَة
مُسْتَقْبَلك فَاخْتَارَتْ لِنَفْسِهَا أَسْوَأ مِمَّا اِخْتَارَ لَهَا أَهْلهَا فَلَمْ يَزِدْ عُمْر سَعَادَتهَا
عَلَى يَوْم وَلَيْلَة ثُمَّ اَلشَّقَاء اَلطَّوِيل بَعْد ذَلِكَ اَلْعَذَاب اَلْأَلِيم .
وَقُلْتُمْ لَهَا إِنَّ اَلْحُبّ أَسَاس اَلزَّوَاج فَمَا زَالَتْ تَقْلِب عَيْنهَا فِي وُجُوه اَلرِّجَال مُصَعِّدَة
مُصَوِّبَة حَتَّى شَغَلَهَا اَلْحُبّ عَنْ اَلزَّوَاج فَعَنَيْت بِهِ عَنْهُ .
وَقُلْتُمْ لَهَا إِنَّ سَعَادَة اَلْمَرْأَة فِي حَيَاتهَا أَنْ يَكُون زَوْجهَا عَشِيقهَا وَمَا كَانَتْ تَعْرِف
إِلَّا أَنَّ اَلزَّوَاج غَيْر اَلْعَشِيق فَأَصْبَحَتْ تَطْلُب فِي كُلّ يَوْم زَوْجًا جَدِيدًا يَحْيَ مِنْ لَوْعَة
اَلْحُبّ مَا أَمَاتَ اَلزَّوْج اَلْقَدِيم فَلَا قَدِيمًا اِسْتَبْقَتْ وَلَا جَدِيدًا أَفَادَتْ .
وَقُلْتُمْ لَهَا لَا بُدّ أَنْ تَتَعَلَّمِي لِتُحْسِنِي تَرْبِيَة وَلَدك وَالْقِيَام عَلَى شُؤُون بَيْتك
فَتَعَلَّمَتْ كُلّ شَيْء إِلَّا تَرْبِيَة وَلَدهَا وَالْقِيَام عَلَى شُؤُون بَيْتهَا .
وَقُلْتُمْ لَهَا نَحْنُ لَا نَتَزَوَّج مِنْ اَلنِّسَاء إِلَّا مِنْ نُحِبّهَا وَنَرْضَاهَا ويرئم ذَوْقهَا
ذَوْقنَا وَشُعُورنَا شُعُورنَا فَرَأَتْ أَنَّ لَابُدَّ لَهَا أَنَّ تَعَرُّف مَوَاقِع بِالْإِغْوَاءِ وَمَبَاهِج
أَنْظَاركُمْ لِتَتَجَمَّل لَكُمْ بِمَا تُحِبُّونَ فَرَاجَعَتْ فِهْرِس حَيَاتكُمْ صَفْحَة صَفْحَة فَلَمْ تُرِ فِيهِ
غَيْر أَسْمَاء بِالْإِغْوَاءِ اَلْمُسْتَهْتِرَات وَالضَّاحِكَات اَللَّاعِبَات وَالْإِعْجَاب بِهِنَّ وَالثَّنَاء
عَلَى ذَكَائِهِنَّ وَفِطْنَتهنَّ فتخلعت وَاسْتَهْتَرَتْ لِتَبْلُغ رِضَاكُمْ وَتُنْزِل عِنْد مَحَبَّتكُمْ ثُمَّ مَشَتْ
إِلَيْكُمْ بِهَذَا اَلثَّوْب اَلرَّقِيق اَلشَّفَّاف تَعْرِض نَفْسهَا عَلَيْكُمْ عَرْضًا كَمَا تَعْرِض اَلْأُمَّة
نَفْسهَا فِي سُوق اَلرَّقِيق فَأَعْرَضْتُمْ عَنْهَا ونبوتم بِهَا وَقُلْتُمْ لَهَا إِنَّا لَا نَتَزَوَّج
اَلنِّسَاء اَلْعَاهِرَات كَأَنَّكُمْ لَا تُبَالُونَ أَنْ يَكُون نِسَاء اَلْأُمَّة جَمِيعًا سَاقِطَات إِذَا
سَلَّمَتْ لَكُمْ نِسَاؤُكُمْ فَرَجَعَتْ أَدْرَاجهَا خَائِبَة مُنْكَسِرَة وَقَدْ أَبَاهَا اَلْخَلِيع وَتَرَفُّع عَنْهَا
اَلْمُحْتَشِم فَلَمْ تَجِد بَيْن يَدَيْهَا غَيْر بَاب اَلسُّقُوط فَسَقَطَتْ .
وَكَذَلِكَ اِنْتَشَرَتْ اَلرِّيبَة فِي نُفُوس اَلْأَمَة جَمِيعًا وَتَمَشَّتْ اَلظُّنُون بَيْن رِجَالهَا
وَنِسَائِهَا فتعاجز اَلْفَرِيقَانِ وَأَظْلَمَ اَلْفَضَاء بَيْنهمَا وَأَصْبَحَتْ اَلْبُيُوت كَالْأَدْيِرَةِ لَا
يَرَى فِيهَا الردائي إِلَّا رِجَالًا مترهبين وَنِسَاء عَانِسَات .
ذَلِكَ بُكَاؤُكُمْ عَلَى اَلْمَرْأَة أَيُّهَا اَلرَّاحِمُونَ وَهَذَا رِثَاءَكُمْ لَهَا وَعَطْفكُمْ عَلَيْهَا !
نَحْنُ نَعْلَم كَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ اَلْمَرْأَة فِي حَاجَة إِلَى اَلْعِلْم فَلْيُهَذِّبْهَا أَبُوهَا أَوْ
أَخُوهَا فَالتَّهْذِيب أَنْفَع لَهَا مِنْ اَلْعِلْم وَإِلَى اِخْتِيَار اَلزَّوْج اَلْعَادِل اَلرَّحِيم
فَلْيُحْسِنْ اَلْآبَاء اِخْتِيَار اَلْأَزْوَاج لِبَنَاتِهِمْ وَلِيَجْمُل اَلْأَزْوَاج عِشْرَة نِسَائِهِمْ وَإِلَى
اَلنُّور وَالْهَوَاء تَبْرُز إِلَيْهِمَا وَتَتَمَتَّع فِيهِمَا بِنِعْمَة اَلْحَيَاة فَلْيَأْذَنْ لَهَا
أَوْلِيَاؤُهَا بِذَلِكَ وَلِيُرَافِقهَا رَفِيق مِنْهُمْ فِي غدواتها وروحاتها كَمَا يُرَافِق اَلشَّاة
رَاعِيهَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ اَلذِّئَاب فَإِنَّ عَجْزنَا عَنْ أَنْ نَأْخُذ اَلْآبَاء وَالْإِخْوَة
وَالْأَزْوَاج بِذَلِكَ فَلْنَنْفُضْ أَيْدِينَا مِنْ اَلْأُمَّة جَمِيعهَا عَلَى إِصْلَاحهَا .
أَعْجَبَ مَا جُبّ لَهُ فِي شُؤُونكُمْ أَنَّكُمْ تَعَلَّمْتُمْ كُلّ شَيْء إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا هُوَ أَدْنَى إِلَى
بِالْإِغْوَاءِ أَنْ تُعَلِّمُوهُ قَبْل كُلّ شَيْء وَهُوَ أَنَّ لِكُلّ تُرْبَة نَبَاتًا يُنْبِت فِيهَا وَلِكُلّ
نَبَات زَمَنًا يَنْمُو فِيهِ !
رَأَيْتُمْ اَلْعُلَمَاء فِي أُورُوبَّا يَشْتَغِلُونَ بِكَمَالِيَّات اَلْعُلُوم بَيْن أَهَمّ قَدْ فَرَغَتْ مِنْ
ضَرُورِيَّاتهمْ فَاشْتَغَلْتُمْ بِهَا مَثَلهمْ فِي أُمَّة لَا يَزَال سَوَادهَا اَلْأَعْظَم فِي حَاجَة إِلَى
مَعْرِفَة حُرُوف اَلْهِجَاء .
يتــــــبع
تمت
مُصْطَفَى لُطْفِيّ اَلْمَنْفَلُوطِيّ
وَهِيَ مَجْمُوعَة رِوَايَات قَصِيرَة بَعْضًا مَوْضُوع وَبَعْضًا مُتَرْجَم
إِهْدَاء
اَلْأَشْقِيَاء فِي اَلدُّنْيَا كَثِير وَلَيْسَ فِي اِسْتِطَاعَة بَائِس مِثْلِي أَنْ يَمْحُو شَيْئًا
مِنْ بُؤْسهمْ وَشَقَائِهِمْ فَلَا أَقَلّ مِنْ أَنْ أَسْكُب بَيْن أَيْدِيهمْ هَذِهِ اَلْعَبَرَات , عَلَّهمْ
يَجِدُونَ فِي بُكَائِي عَلَيْهِمْ تَعْزِيَة وَسَلْوَى ,
مُصْطَفَى لُطْفِيّ اَلْمَنْفَلُوطِيّ
*****************
اَلْيَتِيم
" مَوْضُوعَة "
سَكَن اَلْغُرْفَة اَلْعُلْيَا أَوْ اَلْوُسْطَى فِي مِصْر فَقَدْ كُنْت أَرَاهُ مِنْ نَافِذَة غُرْفَة مَكْتَبِي
وَكَانَتْ عَلَى كَثَب مِنْ بَعْض نَوَافِذ غُرْفَته فَأَرَى أَمَامِيّ فَتَى شَاحِبًا نَحِيلًا مُنْقَبِضًا
جَالِسًا إِلَى مِصْبَاح مِنْبَر فِي إِحْدَى زَوَايَا اَلْغُرْفَة يَنْظُر فِي كِتَاب أَوْ يَكْتُب فِي دَفْتَر
أَوْ يَسْتَظْهِر قِطْعَة أَوْ يُعِيد دَرْسًا فَلَمْ أَكُنْ أَحْفُل بِشَيْء مِنْ أَمْره حَتَّى عُدْت إِلَى
مَنْزِلِي مُنْذُ أَيَّام بَعْد مُنْتَصَف لَيْلَة قُرَّة مِنْ لَيَالِي اَلشِّتَاء فَدَخَلَتْ غُرْفَة مَكْتَبِي
لِبَعْض اَلشُّؤُون فَأَشْرَقَتْ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالَسَ جَلْسَته تِلْكَ أَمَام مُصَاحِبه وَقَدْ أَكُبَّ
بِوَجْهِهِ عَلَى دَفْتَر مَنْشُور بَيْن يَدَيْهِ عَلَى مَكْتَبه فَظَنَنْت أَنَّهُ لَمَّا أَلَمَّ بِهِ مِنْ تَعَب
اَلدَّرْس وَآلَام اَلسَّهَر قَدْ عُبِّئَتْ بِجَفْنَيْهِ سِنَة مِنْ اَلنَّوْم فأعجلته مِنْ اَلذَّهَاب إِلَى
فَرَّاشه وَسَقَطَتْ بِهِ مَكَانه فَمَا رَمَتْ مَكَانِي حَتَّى رَفْع رَأْسه فَإِذَا عَيَّنَّاهُ مخصلتان مِنْ
اَلْبُكَاء وَإِذَا صَفْحَة دَفْتَره اَلَّتِي كَانَ مُكِبًّا عَلَيْهَا قَدْ جَرَى دَمْعه فَوْقهَا فَمَحَا مِنْ
كَلِمَاتهَا مَا مَحَا وَمَشَى بِبَعْض مِدَادهَا إِلَى بَعْض ثُمَّ لَمْ يَلْبَث أَنْ عَادَ إِلَى نَفْسه
فَتَنَاوَلَ قَلَّمَهُ وَرَجَعَ إِلَى شَأْنه اَلَّذِي كَانَ فِيهِ .
فَأَحْزَنَنِي أَنْ أَرَى فِي ظُلْمَة ذَلِكَ اَللَّيْل وَسُكُونه هَذَا اَلْفَتَى اَلْبَائِس اَلْمِسْكِين
مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ فِي غُرْفَة عَارِيَة بَارِدَة لَا يَتَّقِي فِيهَا عَادِيَّة اَلْبَرْد بِدِثَار وَلَا
نَار يَشْكُو هُمَا مِنْ هُمُوم اَلْحَيَاة أَوْ رزء مِنْ أرزائها قَبْل أَنْ يُبَلِّغ سِنّ اَلْهُمُوم
وَالْأَحْزَان مِنْ حَيْثُ لَا يُجْدِ بِجَانِبِهِ مُوَاسِيًا وَلَا مُعِينًا وَقُلْت لَابُدَّ أَنْ يَكُون وَرَاء
هَذَا اَلْمَنْظَر الضارع اَلشَّاحِب نَفْس قَرِيحَة مُعَذَّبَة تَذُوب بَيْن أَضْلَاعه ذَوَّبَا فَيَتَهَافَت
لَهَا جِسْمه تَهَافُت اَلْخِبَاء اَلْمُقَوِّض فَلَمْ أَزَلْ وَاقِفًا مَكَانِي لَا أَبرحهُ حَتَّى رَأَيْته قَدْ
طَوَى كِتَابه وَفَارِق مَجْلِسه وَأَوَى إِلَى فِرَاشه فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَخْدَعِي وَقَدْ مَضَى اَللَّيْل
إِلَّا أُقِلّهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ سَوَاده فِي صَفْحَة هَذَا اَلْوُجُود إِلَّا بَقَايَا أَسْطُر يُوشِك أَنْ
يَمْتَدّ إِلَيْهَا لِسَان اَلصَّبَاح فَيَأْتِي عَلَيْهَا :
ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرَاهُ بَعْد ذَلِكَ فِي كَثِير مِنْ اَللَّيَالِي إِمَّا بَاكِيًا أَوْ مُطْرِقًا أَوْ ضَارِبًا
بِرَأْسه عَلَى صَدْره أَوْ مُنْطَوِيًا عَلَى نَفْسه فِي فِرَاشه يَئِنّ أَنِين الوالهة اَلثَّكْلَى أَوْ
هَائِمًا فِي غُرْفَته يذرع أَرْضهَا وَيَمْسَح جُدْرَانهَا حَتَّى إِذَا نَالَ مِنْهُ اَلْجُهْد سَقَطَ عَلَى
كرسية بَاكِيًا مُنْتَحِبًا فَأَتَوَجَّع لَهُ وَأَبْكَى لِبُكَائِهِ وَأَتَمَنَّى لَوْ اِسْتَطَعْت أَنْ أُدْخِلهُ
مداخلة اَلصَّدِيق لِصَدِيقِهِ وأستبثه ذَات نَفْسه وأشركه فِي هَمّه لَوْلَا أَنَّنِي كَرِهْت أَنَّ
بِالْإِغْوَاءِ بِمَا لَا يُحِبّ وَأَنْ أَهْجُم مِنْهُ عَلَى سِرّ رُبَّمَا كَانَ يُؤْثِر اَلْإِبْقَاء عَلَيْهِ فِي
صَدْره وَأَنْ يكاتمه اَلنَّاس جَمِيعًا حَتَّى أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ لَيْلَة أَمْس بَعْد هَدْأَة مِنْ اَللَّيْل
فَرَأَيْت غُرْفَته مُظْلِمَة سَاكِنَة فَظَنَنْت أَنَّهُ خَرَجَ لِبَعْض شَأْنه ثُمَّ لَمْ أَلْبَث أَنْ سَمِعَتْ فِي
جَوْف اَلْغُرْفَة أَنَّهُ ضَعِيفَة مُسْتَطِيلَة فَأَزْعَجَنِي مُسْمِعهَا وَخَيَّلَ إِلَيَّ وَهِيَ صَادِرَة مِنْ
أَعْمَاق نَفْسه كَأَنَّنِي أَسْمَع رَنِينهَا فِي أَعْمَاق قَلْبِي وَقُلْت إِنَّ اَلْفَتَى مَرِيض وَلَا يُوجَد
بِجَانِبِهِ مَنْ يَقُوم بِشَأْنِهِ وَقَدْ بَلَغَ اَلْأَمْر مَبْلَغ اَلْجَدّ بُدّ لِي مِنْ اَلْمَصِير إِلَيْهِ
فَتَقَدَّمَتْ إِلَى خَادِمِي أَنْ يَتَقَدَّمنِي بِمِصْبَاح حَتَّى بَلَغَتْ مَنْزِله وَصَعِدَتْ إِلَى بَاب غُرْفَته
فَأَدْرَكَنِي مِنْ الوحضة عِنْد دُخُولهَا مَا يُدْرِك اَلْوَاقِف عَلَى بَاب قَبْر يُحَاوِل أَنْ يَهْبِطهُ
لِيُوَدِّع سَاكِنه اَلْوَدَاع اَلْأَخِير ثُمَّ دَخَلَتْ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ عِنْدَمَا أَحَسَّ بِي وَكَأَنَّمَا كَانَ
ذاهلا أَوْ مُسْتَغْرِقًا فَأَدْهَشَهُ أَنْ يَرَى بَيْن يَدَيْهِ مِصْبَاحًا ضَئِيلًا وَرَجُلًا لَا يَعْرِفهُ
فَلَبِثَ شَاخِصًا إِلَى هُنَيْهَة لَا يَنْطِق وَلَا يَطْرِف فَاقْتَرَبَتْ مِنْ فَرَّاشه وَجَلَسَتْ بِجَانِبِهِ
وَقُلْت أَنَا جَارك اَلْقَاطِن هَذَا اَلْمَنْزِل وَقَدْ سَمِعْتُك اَلسَّاعَة تُعَالِج أَمْرك فَجِئْتُك عَلَنِيّ
أَسْتَطِيع أَنْ أَكُون لَك عَوْنًا عَلَى شَأْنك فَهَلْ أَنْتَ مَرِيض ? فَرَفَعَ يَده بِبُطْء وَوَضْعهَا
عَلَى جَبْهَته فَوَضَعَتْ يَدَيْ حَيْثُ وَضَعَهَا فَشَعَرَتْ بِرَأْسِهِ يَلْتَهِب اِلْتِهَابًا فَعَلِمَتْ أَنَّهُ
مَحْمُوم ثُمَّ أَمْرَرْت نَظَرِيّ عَلَى جِسْمه فَإِذَا خَيَال سَارّ لَا يَكَاد يَتَبَيَّنهُ رائيه وَإِذَا
قَمِيص فَضْفَاض مِنْ اَلْجِلْد يَمُوج فِيهِ بَدَنه مَوْجًا فَأَمَرَتْ اَلْخَادِم أَنْ يَأْتِينِي بِشَرَاب
كَانَ عِنْدِي مِنْ أشربة اَلْحُمَّى فَجَرَّعَتْهُ مِنْهُ بِضْع قَطَرَات فاستفاق قَلِيلًا وَنَظَر إِلَى
نَظْرَة عَذْبَة صَافِيَة وَقَالَ شُكْرًا لَك فَقُلْت مَا شَكَّاتك أَيُّهَا اَلْأَخ قَالَ لَا أَشْكُو شَيْئًا
فَقُلْت فَهَلْ مَرَّ بِك زَمَن طَوِيل عَلَى حَالك هَذِهِ قَالَ لَا أُعَلِّم قُلْت أَنْتَ فِي حَاجَة إِلَى
اَلطَّبِيب فَهَلْ تَأْذَن لِي أَنْ أَدْعُوهُ إِلَيْك لِيَنْظُر فِي أَمْرك فَتَنَهَّدَ طَوِيلًا وَنَظَرَ إِلَى
نَظْرَة دَامِعَة وَقَالَ إِنَّمَا يَبْغِي اَلطَّبِيب مَنْ يُؤَثِّر اَلْحَيَاة عَلَى اَلْمَوْت ثُمَّ أَغْمَضَ
عَيْنَيْهِ وَعَاد إِلَى ذُهُوله وَاسْتِغْرَاقه فَلَمْ أَجِد بُدًّا مِنْ دُعَاء اَلطَّبِيب رَضِيَ أَمْ أَبِي
فَدَعَوْته فَجَاءَ مُتَأَفِّفًا مُتَذَمِّرًا يَشْكُو مِنْ حَيْثُ يَعْلَم أَنِّي أَسْمَع شَكْوَاهُ إِزْعَاجه مِنْ
مَرْقَده وتجشيمه خَوْض اَلْأَزِقَّة اَلْمُظْلِمَة فِي اَللَّيَالِي اَلْبَارِدَة فَلَمْ أَحْفُل بِتَعْرِيضِهِ
لِأَنَّنِي أَعْلَم طَرِيق اَلِاعْتِذَار إِلَيْهِ فَجَسَّ نَبْض اَلْمَرِيض وَهَمْس فِي أُذُنِي قَائِلًا إِنَّ
عَلِيلك يَا سَيِّدَيْ مُشْرِف عَلَى اَلْخَطَر وَلَا أَحْسَب أَنَّ حَيَاته تُطَوَّل كَثِيرًا إِلَّا إِذَا كَانَ
فِي عِلْم اَللَّه مَا لَا نُعَلِّم وَجَلَسَ نَاحِيَة يَكْتُب ذَلِكَ اَلْأَمْر اَلَّذِي يُصَدِّرهُ اَلْأَطِبَّاء
إِلَى عُمَّالهمْ الصيادلة أَنْ يَتَقَاضَوْا مِنْ عَبِيدهمْ اَلْمَرْضَى ضَرِيبَة اَلْحَيَاة ثُمَّ أَنْصَرِف
لِشَأْنِهِ بَعْد مَا اِعْتَذَرَتْ إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلِاعْتِذَار اَلَّذِي يُؤْثِرهُ وَيَرْضَاهُ فَأَحْضَرْت اَلدَّوَاء
وَقَضَيْت بِجَانِب اَلْمَرِيض لَيْلَة لَيْلَاء ذاهلة اَلنَّجْم بَعِيدَة مَا بَيْن اَلطَّرَفَيْنِ أَسْقِيه
اَلدَّوَاء مَرَّة وَأَبْكَى عَلَيْهِ أُخْرَى حَتَّى اِنْبَثَقَ نُور اَلْفَجْر فاستفاق وَدَار بِعَيْنِهِ حَوْل
فِرَاشه حَتَّى رَآنِي فَقَالَ :
أَنْتَ هُنَا ? قَلَّتْ نِعَم وَأَرْجُو أَنْ تَكُون أَحْسَن حَالًا مِنْ ذِي قَبْل قَالَ أَرْجُو أَنْ أَكُون
كَذَلِكَ قُلْت هَلْ تَأْذَن لِي يَا سَيِّدِي أَنْ أَسْأَلك مَنْ أَنْتَ وَمَا مَقَامك وَحْدك فِي هَا
اَلْمَكَان وَهَلْ أَنْتَ غَرِيب فِي هَذَا اَلْبَلَد أَوْ أَنْتَ مِنْ أَهِّلِيهِ وَهَلْ تَشْكُو دَاء ظَاهِرًا أَوْ
هَمًّا بَاطِنًا قَالَ أَشْكُوهُمَا مَعًا قُلْت فَهَلْ لَك أَنْ تُحَدِّثنِي بِشَأْنِك وتفضى إِلَى بِهَمِّك
كَمَا يُفْضِي اَلصَّدِيق إِلَى صَدِيقه فَقَدْ أَصْبَحَتْ مَعْنِيًّا بِأَمْرِك عِنَايَتك بِنَفْسِك ? قَالَ هَلْ
تُعِذْنِي بِكِتْمَان أَمْرِي إِنَّ قِسْم اَللَّه لِي اَلْحَيَاة وَبِإِمْضَاء وَصِيَّتِي إِنْ كَانَتْ اَلْأُخْرَى ?
قُلْت نَعَمْ قَالَ قَدْ وَثِقَتْ بِوَعْدِك فَانٍ مَنْ يَحْمِل فِي صَدْره قَلَّبَا شَرِيفًا مِثْل قَلْبك لَا
يَكُون كَاذِبًا وَلَا غَادِرًا .
أَنَا فُلَان بْن فُلَان مَاتَ أَبِي مُنْذُ عَهْد بَعِيد وَتَرَكَنِي فِي اَلسَّادِسَة مِنْ عُمْرِي مُعْدَمًا
لَا أَمْلِك مِنْ مَتَاع اَلدُّنْيَا شَيْئًا فَكَلَّفَنِي عَمَّيْ فُلَان فَكَانَ خَيْر اَلْأَعْمَام وَأَكْرَمهمْ
وَأَوْسَعهمْ بِرًّا وَإِحْسَانًا وَأَكْثَرهمْ عَطْفًا وَحَنَانًا فَقَدْ أَنْزَلَنِي مِنْ نَفْسه مَنْزِلَة لَمْ
يَنْزِلهَا أَحَدًا مِنْ قَبْلِي غَيْر اِبْنَته اَلصَّغِيرَة وَكَانَتْ فِي عُمْرِي أَوْ أَصْغَر مِنِّي قَلِيلًا
وَكَأَنَّمَا سَرَّهُ أَنْ يَرَى لَهَا بِجَانِبِهَا أَخَا بَعْد مَا تَمَنَّى عَلَى اَللَّه ذَلِكَ زَمَنًا طَوِيلًا
فَلَمْ يُدْرِك أُمْنِيَته فَعَنِّي بِي عِنَايَته بِهَا وَأَدْخَلْنَا اَلْمُدَرِّسَة فِي يَوْم وَاحِد فَأَنِسَتْ
بِهَا أُنْس اَلْأَخ بِأُخْته وَأَحْبَبْتهَا حُبًّا شَدِيدًا وَوَجَدْت فِي عَشَرَتهَا مِنْ اَلسَّعَادَة
وَالْغِبْطَة مَا ذَهَبَ بِتِلْكَ اَلْغَضَاضَة اَلَّتِي كَانَتْ لَا تَزَال تُعَاوِد نَفْسِيّ بَعْد فَقْد أَبَوِيّ
مِنْ حِين إِلَى حِين فَكَّانِ لَا يَرَانَا الرائي إِلَّا ذَاهِبِينَ إِلَى اَلْمَدْرَسَة أَوْ عَائِدِينَ
مِنْهَا أَوْ لَاعِبِينَ فِي فَنَاء اَلْمَنْزِل أَوْ مرتاضين فِي حَدِيقَته أَوْ مُجْتَمَعَيْنِ فِي غُرْفَة
اَلْمُذَاكَرَة أَوْ مُتَحَدِّثِينَ فِي غُرْفَة اَلنَّوْم حَتَّى جَاءَ يَوْم حِجَابهَا فَلَزِمَتْ خِدْرهَا
وَاسْتَمَرَّتْ فِي دِرَاسَتِي .
وَلَقَدْ عَقَدَ اَلْوِدّ قَلِّبِي وَقَلْبهَا عَقْدًا لَا يُحِلّهُ إِلَّا رَيْب اَلْمَنُون فَكُنْت لَا أَرَى لَذَّة
اَلْعَيْش إِلَّا بِجِوَارِهَا وَلَا أَرَى نُور اَلسَّعَادَة إِلَّا فِي فَجْر اِبْتِسَامَتهَا وَلَا أُؤَثِّر
عَلَى سَاعَة أقضيتها بِجَانِبِهَا جَمِيع لَذَّات اَلْعَيْش ومسرات اَلْحَيَاة وَمَا كُنْت أَشَاء أَنْ
أَرَى خَصْلَة مِنْ خِصَال اَلْخَيْر فِي فَتَاة مِنْ أَدَب أَوْ ذَكَاء أَوْ حُلْم أَوْ رَحْمَة أَوْ عِفَّة أَوْ
شَرَف أَوْ وَفَاء إِلَّا وَجَدَتْهَا فِيهَا .
وَأَنِّي أَسْتَطِيع وَأَنَا فِي اَلظُّلْمَة اَلْحَالِكَة مِنْ اَلْهُمُوم وَالْأَحْزَان أَنْ أَرَى عَلَى اَلْبُعْد
تِلْكَ اَلْأَجْنِحَة اَلنُّورَانِيَّة اَلْبَيْضَاء مِنْ اَلسَّعَادَة اَلَّتِي كَانَتْ تُظَلِّلنَا مَعًا أَيَّام
طُفُولَتنَا فَتُشْرِق لَهَا نَفْسَانَا إِشْرَاق الراح فِي كَأْسهَا وَأَنْ أَرَى تِلْكَ اَلْحَدِيقَة
اَلْغَنَّاء اَلَّتِي كَانَتْ مراح لَذَّاتنَا وَمَسْرَح آمَالنَا وَأَحْلَامنَا كَأَنَّهَا حَاضِرَة بَيْن يَدِي
أَرَى لألاء مَائِهَا وَلَمَعَان حَصْبَائِهَا وأقانين أَشْجَارهَا وَأَلْوَان أَزْهَارهَا تِلْكَ
اَلْقَاعِدَة اَلْحَجَرِيَّة اَلَّتِي كُنَّا نقتعدها مِنْهَا طَرَفَيْ اَلنَّهَار فَنَجْتَمِع عَلَى حَدِيث
نَتَجَاذَبهُ أو طاقة تُؤَلِّف بَيْن أَزْهَارهَا أَوْ كِتَاب نُقَلِّب صَفَحَاته أَوْ رَسْم نَتَبَارَى فِي
إِتْقَانه وَتِلْكَ الخمائل اَلْخَضْرَاء اَلَّتِي كُنَّا نَلْجَأ إِلَى ظِلَالهَا كُلَّمَا فَرَغْنَا مِنْ شَوْط
مِنْ أَشْوَاط اَلْمُسَابَقَة فَتَشْعُر بِمَا تَشْعُر بِهِ أَفْرَاح اَلطُّيُور اَللَّاجِئَة إِلَى أَحْضَان
أُمَّهَاتهَا وَتِلْكَ الحفائر اَلصَّغِيرَة اَلَّتِي نحتفرها بِبَعْض اَلْأَعْوَاد عَلَى شَاطِئ
اَلْجَدَاوِل والغدران فَنَمْلَؤُهَا مَاء ثُمَّ نَجْلِس حَوْلهَا لِنَصْطَادَ أَسْمَاكهَا اَلَّتِي
أَلْقَيْنَاهَا فِيهَا بِأَيْدِينَا فَنَطْرَب إِنَّ ظُفْرنَا بِشَيْء مِنْهَا كَأَنَّا قَدْ ظَفِرْنَا بِغَنَم عَظِيم
وَتِلْكَ اَلْأَقْفَاص اَلذَّهَبِيَّة اَلْبَدِيعَة اَلَّتِي كُنَّا نُرَبِّي فِيهَا عصافيرنا وَطُيُورنَا ثُمَّ
نَقْضِي اَلسَّاعَات اَلطِّوَال بِجَانِبِهَا نَعْجَب بِمَنْظَرِهَا وَمَنْظَر مناقيرها اَلْخَضْرَاء وَهِيَ
تحسو اَلْمَاء مَرَّة وَتَلْتَقِط الحب أُخْرَى وَنُنَادِيهَا بِأَسْمَائِهَا اَلَّتِي سَمَّيْنَاهَا بِهَا
فَإِذَا سَمِعْنَا صَفِيرهَا وَتَغْرِيدهَا ظَنًّا أَنَّهَا تُلَبِّي نِدَاءَهَا وَلَا أَعْلَم هَلْ كَانَ مَا كُنْت
أُضْمِرهُ فِي نَفْسِي لِابْنَة عَمِّي وِدًّا وَإِخَاء أَوْ حُبًّا وَغَرَامًا وَلَكِنَّنِي أَعْلَم أَنَّهُ كَانَ
بِلَا أَمَل وَلَا رَجَاء فَمَا قُلْت لَهَا يَوْم إِنِّي أَحَبّهَا لِأَنِّي كُنْت أَضَنّ بِهَا وَهِيَ اِبْنَة
عَمِّي وَرَفِيقَة صِبَايَ أَنْ أَكُون أَوَّل فَاتِح لِهَذَا اَلْجُرْح اَلْأَلِيم فِي قَلْبهَا وَلَا قَدَّرَتْ
فِي نَفْسِي يَوْمًا مِنْ اَلْأَيَّام أَنَّ أَصْل أَسْبَاب حَيَاتِي بِأَسْبَاب حَيَاتهَا لِأَنِّي كُنْت أَعْلَم
أَنَّ أَبَوَيْهَا لَا يَسْخُوَانِ بِمِثْلِهَا عَلَى فَتَى بَائِس فَقِير مِثْلِي وَلَا حَاوَلَتْ فِي سَاعَة مِنْ
اَلسَّاعَات أَنْ أَتُسْقِطُ مِنْهَا مَا يَطْمَع فِي مِثْله اَلْمُحِبُّونَ المتسقطون لِأَنِّي كُنْت أَجْلهَا
عَنْ أَنْ أَنْزَلَ بِهَا إِلَى مِثْل ذَلِكَ وَلَا فَكَّرَتْ يَوْمًا أَنْ أَسْتَشِفّ مِنْ رواء نَظَرَاتهَا
خبيئة نَفْسهَا لِأَعْلَم أَيّ اَلْمَنْزِلَتَيْنِ أَنْزَلَهَا مَنْ قَلْبهَا أمنزلة اَلْأَخ فَأَقْنَع مِنْهَا
بِذَلِكَ أَمْ مَنْزِلَة اَلْحَبِيب فَاسْتُعِينَ بِإِرَادَتِهَا عَلَى إِرَادَة أَبَوَيْهَا ? بَلْ كَانَ حبى
اَلرَّاهِب اَلْمُتَبَتِّل صُورَة اَلْعَذْرَاء اَلْمَائِلَة بَيْن يَدَيْهِ فِي صَوْمَعَته يَعْبُدهَا وَلَا
يَتَطَلَّع إِلَيْهَا .
وَلَمْ يَزَلْ هَذَا شَأْنِي وَشَأْنهَا حَتَّى نَزَلَتْ بِعَمَّيْ نَازِلَة مِنْ اَلْمَرَض لَمْ تُنْشِب أَنْ ذَهَبَتْ
بِهِ إِلَى جِوَار رَبّه وَكَانَ آخَر مَا نَطَقَ بِهِ فِي آخِر سَاعَات حَيَاته أَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ
وَكَانَ يُحْسِن بِهَا ظَنًّا لَقَدْ أعجلني اَلْمَوْت عَنْ اَلنَّظَر فِي شَأْن هَذَا اَلْغُلَام فَكَوْنِي لَهُ
أَمَّا كَمَا كُنْت لَهُ أَبَا وَأُوصِيك أَنْ لَا يَفْقِد مِنِّي بَعْد مَوْتِي إِلَّا شَخْصِي فَمَا مَرَّتْ
أَيَّام اَلْحِدَاد حَتَّى رَأَيْت وُجُوهًا غَيْر اَلْوُجُوه وَنَظَرَات غَيْر اَلنَّظَرَات وَحَالًا غَرِيبَة
لَا عَهْد لِي بِمِثْلِهَا مِنْ قَبْل فَتُدَاخِلنِي اَلْهَمّ وَالْيَأْس وَوَقْع نَفْسِيّ لِلْمَرَّةِ اَلْأُولَى فِي
حَيَاتِي أَنَّنِي قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا اَلْمَنْزِل غَرِيبًا وَفِي هَذَا اَلْعَالَم طَرِيدًا .
فَإِنِّي لَجَالَسَ فِي غُرْفَتِي صَبِيحَة يَوْم إِذْ دَخَلَتْ عَلَيَّ اَلْخَادِم وَكَانَتْ اِمْرَأَة مِنْ اَلنِّسَاء
اَلصَّالِحَات اَلْمُخْلِصَات فَتَقَدَّمَتْ نَحْوِي خجلة مُتَعَثِّرَة وَقَالَتْ قَدْ أَمَرَتْنِي سَيِّدَتِي أَنْ
أَقُول لَك يَا سَيِّدِي إِنَّهَا قَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَزْوِيج أَبَّنَتْهَا فِي عَهْد قَرِيب وَإِنَّهَا تَرَى أَنَّ
بَقَاءَك بِجَانِبِهَا بَعْد مَوْت أَبِيهَا وَبُلُوغكُمَا هَذِهِ اَلسِّنّ اَلَّتِي بَلَّغْتُمَاهَا رُبَّمَا
يُرَبِّيهَا عِنْد خَطِيبهَا وَإِنَّهَا تُرِيد أَنْ تَتَّخِذ لِلزَّوْجَيْنِ مَسْكَنَا هَذَا اَلْجَنَاح اَلَّذِي
تُسَكِّنهُ مِنْ اَلْقَصْر فَهِيَ تُرِيد أَنْ تَتَحَوَّل إِلَى مَنْزِل آخَر تَخْتَارهُ لِنَفْسِك مِنْ بَيْن
مَنَازِلهَا عَلَى أَنْ تَقُوم لَك فِيهِ بِجَمِيع شَأْنك وَكَأَنَّك لَمْ تُفَارِقهَا .
يتبع
*****************
يتبع
يتبع
يتبع
يتبع
انتهت