أهداف الفتوحات الإسلامية 2024

أهداف الفتوحات الإسلامية

د. وهبة الزحيلي

كثيرًا ما تقع الأسرة البشرية فريسة المطامع الشخصية والأهواء المادية، وقد تظل الأمة سنين طويلة تحت أعباء التكاليف القاسية والالتزامات الظالمة، وتمر الأجيال بهذه الحلقة المظلمة من حياتها وتعاني فيها الأمرَّين في سبيل إرضاء المستعبدين وتحقيق مآرب المتغطرسين والمتجبرين. ثم إننا نجد الدورات الاقتصادية والهزات العنيفة التي يتعرض لها العالم بأسره بين حين وآخر، منشؤها غلوّ بعض المستبدين في التحكم بمصائر البشرية، وإدامة التسلط على موارد شعب ضعيف واستغلال خيراته وإنتاجه الطبيعي.
وإذا كانت أساليب الحياة قد تغيرت، فإن الوصول إلى الأهداف السابقة أصبح يتقمص ضمن برود ناعمة، ومظاهر براقة، وإنه لمن العجب العجاب أن يظل بعض الناس مخدوعين بما يقصده أولو الحول والطول من إنشاء الصداقات، وإظهار التودد والتحبب لأشخاص الحكام في بلاد العرب، حتى يتم لهم نقل منتجات البلاد وخيرات الأرض إلى بلادهم في مقابل تعويضات قليلة، وكان الأجدر بهؤلاء أن يسخروا الإنتاج في سبيل إصلاح بلادهم، وأن يقصروا الانتفاع به على مواطنيهم من أمة العرب والإسلام.
وبهذا فإنهم يزيدون -ويا للأسف- في قوة القوي وضعف الضعيف، ولولا تصادم مصالح الدولتين الكبيرتين في العصر الحديث لما تورعت إحداهما عن محاولة بسط نفوذها على العالم وربطه بأغلال التبعية والاستذلال والاستعباد. والتاريخ القريب لحروب الدول الحديثة يشهد بهذه الحقيقة، وهي: أن الباعث عليها كان وما يزال هو حب الإبادة والاستعباد الشخصي أو القومي، أو العداء الديني أو التعصب الأعمى التقليدي، أو سلب ثروات الأمم، أو إشباع لذة القهر والسيطرة والاستعلاء، أو تأمين المصالح الاقتصادية أو دعم المكاسب السياسية أو تحصين القواعد العسكرية أو فتح المجالات الحيوية والأسواق الاقتصادية أمام زحف شعب من الشعوب وتقدمه وارتقائه على حساب الشعوب الأخرى.
فهل في ذلك تحقيق الخير للعالم أو الحفاظ على المدنية والحضارة أو توفير مصالح الناس وإشعارهم بمحبة أعضاء الأسرة العالمية؟ كلا. إذن: ما هو الأمل المرتجى من هذه الحياة؟ وهل أقفرت الدنيا من دعاة الخير والمحبة والإصلاح؟ وهل كان الإسلام في فتوحاته متأثرًا بهذه الأغراض المادية أو ما يسمونه بالاستعمار؟
الواقع أن الإسلام لا يبغي من نشر دعوته في أوساط المعمورة إلا رعاية مصالح البشر، وفتح مغاليق الظلم والجهل والتأخر، ونشر النور والمدنية والتحضر، وليس أكره في الإسلام من قصد الأغراض الدنيوية الحقيرة أو التسابق في مظاهر الغنى والثراء أو التفاخر بمظاهر البذخ والإسراف والتنعم. وإننا لدى مقارنة الدعوات الإصلاحية في العالم لم نجد فيها برهانًا أصدق على تحقيق الغايات المثلى والكمال الخلقي الرفيع والطمأنينة والراحة الكبرى… من دعوة الإسلام؛ دعوة الحق والنور والبرهان والمعرفة.
وإن الدارس لعقود الصلح والمعاهدات التي كان المسلمون يعقدونها مع غيرهم من البلدان لا يجد أثرًا معتبرًا لقصد المنافع الاقتصادية، أو ما يسمونه بالحماية الاستعمارية اليوم. وغاية ما في الأمر هو العثور على ضريبتين من الضرائب المعروفة بين الأمم في ذلك الزمن، ألا وهما: الخراج والجزية، وهذان لم يكونا من مستحدثات الإسلام، ولا من مستلزمات شرعته ومعاهداته، وإنما كانا في الواقع من التنظيمات السياسية الملحوظ فيها مبدأ التعامل بالمثل، ومراعاة مألوف الأوضاع الحربية السائدة، وتعويض العرب القاطنين في الحجاز عن أرباح التجارة التي كان الروم والفرس والمشركون يأتون بها إلى جزيرة العرب، قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 28].
وبناء على ذلك فلم تكن الجزية والخراج في داخل الدولة الإسلامية إلا ضرورة من ضرورات المجتمعات المنظمة التي تضطر فيها الحكومات للقيام بأعباء كثيرة نحو مجموع المواطنين؛ كتنظيم المرافق العامة، وتوفير الأمن والطمأنينة، أو في نظير حماية الأقلية والمحافظة عليهم بديل إعفائهم من المساهمة في الدفاع عن كيان الأمة ورد المعتدين.
والمسلمون في مقابل الجزية والخراج يتحملون أعباء مالية كثيرة يؤدونها للدولة كالزكاة بأنواعها المختلفة والصدقات والتكاليف الطارئة. وقد ضرب المسلمون أروع الأمثلة في تمسكهم بمقتضى التزامات عقد الذمة، فكانوا يردون الجزية إلى أصحابها إذا داهم المسلمين خطر أجنبي قد لا يتمكنون بسببه من حماية الأقليات في بلادهم. ومن ذلك ما فعل أبو عبيدة بن الجراح حينما حشد الروم جموعهم على حدود البلاد الإسلامية الشمالية، فكتب أبو عبيدة إلى كل والٍ ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها، يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: "إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم".
فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: "ردَّكم الله علينا ونصركم عليهم (أي على الروم النصارى)، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي لنا". مما يدل على أن هذه الأقليات كانت في رضا مطلق ووفاء وإخلاص أصيل لحكم المسلمين.
وقد حصل نظير هذا في الحروب الصليبية، فردّ صلاح الدين الأيوبي الجزية إلى نصارى الشام حين اضطر إلى الانسحاب منها. وهكذا يبدو جليًّا أن الجزية لم تكن حقًّا تعطيه القوة للغالب على المغلوب، وإنما كانت منفعة جزاء منفعة، وأجرًا جزاء عمل، بل إن مغارم الجزية كانت أكثر من مغانمها. وعلى العموم فهي لم تكن من مبتدعات الإسلام، وإنما كانت مقررة عند مختلف الأمم كبني إسرائيل واليونان والروم والبيزنظيين والفرس، وكان أول من سنَّ الجزية من الفرس كسرى أنو شروان (531-579م) وهو الذي رتب أصولها وجعلها طبقات. فالحالة العامة بين الأمم كانت تألف نظام الجزية، والإسلام أقرَّ ذلك فقط تحت وطأة الضرورات الاقتصادية التي لا بُدَّ منها لكل نظام في العالم، بل هي في مصلحة غير المسلمين أولاً وبالذات.
أما الجزية والخراج في ظل العلاقات الخارجية فهي ليست من قواعد النظام العام التي لا يجوز الخروج عليها، بدليل أننا وجدنا في التاريخ الإسلامي كثيرًا من المعاهدات التي لم تكن قائمة على أساس الالتزام بأي واجب مالي مثل معاهدة صلح الحديبية، والمعاهدات التي عقدها الرسول في المدينة بين الأوس والخزرج واليهود، وقد أجمع المسلمون على أن لولي الأمر عقد ما يرى من المعاهدات بما يحقق المصلحة، وقد تكون المصلحة في عقد معاهدة بقصد الصداقة وأمن الجانب والتزام الحياد، كما سنبين ذلك بالتفصيل في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
وأما الفتح الإسلامي فلم تكن غايته ضم البلدان إلى الوطن الإسلامي بقصد سلب أموال الأهالي، أو التسلط على ممتلكاتهم أو استغلال مواردهم الطبيعية وخيراتهم المعدنية أو الزراعية، أو إحراز الغنائم، يدل على هذا كلمة عمر بن عبد العزيز -رحمة الله- الخالدة التي وجهها لبعض ولاته وهي: إن الله بعث محمدًا بالحق هاديًا ولم يبعثه جابيًا. وقال ربعي من عامر مبعوث سعد بن أبي وقاص إلى رستم قائد الفرس في وقعة القادسية: "إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم".
ويوضح حقيقة مقصد المسلمين من فتوحاتهم فضلاً عما ذكرناه، قول عبادة بن الصامت للمقوقس: "إنما رغبتنا وهمّتنا في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا لعدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلب للاستكثار منها… لأن غاية أحدنا في الدنيا أكلة يسد بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها… لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاؤها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة".
بهذا الشكل من الزهد في الدنيا والخشونة في المعيشة، والإخلاص في القتال، والتفاني في سبيل إعلاء كلمة الله؛ كلمة الحق واليقين والإصلاح. بذلك كله فُتحت لهم جوانب الدنيا شرقًا وغربًا، وتمكنت لهم جوانب العزة والكرامة. ولو كان قصدهم نفعًا ماديًّا أو إشباع نهم اقتصادي، لما تم لهم ذلك بسرعة خاطفة لا مثيل لها في التاريخ.
وقد أبان صاحبُ الرسالة محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- هدفَ المسلمين الحقيقي من جهادهم؛ روى أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أجر له". فأعظم ذلك الناسُ، وقالوا للرجل: عُدْ لرسول الله، لعلك لم تفهم. فقال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا؟ قال: "لا أجر له". فقالوا للرجل: عد لرسول الله. فقال له الثالثة، فقال: "لا أجر له". وروى الجماعة عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقال ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال:من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
فهل بعد هذا البيان يُقال: إن مقصد الفتوحات الإسلامية هو الطمع في الغنائم وسلب الأموال؟!
وأما ما قد يتمسك به من قصةٍ تعرُّض المسلمين لقافلة أبي سفيان القادمة من الشام للطعن في مقصد المسلمين، فهو لا يستند إلى أساس صحيح؛ لأن ذلك التعرض مشروع في حق المسلمين، لأنهم يريدون أخذ نظير أموالهم التي استولى عليها مشركو مكة بعد حادثة الهجرة. بل إن أعراف الحرب اليوم تقر مثل هذا، وهو ما يُعرف بالحصار الاقتصادي، إذا كانت حالة الحرب قائمة بين دولتين، وتلك الحالة كانت متوفرة بين المسلمين والمكيين القرشيين، كما هو معروف في التاريخ.
والدليل الفَصْل في موضوعنا هذا ما أيَّده الواقع، فإن الأقليات التي كانت تخضع للسلطة الإسلامية لم تكن يومًا تشكو اضطهادًا أو ظلمًا أو تفرقة بالنسبة للمسلمين، أو تئنُّ من كثرة التكاليف المالية كما تفعل الشعوب المستضعفة اليوم أمام طغيان المستعمرين والعتاة، فإنهم لا يدعون وسيلة من إضعاف تلك الشعوب أو تسخيرهم في مصالحهم، وكأن أصحاب الوطن عبيد في ظل القائمين على الحماية الاستعمارية، والعبد وما ملكت يمينه لسيده.
وإذا كانت هذه هي حالة الفتوحات الإسلامية التي لا مجال فيها أصلاً لعقد قياس أو شبه بينها وبين أساليب الاستعمار اليوم، فإنها كانت تنشد الهدى والإصلاح وتقويم اعوجاج الأوضاع الفاسدة، ونشر الأهداف المثلى، وتبليغ رسالة السماء الأخيرة إلى مختلف الأصقاع، دون قصد العلو في الأرض أو الاستكبار؛ لأن إرادة العلو على الخلق أو التسلط ظلم، والناس جميعًا من جنس واحد، يبغضون كل ذلك ويعادونه. قال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83]. وقال سبحانه: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج: 40، 41].
وبهذه المناسبة نجد أن التهم التي توجه للإسلام أو يراد بها الكيد للإسلام أو إضعافه، أو إثارة الشكوك والشبه نحوه، أو التقليل من أهميته أو قداسته في النفوس.. كل ذلك لن يضير الإسلام شيئًا وإنما يزيده قوة ومناعة، مهما كان شأن المتهِم سواء أكان من المستشرقين أو من المستغربين أو من المستعمرين أو من أذيال المستعمرين أو من الحكام أو من المأجورين، وسيظل الإسلام راسخًا في النفوس على مر الزمان، حتى لكأنه الصخرة العاتية التي تتحطم عليها رءوس الجبابرة العظام، وكأن المعارض كما قال الشاعر:

كناطح صخرة يومًا ليوهنها *** فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل

المصدر: مجلة الفسطاط التاريخية، نقلاً عن مجلة حضارة الإسلام، العدد التاسع، السنة الرابعة، نيسان 1964م (ص45-51).
عن موقع قصة الإسلام

    جزاكي الله خير حبيبتي

    مشكوورة

    كل الشكر لكي
    منووورات

    الفتوحات الإسلامية 2024

    الونشريس

    هي عدة حروب خاضها المسلمون بعد وفاة النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ضد بيزنطة و الفرس و القوط في السنوات مايين (632–732) في العهدين الراشدي و الأموي ، كان من نتائج الغزوات سقوط مملكة الفرس و فقدان البيزنطينيين لإقاليمهم في الشام و شمال أفريقيا و مصر نشر الإسلام و نشر اللغة العربية معه ومن ثم ظهور الحضارة العربية الإسلامية.





    (الفتوحات الإسلامية من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى نهاية الخلافة الأموية)
    **************************


    بعد وفاة رسول الإسلام محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة بويع أبو بكر بالخلافة وحارب قبائل العرب في حروب الردة وبعدها فتح المسلمون بلاد الروم البيزنطيين والفرس الساسانيين. ففتحوا الشام ومصر والعراق وفارس. بعدها ازدهرت الحضارة الإسلامية في الدول التي دانت بالإسلام ودانت له طواعية تحت ظل الخلافة الراشدة وحكم الدولتين الأموية والعباسية . و لقد ظلت الخلافة الراشدة ثلاثين عاما (632 – 661 م). وكان الخليفة عمر أول من أقيمت المدن الإسلامية في عهده كالكوفة وفسطاط ومدن أسلامية عديدة .

    تأسست الدولة الأموية (661 – 750 م) وكانت عاصمتها دمشق وحكمت حوالي قرن. وكانت تمتد من غربي الصين إلى جنوب فرنسا حيث كانت الغزوات الإسلامية وقتها تمتد من شمال أفريقيا إلى إسبانيا وجنوب فرنسا بغرب أوروبا, وبالسند في وسط آسيا وفيما وراء نهري جيحون وسيحون. واقيمت المؤسسات الإسلامية والمساجد والمكتبات في كل البقاع التي غزاها الأمويون .

    وحاول الخلفاء الأمويون بدمشق غزو مدينة القسطنطينية عام 717 م. وإبان حكمهم غزوا جميع البلاد في شمال أفريقيا. وكان أول نزول لقوات الدعوة الإسلامية في عصر الدولة الأموية وضمت أرض الأندلس بشبه جزيرة إيبريا (أسبانيا والبرتغال) . فكان أول إنتصار للمسلمين هناك عام 92 هجرية (711 م) في معركة وادي البرباط, لتبدأ مسيرة الغزوات الإسلامية بجنوب إيطاليا وصقلية. فلقد بلغت الدعوة الإسلامية برنديزي والبندقية بإيطاليا على بحرالأدرياتيك. وخضعت كل جزر البحر الأبيض المتوسط من كريت شرقا حتى كورسيكا غربا للحكم الإسلامي [بحاجة لمصدر].

    وكانت الخلافة الأموية الثانية بالأندلس 756 – 1031 م عاصمتها قرطبة التي شيدها الأمويون على غرار عاصمتهم دمشق. وكانت أكبر مدينة في أوروبا. وحكمواالأندلس زهاء قرنين. وكانت هذه الخلافة منارة للحضارة في الغرب حتى قسمها المعتدون من الطوائف والبربر والموحدون لدويلات أدت ، لسوء الحظ،إلى سقوط الحكم الإسلامي. ولاسيما بعد سقوط مملكة غرناطة بيد المعتدين عام 1492 م علي يد الملك فريناندو والملكة إيزابيلا. و عندما كانت الحضارة الأندلسية في عنفوانها, كانت موقعة بواتييه قرب تولوز بوسط فرنسا قدأوقفت المد الإسلامي الكاسح لشمالها. حيث لم ينتصر عبد الرحمن الغافقي على الفرنجة عام 114 هجرية (732 م) عندما قتل بها في معركة بلاط الشهداء. لكنهم رغم هذه الهزيمة, واصلوا غزواتهمم حتي أصبحت تولوز وليون ونهر اللوار تحت السيادة الإسلامية ولكن كان احتلالهم لتولوز لفترة قصيرة تبلغ ثلاثة أشهر نجح بعدها الدوق أودو (الذي يعرف بيودس) الذي ترك المدينة للبحث عن المساعدة من العودة مع جيش لينتصر على الجيوش العربية في معركة تولوز في 9 يونيو، 721. وكان الفاتحون قد بلغوا نهر السين وبوردو وجنوب إيطاليا (أطلقوا عليه البر الطويل).

    وللتاريخ كانت الخلافة العباسية(750 – 1258 م) ببغداد تتآمر ضد الأمويين بالأندلس بتحالفها مع شارلمان ملك الفرنجة[بحاجة لمصدر]. وهذا سبب ثان لتوقف الغزوات الإسلامية بغرب أوروبا. وما بين سنتي 910 و1171 م، وكان ظهور السلاجقة في المشرق والفاطميّون بالقاهرة والأيوبيّين والمماليك في الشام ومصر. وكانت الحملات الصليبية على سوريا وفلسطين ومصر والسيطرة على القدس. وفي عام1187 م سيطر صلاح الدين على بيت المقدس من الصليبيين.

    وكان إحراق المغول التتار لبغداد عام 1258 م بعدما كانت عاصمة الخلافة العباسية خمسة قرون. ثم بعدها رجعوا لديارهم وكانوا وثنيين. لكنهم أسلموا عند عودتهم. فكانوا للإسلام داعين ومبشرين له بين قبائلهم. وأقاموا تحت ظلاله الإمبراطوريات والممالك الإسلامية بأفغانستان وباكستان وشبه القارة الهندية وبالملتان والبنغال وآسيا الوسطي وأذربيجان والقوقاز والشيشان وفارس وغيرها من بلدان المشرق الإسلامي. حيث أقاموا الحضارة الإسلامية المغولية والتركية التي مازال أوابدها ماثلة حتي اليوم. وكان تيمورلنك قد أقام الإمبراطورية التيمورية عام(1379 – 1401 م) وكانت العاصمة سمرقند بوسط آسيا. وقد حكم إيران والعراق والشام وحتى الهند. وكانت وقتها طرق القوافل التجارية العالمية تحت سيطرة المسلمين. سواء طريق الحرير الشهير أو تجارة المحيط الهندي بين الشرق الأقصى وشرق أفريقيا. و كان السقوط الأخير للقسطنطينية(عام 1453 م), عاصمة الإمبراطورية البيزنطية(الروم). وكان هذا السقوط علي يد محمد الفاتح العثماني. وأطلق عليها إسلام بول (إستانبول) بعدما جعلها عاصمة للخلافة العثمانية (الإمبراطورية العثمانية) (1350 – 1924 م). وكان لسقوط القسطنطينية صداه في العالم الإسلامي كله حيث أقيمت الزينات بدمشق و القاهرة وشمال أفريقيا لأن هذا النصر كان نهاية للكنيسة الشرقية ولاسيما بعد تحويل مقرها إلي أيا صوفيا. ثم أستطاع العثمانيون غزو رومانيا والصرب والبوسنة والهرسك والمجر والبانيا واليونان وجورجيا وكرواتيا واجزاء شاسعه من روسيا (القوقاز) واوكرانيا (القرم)[بحاجة لمصدر].ولقد حاصروا فيينا قلب أوروبا المسيحيه ثلاث مرات أيضا وما كانوا سيهزموا لولا حدوث خيانه في قيادة الجيش العثمانيً. وحشد البابا في الفاتيكان قوات أوروبا لوقف هذا الزحف الإسلامي وأستطاع أن يرد العثمانين بعد بقائهم لمدة شهرين فقط في معركة فيينا في 1683. ومن بعدها كان خبز الكرواسون ومعناه الهلال (بالفرنسية) يصنع على هيئة الهلال ليأكله الأوربيون في أعيادهم للإحتفال بالإنتصار على العثمانيين الذي كان علمهم يحتوي على هلال وكل هذا فضلا عن بلوغ التتار المسلمين القوة التي مكنتهم من محاصرة موسكو وغزوها لولا ان قبل اهلها بدفه الجزية للتار المسلمين.

    في ظلال الحكم الإسلامي ظهرت مدن تاريخية منها ماهو كان قائم وازدهر ومن ما هو جديد كالكوفة وحلب وحمص والبصرة ودمشق وبغداد و الرافقة الرقة والفسطاط والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر وقرطلة وغيرها. كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها ودمشق بعمائرها الإسلامية والقاهرة و حلب و المهدية والقيروان بتونس وبخاري وسمرقند وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وأصفهان وتبريز ونيقيا وغيرها من المدن الإسلامية. وفي القارة الأفريقية نجد أن60% من سكانها مسلمون[بحاجة لمصدر]. وفي العالم نجد المسلمين يشكلون حاليا أكثر من ربع سكان أهل الأرض.

    لم تكن الدعوة لتقف في أرض معينة، فالأرض كلها ساحتها وميدانها، وإذا توقفت قليلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك بسبب الردة، فلما انتهت الردة كان لابد من أن تعاود نشاطها، وتسير بشكل طبيعي، ويقاتل كل من يقف في وجهها وذلك هو الجهاد.

    وانتهت حروب الردة، وكان لا بدّ من الجهاد، فالفرس يقفون في وجه الدعوة، ويحاولون دعم أعدائها، ومدّ المرتدين عليها، والروم يحاربون الدعوة، وينصرون خصومها، ويحرضون القبائل المتنصرة ضدها، وكان لا بدّ من قتال الطرفين، والاستعانة بالله عليهما وبالإيمان القوي بأن النصر من الله يؤتيه من يشاء ممن استقام على منهجه، وإذن كان على المسلمين أن يقاتلوا على جبهتين لم تكونا متفقتين وهذا ما ساعدهم على القتال وحرية الحركة دون الخوف من الطرف الآخر.



    الجبهة الفارسية ::

    كان الفرس يسيطرون على مناطق واسعة تبدأ من بادية الشام في الغرب، وشمال جزيرة العرب من الجنوب، وتتوسع منطقتهم في الغرب وتتناقص حسب انتصارهم على الروم، أو هزيمتهم أمامهم، فتارة يتوسعون وقد وصلوا إلى سواحل البوسفور ثم ارتدوا حتى حدود الفرات، وكان عدد من القبائل العربية تقيم في المناطق التي يسيطر عليها الفرس سواء في منطقة السواد أم على ضفاف الفرات والجزيرة، ومن هذه القبائل تغلب وبكر وشيبان وربيعة وطيء، وبعضها كانت مُتنصرّة في أغلبها كتغلب، وكانت طيء تعلو ويقيم رئيسها في بلدة الحيرة على مقربة من الفرات، ويعمل للفرس على توطيد سلطانهم في تلك الأنحاء، وكان من بني شيبان فارس مقدام قد دخل في الإِسلام هو المثنى بن حارثة الشيباني، وقد طلب من أبي بكر بعد أن انتهى من حروب المرتدين في البحرين أن يؤمره على قومه وعلى من دان بالإِسلام في تلك الجهات ليجاهد الفرس، ويقاتل أعداء الله، فأمره أبو بكر فصار يناوش الفرس، وينتصر عليهم وقعة بعد وقعة إلا أنه في عدد قليل من المجاهدين، والفرس كثير، ومعهم عدد كبير من العرب المُتنصّرة، والقوة ستتناقص مع الأيام أمام الكثرة فكان لا بدّ من إرسال المدد للمثنى. وانتهى خالد من حرب اليمامة، فجاءه الامر من أبي بكر بالتوجه إلى العراق ليدعم المثنى بن حارثة الشيباني وليكن دخوله من الجنوب على حين يدخلها عياض بن غنم من جهة الشمال، وليكن لقاؤهما في الحيرة ومن سبق إليها كانت له الامرة على صاحبه. وكان ذلك في مطلع العام الثاني عشر للهجرة. وأمد خالداً بالقعقاع بن عمرو التميمي، وأنجد عياض بن غنم بعبد ابن عوف الحميري.

    سار خالد بن الوليد مباشرة باتجاه الحيرة، والتقى في طريقه ببعض القريات (ألّيس) وما جاورها فصالح صاحبها (بَصْبَري بن صلوبا)، ثم اتجه نحو الحيرة، وكان عليها من قبل الفرس هانئ بن قبيصة الطائي، فقال له خالد : إن أدعوكم إلى الله وإلى عبادته، وإلى الإِسلام، فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر. فقالوا : لا حاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومئة ألف درهم. وكان المثنى بن حارثة الشيباني يقاتل تارة في جهات كسكر وأخرى في جهات الفرات الأسفل، يقاتل الهرمزان في تلك البقاع، فاستدعى خالد المثنى ونزلوا إلى جهات الأُبُلّة لتجميع قوات المسلمين، وكانوا في ثمانية عشر ألفاً، وقد سار المثنى قبل خالد بيومين، وسار عدي بن حاتم وعاصم بن عمر التميمي بعد المثنى بيوم، وأعطاهم خالد موعداً في الحفير. وقد التقوا بهرمز في أرض الأُبُلّة، وكانت المعركة وأراد هرمز أن يغدر بخالد إلا أن القعقاع بن عمرو قتل هرمز، والتحم مع حماته الذين أرادوا أن يغدروا بخالد، وركب المسلمون أكتاف أعدائهم حتى غشاهم الليل، وكان الفرس قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل لذلك سميت هذه المعركة ذات السلاسل … وأرسل خالد بن الوليد المثنى بن حارثة في أثر القوم، وبعث معقل بن مُقرّن إلى الأَبلّة ليجمع المال والسبي، وسار المثنى حتى بلغ نهر المرأة، فحاصرها في الحصن الذي كانت فيه وكان على مقدمته أخوه المعنّى، فصالحت المرأة المثنى، وتزوجها المعنّى، أما المثنى فقد استنزل الرجال من الحصون، وقتل مقاتلتهم، وأقر الفلاحين الذين لم ينهضوا للقتال مع الفرس.

    كان أردشير قد أمر بجيش كبير بقيادة (قارن بن قريانس) فلما وصل إلى المذار(على ضفة نهر دجلة اليسرى تقع شمال القربة ب 37 كلم، بين البصرة وواسط، وهي قصبة ميسان) وصل إليه خبر هزيمة هرمز ومقتله، فتجمع هناك، فسار إليه خالد، ونشبت معركة قتل فيها معقل بن الاعشى القائد الفارسي (قارن)، وقتل عاصم بن عمرو خصمه (الانوشجان) وقتل عدي بن حاتم عَوه (قُباذ) وقتل يومذاك من الفرس عدد كبير وصل إلى ثلاثين ألف مقاتل. وبعدها وزع خالد الغنائم وقسّم الفيء.

    وتجمع الفرس ثانية في (الولجة) مع ما جاءهم من مدد قوامه جيشان الأول بقيادة (الأندرزعر) والثاني بإمرة (بهمن جاذويه) فسار إليهم خالد، وقد خلّف سويد بن مقرن في الحفير، وقد هزمت الفرس هزيمة منكرة أيضاً في هذه الجولة.

    وتأثر نصارى العرب من هذه الانتصارات فكاتبوا الفرس وتجمّعوا في ألّيس، فأسرع إليهم خالد وانتصر عليهم انتصاراً مبيناً وقتل منهم ما يقرب من سبعين ألفاً، ثم اتجه نحو الحيرة ثانية.

    ولما انتهى خالد من الحيرة ولّى عليها القعقاع بن عمرو، وخرج يريد دعم عياض بن غنم الذي كلف بشمال العراق، فنزل خالد إلى الفلّوجة ومنها إلى كربلاء فولى عليها عاصم بن عمرو، وكان على مقدمته الأقرع بن حابس، أما المثنى فكان يناوش الفرس على شواطئ دجلة. وسار خالد إلى الأنبار ففتحها ثم استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر، فهزم جموع أهلها الذين هم من العرب المُتنصّرة والعجم، ثم حصرها فنزلوا على حكمه، فقتل من قتل منهم وأسر وسبى. واستخلف على عين التمر عويم بن الكاهل، وسار باتجاه عياض بن غنم الذي علم أنه لا يزال في دومة الجندل(وهي في شمال جزيرة العرب، ومكانها اليوم مدينة الجوف) وقد كتب إليه يستنجده، فكتب إليه خالد "من خالد إلى عياض إياك أريد".

    ولما علم أهل دومة الجندل مسير خالد إليهم استنجدوا بالقبائل المُتنصّرة من العرب من كلب وغسان وتنوخ والضجاعم فأمدوهم. ولما اقترب خالد من دومة الجندل اختلف رئيساها وهما : أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، فاعتزل الأكيدر، وهَزم الجودي ومن معه ومن جاءه من الدعم الذين لم يتسع لهم الحصن. وأقام خالد بدومة الجندل، وأرسل الأقرع بن حابس إلى الأنبار، وبعد مدة لحق خالد بالحيرة.وخرج خالد من الحيرة وولّى عليها عياض بن غنم، وكان على مقدمة خالد الأقرع بن حابس… ثم بعث وهو بالعين أبا ليلى بن فركي إلى الخنافس والقعقاع إلى حُصيد. فانتصر القعقاع في حصيد، وفر من بالخنافس إلى المصَيّخ إذا لم يجد أبو ليلى، بالخنافس كيدا. وسار خالد وأبو ليلى والقعقاع إلى المصيخ وكان قد اجتمع فيه من هرب من الخنافس والحصيد، وهناك انتصر المسلمون انتصاراً مبيناً. ثم ساروا إلى الثني (مكان بالجزيرة الفراتية يقع إلى الشرق من الرصافة في سوريا ه بنو تغلب) و الزُّمَيْل(موقع إلى الشرق من الرصافة) فانتصروا على أعدائهم، ثم ساروا إلى الرضاب(موقع إلى الشرق من الرصافة، أو مكانها قبل أن يعمرها هشام بن عبد الملك)، وبها هلال بن عَقَة، وقد انفض عنه أصحابه عندما سمعوا بدنو خالد وجيشه، ثم ساروا إلى الفراض (موضع بين إلى الشرق من البو كمال على بعد 40 كيلاً منها، قريبة من الحدود بين سوريا والعراق اليوم) وهي على تخوم الشام والعراق والجزيرة وذلك في شهر رمضان، وتعاون الفرس والروم ضد المسلمين، والتقت الجموع على نهر الفرات فقتل من الفرس والروم والعرب المُتنصّرة أكثر من مئة ألف…

    أقام خالد بن الوليد عشرة أيام بالفرائض، ثم اذن بالرجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بالناس، وأظهر خالد أنه في الساقة، وسار مع عدة من أصحابه إلى مكة يؤدي الحج، ورجع من الحج، فوصل إلى الحيرة ولم تدخل الساقة البلدة بعد، ولم يدر الخليفة أبو بكر بما فعل خالد إلا بعد مدة، فعتب عليه، وصرفه عن العراق إلى الشام.

    وصل كتاب أبي بكر إلى خالد وهو بالحيرة وفيه : أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشْجِ الجموعَ من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن، وهو ولي الجزاء.

    وجاء فيما كتب أبو بكر لخالد : أما بعد فدع العراق وخلّف فيه أهله الذين قدمت عليهم، وهم فيه، وامض مختفياً في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق من اليمامة وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام.

    سار خالد من الحيرة في العراق، وقد استخلف المثنى به حارثة الشيباني على جند العراق، وسار هو إلى دمشق الشام إلى أبي عبيدة : أما بعد فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء، وقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته فأنت على حالك التي كنت عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمراً، فأنت سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغني عن رأيك تمم الله بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من صلي النار والسلام عليك ورحمة الله.

    سار خالد من الحيرة إلى دومة الجندل، وخرج منها من جهة وادي السرحان إلى الشمال.
    .

    ****

    يتبع……..

      فتوح الشام ::

      بعد أن رجع خالد بن سعيد بن العاص من اليمن أمره أبو بكر أن ينزل بتيماء وأمره ألا يبرحها، وأن يدعوا من حوله بالانضمام إليه، وألا يقبل إلا من لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قاتله، حتى يأتيه أمره. فأقام فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فاستنفروا العرب الذين بالشام على المسلمين، فاستنفرت كلب وتنوخ ولخم وجذام وغسان، فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر : " أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله "، فسار إليهم خالد بن سعيد، فلما دنا منهم تفرقوا، فاتخذ موقعه مكانهم، وكتب إلى أبي بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر : أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. وحدث قتال، وطلب خالد ابن سعيد من أبي بكر المدد، فأمده بالوليد بن عتبة وعكرمة بن أبي جهل، وانتصر على (ما هان) قرب القدس، وانتقل ماهان إلى دمشق فلحق به خالد بن سعيد، فلما كان بمرح الصفر جاءت جموع كبيرة من الروم لتنظم إلى قيادة (ماهان) الأمر الذي جعل خالد بن سعيد يتراجع إلى ذي المروة على حين وقف عكرمة ابن أبي جهل يحمي المتراجعين، ووصل المجاهدون من اليمن، وكانت قد دخلت السنة الثالثة عشرة، فطلب أبو بكر استبدال عمال الصدقات. ومنهم عمرو بن العاص الذي كان قد سيره في السنة الحادية عشرة إلى قضاعة، ثم استدعاه فولاه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاه على صدقات عُمان ثانية، وكتب إليه أبو بكر : إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة، وسماه لك أخرى، ومبعثك إلى عُمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت – أبا عبد الله – أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو : إني سهم من سهام الإِسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي.

      وصل خالد بن سعيد بن العاص إلى ذي المروة هرباً من جند (ماهان)، ووصل الخبر إلى أبي بكر فكتب إليه : أقم مكانك، فلعمري إنك مقدام محجام، نجّاء من الغمرات، لا تخوضها إلا إلى حق، ولا تصبر عليه. ولما كان بعد، وأذن له في دخول المدينة – كما سنرى – .

      عبأ أبو بكر الصديق الجيوش إلى الشام في مطلع السنة الثالثة عشرة فسار :

      – يزيد بن أبي سفيان في سبعة آلاف بعد عزل خالد بن سعيد، وكانت وجهته دمشق، وكان أول الأمراء الذين ساروا إلى الشام، وكان في جنده سهيل بن عمرو. ثم أمد أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بأخيه معاوية بجند كثير، ولما مرّ معاوية بذي المروة أخذ من بقي من جند خالد بن سعيد، وسمح بعدها الصدِّيق لخالد بالعودة إلى المدينة.

      – عمرو بن العاص وكانت وجهته فلسطين.

      – شرحبيل بن حسنة وسار إلى الأردن، وقد استعمل على جند الوليد بن عقبة، وأخذ عندما مر بذي المروة جمهور جند خالد بن سعيد وبقي عكرمة في ستة آلاف من الجند ردءاً لجيوش المسلمين.

      وعلم الروم بما عبأه المسلمون، فانتقل هرقل إلى حمص، وجمع جموعاً غفيرة من جنده، وأرسل أخاه (تذارق) ليواجه عمرو بن العاص، وبعث (جرجة ابن توذرا) نحو يزيد بن أبي سفيان، ووجه (الدُّراقص) نحو شرحبيل بن حسنة، وأعطى أوامره لـ (الفيقار بن نسطوس) أن يسير نحو أبي عبيدة بن الجراح، وصل عدد الروم يومذاك إلى 240 ألف مقاتل على حين كان المسلمون واحداً وعشرين ألفاً و6 آلاف مع عكرمة بن أبي جهل في المؤخرة دعماً لجموع المسلمين.

      هاب المسلمون الروم لما رأوا كثرتهم فكتب قادتهم إلى عمرو بن العاص يستشيرونه، فاقترح أن يجتمع المسلمون في مكان يلتقون فيه مع الروم، ولن يهزموا من قلة حينذاك، كما كتبوا إلى الخليفة أبي بكر وطلبوا منه المدد، فكان رأيه الاجتماع كما رأى عمرو، وأضاف أن يكون مكان المعركة في موقع يسهل الاتصال فيه مع المدينة قاعدة الحكم، ووافق على اللقاء باليرموك، وكتب إلى خالد أن يقدم إلى اليرموك لدعم المسلمين هناك وأن يكون هو الأمير.

      سار خالد بن الوليد من الحيرة إلى قراقر حيث شيعه إليها المثنى بن حارثة، ومنها إلى سوى، ثم تحرك إلى دومة الجندل، وأغار خالد على مصيخ بهراء ثم تحرك نحو الشمال مع وادي السرحان إلى شرقي جبل حوران (الدروز) في سوريا حتى وصل إلى أرك(مدينة صغيرة قرب تدمر وسط سوريا ، وهي ذات نخل وزيتون وبساتين ، وكل أهلها كانوا من النصارى) ومنها إلى تدمر فالقريتين (قرية كبيرة من أعمال حمص، وهي التي تدعى حوارين). ولما علمت غسان بذلك، اجتمعوا له بمرج راهط (يقع إلى الشمال من دمشق، والمسافر من دمشق إلى حمص ما كان على يساره فهو مرج راهط، ومن كان على يمناه فهو مرج عذراء حتى الثنايا (ثنية العقاب))، فسار إليهم، وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتصر عليهم، ثم سار إلى بصرى الشام(مدينة بحوران، من قواعد الغساسنة، وكانت مدينة رومانية شهيرة، وفيها سوق دائمة للعرب. ولا تزال فيها آثار رومانية، منها المدرج الروماني الشهير)، وكانت أول مدينة افتتحها من بلاد الشام، ثم ذهب إلى اليرموك فوصل إلى المسلمين في تسعة آلاف وغدا جند المسلمين ستة وثلاثين ألفاً. وفرح المسلمون بوصول خالد لأن الروم كانوا قد وصلتهم إمدادات بإمرة ماهان ومعه القساوسة والمطارنة والرهبان من أجل تشجيع المقاتلين. وربما يتساءل المرء لماذا هذه الطريق الطويلة التي قطعها خالد بن الوليد ؟ إنه أراد ألا يصطدم مع الروم قبل الالتقاء بالمسلمين وبخاصة أنه أصبح أمير المقاتلين في الشام فلا بد من الوصول إلى جنده ليقودهم في القتال، وإن خطة المسلمين كانت تقضي أن يكون القتال مجتمعين لا متفرقين ليتمكنوا من قتال الروم الذين يملكون أعداداً كبيرة تفوقهم بعشرة أمثال، وللروم ثغور وسط البادية حيث كانت من قبل مسرحاً للمعارك الدائرة بينهم وبين الفرس، فلو سار من الحيرة مباشرة نحوالغرب لاصطدم بتلك الثغور، ولأضاع على المسلمين تجمعهم في اليرموك وقيادته لهم، ولهذا اضطر أن يسير نحو الجنوب ليتجاوز تلك الثغور عن طرق دومة الجندل ثم اتجه شمالاً، وعندما وصل إلى الشرق من بصرى الشام وجد نفسه أما جبل حوران (جبل الدروز اليوم) البركاني الصعب الاجتياز، فأراد الالتفاف حوله فوجد نفسه بسرعته المعروفة في منطقة تدمر، لذا عاد فرجع إلى الغرب عن طريق القريتين فثنية العقاب (الثنايا) فشرقي دمشق إلى بصرى ففتحها ومنها سار إلى اليرموك في هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن لخالد بن الوليد طريقته الخاصة في القتال وهي التحرك بسرعة في عمق العدو والاغارة على مواقع خصمه المتأخرة، ثم الانسحاب للخوض في معركة حاسمة، وعندها يشعر العدو أن مجموعات من خصمه لا تزال تعمل خلف خطوطه الأمامية، وستداهمه في الوقت المناسب الأمر الذي يضعف معنوياته، ويبقى جزء من جنوده خارج المعركة لصد أي هجوم مرتقب من الخلف، وهذا ما رأيناه في قتاله في العراق إذا وصل إلى نقاط بعيدة من أرض العدو على حين لم تطهر أرض السواد بعد بل ولا منطقة الحيرة نفسها، ولم يأمن جانب المصالحين بشكل صحيح إذا سنراهم ينقضون العهد بعد ذلك. كما أن حركته كانت خلف ثغور الروم الأمر الذي يجعل الروم لا يستطيعون ترك مواقعهم خوفاً من أن يكون هناك اتفاق بين المسلمين والفرس وبخاصة أن خالداً كان في أرض فارس، كل هذا يجعل حركة خالد سهلة ويتنقل بحرية كأنه يقوم بمناورة معروفة الخطة.

      وصل خالد بن الواليد إلى اليرموك جنوب دمشق ، وصلى في اليوم الأول بجنده ، ورأى الروم مجتمعين فجمع المسلمين وخطب فيهم قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه : إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم ؛ فإن هذا يوم له ما بعده ؛ ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية، على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته، قالوا : فهات، فما الرأي ؟ قال : "إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون، لما جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه إن دان لأحد من أمراء الجند، ولا يزيده عليه إن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غداً، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم".

      قسم خالد المسلمين إلى كراديس يتراوح عددها بين 36 ـ 40 كردوساً ويضم الكردوس الواحد ما يقرب من ألف مقاتل. وكان أبو عبيدة في القلب، وعمرو بن العاص وشر حبيل بن حسنة في الميمنة، ويزيد بن أبي سفيان في الميسرة، ومن أمراء الكراديس يومذاك القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وعياض بن غنم، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وحبيب بن مسلمة، وصفوان بن أمية، وسعيد بن خالد بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص، وعبدالله بن قيس، ومعاوية بن حديج، والزبير بن العوام، وضرار بن الأزور.

      وكان قاضي الجيش أبو الدرداء، والقاص أبو سفيان بن حرب، وعلى الغنائم عبد الله بن مسعود، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وكان المقرئ المقداد بن عمرو، وقد كان عدد الصحابة في اليرموك أكثر من ألف صحابي بينهم مائة من أهل بدر. وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول : "الله الله! إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك ! اللهم إن هذا يوم من أيامك! اللهم أنزل نصرك على عبادك! "

      ونشب القتال، والتحم الناس، وتطارد الفرسان، ولم يلبث الأمر قليلاً حتى جاء البريد يحمل موت أبي بكر، وتولية عمر، وعزل خالد وتأمير أبي عبيدة م. وكان الرسول محمية بن زنيم، ولكن خالداً عندما سئل عن البريد، قال: السلامة وقرب وصول الأمداد.


      *************************

      يتبع

      وفاة الصديق ::

      وكانت وفاة أبي بكر يوم الإثنين 22 جمادى الآخرة في السنة الثالثة عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذا تكون خلافته، سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.
      وإذا كانت الغزوات الإسلامية في عهد الصديق تبدو ضيقة الرقعة إلا أننا يجب أن نضع في خلدنا الملاحظات التالية :
      ـ قصر مدة خلافة الصديق.
      ـ القضاء على حروب الردة التي شملت الجزيزة كلها.
      ـ كانت المعارك التي جرت في عهد الصديق بين المسلمين من جهة والفرس والروم من جهة ثانية، قد أرهبت أعداء الإسلام، وأظهرت قوة المسلمين وإمكاناتهم القتالية.
      شعر أبو بكر الصديق بشيء من الراحة النفسية بعد أن قضى على المرتدين، وانطلقت الغزوات في كل الجهات، وتحطم كبرياء الدولتين الكبريين اللتين كانتا تقفان في وجه الدعوة، وتدعمان المرتدين، وتستنفران قواتهما ومن والاها من العرب المتنصرة، كل ذلك في سبيل القضاء على الدولة الجديدة، وفي الوقت نفسه، فقد شعر أن مهمته في الحياة قد انتهت، فقد توطد الأمر، وثبت كيان الإسلام، وسيتابع الأمر الخلفاء من بعده، كما زاد شعوره في هذا الأمر أن سنه قد اقترب من سن حبيبه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما فارق الحياة الدنيا وانتقل إلى الرفيق الأعلى. كما شعر أن استخلاف رجل من بعده وهو على قيد الحياة، يجنب المسلمين الكثير من الصعاب، وقد أشفق عليهم أن يختلفوا ويزهد في هذا المنصب أهله، ويبتعد عنه من يستحقه، وقد تداعى إلى ذهنه ما حدث عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لم يخطر على بال المسلمين وفاة نبيهم، وحين ثقل عليهم مصابهم، والأمر لا بدّ له من خليفة يطبق منهج الله في الأرض. إذن لا بدَّ من استخلاف رجل يخلفه، ولا بدّ من الاستشارة، ولاح في ذهنه أولئك الصحابة الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيرهم، وكبرت في نفسه شخصية عمر بن الخطاب ، ومواقفه في الإسلام، وقوته في الحق، وهيبته في النفوس، ونظرة المسلمين إليه، ولكن كان لا بدَّ من أخذ رأيهم واستشارتهم، ولو كان الأمر منهم لكان أفضل.
      وشعر أبو بكر بالمرض، واشتد عليه وثقل فجمع عدداً من الصحابة المعروفين الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الأمر، وقال لهم : إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتا لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحلّ عنكم عقدتي، وردّ عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.
      فقاموا في ذلك فلم يستقم لهم أمر، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا : رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال : فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده.
      دعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب : فقال له: ما تسألني عنه أمراً إلا وأنت أعلم به مني. فقال له: وإن، فقال عبد الرحمن : هو أفضل من رأيك فيه.
      ثم دعا عثمان بن عفان، فقال له مثل ذلك، فقال : علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر : يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك.
      ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد : اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسرّ خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
      وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا رجل خاف من شدته، وقد عاتبه بعضهم باستخلافه فقال أبو بكر : لا والله ولا نعمة عين، هو والله خير لكم، والله لو وليتك لجعلت أنفك في السماء ولرفعت نفسك فوق قدرك حتى يكون الله هو الذي يضعك، تريد أن تردني عن رأيي وتفتني في ديني ؟ فوالله لئن بلغني أنك عصيته أو ذكرته بسوء لأفعلن ولأفعلن… ثم دخل على أبي بكر عثمان وعلي فقال لهما مباشرة لعلكما تقولان في عمر ما قال فلان آنفاً ؟ -قالا : وماذا قال يا خليفة رسول الله ؟
      -قال : زعم أن عمر أحدثكم إسلاماً و….
      فقال عثمان : بئس لعمر الله ما قال فلان، عمر بحيث يحب من قوته مع سابقته.وقال علي : بئس ما قال، عمر عند ظنك به، ورأيك فيه، إن وليته ـ مع أنه كان والياً معك ـ نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد، ودع مخاطبة الرجل فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن مالا تظن لم ترد إلا الخير.
      ودخل عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر الصديق يعوده في مرضه الذي مات فيه فوجده مقنعاً، فقال له عبد الرحمن : أصبحت بحمد الله بارئاً، فقال : أبرء ذاك ؟ قال : نعم، قال : أما إني على ذلك لشديد الوجع ولما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم رغم أنفه أن يكون له الأمر دونه ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل، وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي(نسبة إلى أذربيجان، وهو صوف شديد النعومة) كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان( نبات كثير الشوك )، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، ثم أنتم غدا أول ضال بالناس يميناً وشمالاً، لا تضيعوهم عن الطريق، يا هادي الطريق جرت، إنما هو الفجر أو البجر(الدهماء والمعنى في الفجر تبصر الطريق، وفي الظلمة تنزل بالمكروه). فقال له عبد الرحمن :حفظ الله عليك يرحمك الله فإن هذا يهيضك إلى ما بك، إنما الناس في أمرك رجلان : إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل رأى ما لم تر فهو يشير عليك بما يعلم، وصاحبك كما تحب أو كما يحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحاً مصلحاً مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا.
      ودخل بعض الصحابة على أبي بكر وقد علموا باستشارته في عمر، فقال أحدهم : ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته، وهو إذا ولى كان أفظ وأغلظ ؟ فقال أبو بكر : أجلسوني فلما جلس، قال : أباالله تخوفونني ؟ خاتزوّد من أمركم بظلم. أقول : اللهم إني قد استخلفت على أهلك خير أهلك. ثم قال للقائل أبلغ عني ما قلت لك من وراءك.
      ثم اضطجع ودعا بعثمان، فقال له : اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما دعا به أبو بكر ابن أبي قحافة، في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلف عليكم بعدي … وأخذته غشية قبل أن يسمى أحداً. فكتب عثمان : إني استخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب … ثم أفاق أبو بكر فقال : اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر، فكبر أبو بكر، وقال : أراك خفت أن تذهب نفسي في غشيتي تلك فيختلف الناس، فجزاك الله عن الإسلام خيراً، والله إن كنت لها لأهلاً. ثم أمره أن يتمم فأملى عليه : فاسمعوا وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم أمره فختم الكتاب وخرج به مختوماً، ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن حضير. وأشرف أبو بكر على الناس من كوته فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهداً، أفترضونه ؟ فقال الناس : رضينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علي فقال : لا نرضى إلا أن يكون عمر فأقروا بذلك جميعاً. ورضوا به، ثم بايعوا، فرفع أبو بكر يديه فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعلمت فيهم ما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليه، وأحرصهم على ما أرشدهم. وقد حضرني من أول ما حضر، فاخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيدك، فأصلح لهم أميرهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدى نبي الرحمة، وهدى الصالحين بعده، وأصلح له رعيته، ثم دعاه فأوصاه.

      وَصيَّة أبي بَكر رَضيَ الله عَنه

      ـ يرد ما عنده من مال إلى بيت مال المسلمين عن طريق الخليفة عمر بن الخطاب.

      ـ يرد بستان يملكه إلى بيت مال المسلمين عوضاً عما أخذه من بيت المال مدة خلافته.

      ـ أن يتصدق بمقدار خمس ما يملك من أرض العالية، وما يبقى يقسم بين أولاده وهم :عبد الرحمن ومحمد وأسماء وعائشة.

      وما تضع حبيبة بنت خارجة، ويتوقع أن تكون أنثى. وقد أوصى بها أولاده خيراً. (وبالفعل فقد وضعت أنثى – وهي أم كلثوم -).

      – أن يكفن بثوبيه بعد غسلها.

      – أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، وأن يدفن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      يتبع

      الفتوحات في عهد عمر ::

      يبدو أن القيادة الإِسلامية في المدينة المنورة بعد أن انتهت من حروب الردة وقررت مواجهة الدولتين العظميين آنذاك، كانت الخطة الموضوعة أن تفتح المعركة بكل ثقلها على جبهة، وتقوم بدور الدفاع على الجبهة الثانية، وتعتمد على سرعة الحركة بالانتقال من جبهة إلى أخرى حيث تبقى الدولتان في ذعر شديد وضعف معنوي كبير يحول دون التفاهم بينهما، إذ تستمر المعركة قائمة على الجبهتين معاً حيث تخاف كل دولة على وجودها فلا تحرص أن تتفق الواحدة مع الأخرى وإزالة ما كان بينهما من آثار الحرب.
      ومع انتهاء حروب الردة كانت الدولة الفارسية هي التي تشكل الخطر الأكبر بالنسبة إلى المسلمين إذ كان الفرس يدعمون المرتدين، ويحاولون القضاء على المسلمين، ويمدون كل متنبئ كذاب أو مرتد خارج على الحكم بكل ما يمكنهم من دعم، لذا كانت الخطة البدء بالقتال على الجبهة الفارسية، لذا وافقت قيادة المدينة المنورة على طلب المثنى بن حارثة الشيباني بالتحرش بالفرس ومنازلتهم. وعندما انتهى خالد بن الوليد من حروب الردة طلبت منه القيادة التوجه إلى العراق لدعم المثنى بن حارثة، كما طلبت ذلك من عياض بن غنم، وأعطته قوة يتحرك بها نحو شمالي العراق.
      استطاع خالد بن الوليد أن ينتصر على الفرس، وأن تجوس خيله منطقة السواد وجزءاً من أرض الجزيرة، هذا بالإضافة إلى مناطق غربي الفرات وبادية الشام ، وهذا ما جعل الفرس يشعرون بقوة الجيش الإِسلامي وإمكاناته القتالية والتعبوية – على عكس ما كانوا يظنون – الأمر الذي جعلهم يستعدون الاستعداد الكبير للمعركة الحاسمة المقبلة، وحشد الجنود لذلك. وفي هذا الوقت كانت القوة الإِسلامية على الجبهة الرومية تقوم بالدفاع فقط حيث كان خالد بن سعيد بن العاص يرابط بقواته قرب مناطق سيطرة الروم والقبائل العربية المتنصّرة المتحالفة مع الروم. ثم جهز الخليفة الصديق الجيوش وأرسلها إلى الشام – كما رأينا – إلا أن الروم كانوا يستعدون لذلك، ويتوقعون حرباً عامة شاملة، لذا فقد جمعوا أعداداً كبيرة وبعثوها باتجاه الجيوش الإِسلامية الأربعة، كما نقل هرقل مقر قيادته إلى حمص لتكون على مقربة من ساحة المعركة، ولما رأى المسلمون ذلك طلبوا المدد من المدينة والدعم، وكان على القيادة الإِسلامية أن تنقل المعركة الرئيسية من العراق إلى الشام إذ كان الفرس في حالة من الضعف بعد الهزيمة التي منوا بها، وهم بحاجةٍ إلى مدة للاستعداد والتفاهم على الحكم بعد الخلاف الواقع بينهم، لذا طلب الخليفة من خالد بن الوليد أن ينتقل بمن معه من الجند الذين كانوا معه في نجد والذين جاءوه دعماً من المدينة واليمن إلى الشام لدعم المسلمين هناك.
      انتقل خالد بن الوليد إلى الشام ومر في مناطق سوريا وبعد فتح (بصرى) وصل إلى اليرموك وجرت معركة اليرموك بين الروم والمسلمين، وكانت معركة حاسمة، ولم تبدأ حتى كانت الخلافة قد آلت إلى عمر بن الخطاب، وبعد انتهاء المعركة كان استعداد الفرس قد تم، واتفاقهم قد حصل بعد اختلاف، وقرروا تصعيد القتال ضد المسلمين، الأمر الذي جعل القيادة الإِسلامية في المدينة تطلب من القيادة العسكرية في الشام إعادة قسم من الجند بإمرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى العراق، هذا بالإضافة إلى إعلان النفير في جزيرة العرب للسير ودعم قوة المسلمين هناك وبدأت الامدادات تصل،. أما في الشام فقد تمّ طرد الروم وهزيمتهم وإنهاء الوجود البيزنطي فيها بعد عددٍ من المعارك، وهذا ما نلاحظه في خلافة عمر بن الخطاب . وبدأت المعارك في العراق ثم الشام وانتقلت إلى فارس حتى قضي على الدولة الفارسية ، ولم ينته عهد الفاروق بعد. وبانتهاء المقاومة على الجبهة الشرقية عاد القتال إلى الجبهة الغربية، إذا انتقل القتال إلى شمالي إفريقية وجزر البحر المتوسط، واستمر ذلك في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن

      عفان



      .مــعركة اليــرموك ::

      تولى عمر بن الخطاب الخلافة في بداية القتال العنيف على الجبهة الغربية، إذ كان المسلمون قد تجمعوا في اليرموك في منطقة حوران أمام تحشدات الروم الهائلة.
      كان تجمع المسلمين في المنطقة الغربية من مدينة درعا في سوريا ، وقد أخطأ كثير من المؤرخين، فجعلوا نهر اليرموك المنطقة الفاصلة بين المسلمين والروم، ومن يجول في تلك البقعة يدرك مباشرة أنه لا يمكن لهذا الوادي السحيق أن يكون ميداناً لمعركة أو تكون جنباته ساحة لها، هذا بالإضافة إلى أن الخليفة الصديق كان قد طلب من القيادة العسكرية في بلاد الشام أن يكون تجمع جندها في مكان يسهل معه الاتصال مع المدينة لإمكانية وصول الإِمدادات وسهولة الاتصال، ولو قطع المسلمون الوادي قبل احتدام المعركة وانتقلوا منه إلى الجهة الثانية وبصعوبة كبيرة لما أمكن وصول الامدادات إليهم، ولما أمكن الاتصال مع المدينة بعد نشوب الحرب، فكيف بالانتقال والحركة السريعة أثناء القتال كما يحلوا لبعض المؤرخين أن يخططوا ذلك، لهذا كله فقد جعل المسلمون مؤخرة جندهم إلى الشمال الغربي من درعا، لتكون درعا طريقاً لوصول الدعم إليها والاتصال مع المدينة، حيث يمكن في هذا المكان قطع الوادي بسهولة. هذا مع العلم أن خالد بن الوليد قد انتقل إلى اليرموك من بصرى الشام فيكون طريقه عن درعا أو إلى الشمال قليلاً منها. وتكون معركة اليرموك قد وقعت على جانبي أحد روافد اليرموك وهي إما (الرقاد) أو (العلق)، ويكون عمر بن العاص الذي كان على ميمنة المسلمين إلى الشمال، ويزيد بن أبي سفيان الذي كان على الميسرة في الجنوب، على مقربة من نهر اليرموك وأبو عبيدة بينهما ما بين منطقة الجولان ومنطقة حوران.
      وخرج المسلمون على راياتهم وعلى الميمنة معاذ بن جبل وعلى الميسرة نفاثة ابن أسامة الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيالة خالد بن الوليد وهو المشير في الحرب الذي يصدر الناس كلهم عن رأيه، ولما أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة، ورهبانهم يتلون الانجيل، ويحثونهم على القتال، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش، فساق بفرسه إلى أبي عبيدة فقال له : إني مشير بأمر فقال : قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع. فقال له خالد : إن هؤلاء القوم لا بدّ لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإني اخشى على الميمنة والميسرة، وقد رأيت أن افرق الخيل فرقتين وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدّوهم كانوا لهم ردءاً فنأتيهم من ورائهم. فقال له : نعم ما رأيت. فكان خالد في أحد الخيلين من وراء الميمنة، وجعل قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله حتى اذا رآه المنهزم استحى منه ورجع إلى القتال، فجعل أبو عبيدة مكانه في القلب سعيد بن زيد أحد العشرة م. وساق خالد إلى النساء أن يكنّ من وراء الجيش ومعهن عدد من السيوف وغيرها، فقال لهن : من رأيتموه مولياً فاقتلنه. ثم رجع إلى موقفه .
      ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال : عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدؤوهم بالقتال، واشرعوا الرماح، واستتروا، والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله وخرج معاذ بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول : يا أهل القرآن والكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق، ألم تسمعوا لقول الله "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم …" الآية، فاستحيوا – رحمكم الله – من ربكم أن يراكم فراراً من عدوكم، وأنتم في قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره.
      وقال عمرو بن العاص : يا أيها المسلمون غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب، ويجزي بالاحسان إحساناً – لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفراً كفراً(المزرعة) وقصراً وقصراً، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل.
      وقال أبو سفيان : يا معشر المسلمين أنتم العرب، وقد أحجمتم في دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين وامداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بازاء عدو كثير عدده، شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غداً إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة وأن الأرض وراءكم، بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحارى وبراري، ليس لأحد فيها معقل ولا معدل إلا الصبر ورجاء ما وعد الله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون. ثم ذهب إلى النساء فوصّاهن، ثم عاد فنادى : يا معشر أهل الإِسلام حضر ما ترون، فهذا رسول والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم. ثم سار إلى موقفه.
      وقد وعظ الناس أبو هريرة أيضاً فجعل يقول : سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم عز وجل في جنات النعيم. ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم.
      ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى معسكر الروم، ونادوا : إنما نريد أميركم لنجتمع له، فأذن لهم في الدخول، وإذا هو جالس في خيمة من حرير. فقال الصحابة : لا نستحل دخولها، فأمر لهم بفرش بسط من حرير، فقالوا : لا نجلس على هذه، فجلس معهم حيث أحبوا … وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقبلون الاستهانة بشيء من حرمات الله مهما قل، ومع أنه ليس فيه اللباس إلا أنهم رغبوا أن يأخذوا أنفسهم بالشدة، ورفض هذه الأمور وأمثالها، الأمر الذي جعلهم يعظمون في عين أعدائهم فيسايروهم، ويرتفعون في أنفسهم. وهذا ما وضعهم حيث وضعوا هم أنفسهم، وتميزوا بشخصيتهم فكان لهم ما تمنوا.
      وعرض الصحابة على الاعداء : الإِسلام، أو الجزية، أو السيف، وكان من تعنت الروم ان كان لابدّ من القتال.
      وطلب ماهان خالداً ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة لهم، فقال له ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال خالد : إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب ماهان : هذا والله ما كنا نحدث به عن العرب، وهكذا كلمة واحدة بعزة النفس تميت معنويات الخصم.
      تقدم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو – وهما على مجنبتي القلب -أشار لهما أن ينشبا القتال، وهكذا بدأت المعركة. وكان ذلك في أوائل شهر رجب من السنة الثالثة عشرة، وحملت ميسرة الروم على ميمنة المسلمين فمالوا إلى جهة القلب، وكان معاذ بن جبل يقول : اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وأنزل السكينة علينا، وألزمنا حكمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء. وانكشفت زبيد، ثم تنادوا فتراجعوا، وحملوا على الروم وأشغلوهم عن اتباع من انكشف، وردت النساء من فرّ، فرجع الناس إلى مواقعهم.
      وقال عكرمة بن أبي جهل : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم ؟ ثم نادى من يبايع على الموت ؟ فبايعه ضرار به الأزور، والحارث بن هشام عم عكرمة وعدد من المسلمين ووصل عددهم إلى أربعمائة رجل من أعيان الناس، وقاتلوا أمام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جرحى، وقتل منهم عدد كبير منهم ضرار بن الأزور. ويذكر أنهم استسقوا ماء وهم جرحى فجيء إليهم بشربة ماء، فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال : ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر، فقال : ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعاً، ولم يشربها أحد منهم.
      ثم حمل خالد بن الوليد بالخيل على ميسرة الروم التي حملت على ميمنة المسلمين، فأزالوهم إلى القلب، وقتل المسلمون في حملتهم هذه ستة آلاف من الروم، ثم حمل بمائة فارس على ما يقرب من مائة ألف من الروم فانهزموا أمامهم بإذن الله، وتبعهم … ولما عاد المسلمون من حملتهم جاء البريد – الذي ذكرنا – يحمل وفاة الصديق وبيعة عمر وتولية أبي عبيدة إمرة القتال.
      وخرج من بين الروم أحد أمرائهم الكبار وهو (جرجه) واستدعى خالد ابن الوليد إلى بين الصفوف حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة : يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم ؟ قال : لا *** قال : فبم سميت سيف الله ؟ قال : إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعاً، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي : أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين. ودعا لي النصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا أشد المسلمين على المشركين.
      فقال جرجه : يا خالد إلى ما تدعون ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله والإِقرار بما جاء به من عند الله عز وجل : قال : فمن لم يجبكم ؟ قال : فالجزية ونمنعهم. قال : فإن لم يعطها ؟ قال : نؤذنه بالحرب ثم نقاتله. قال : فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم ؟ قال : منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا. قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر قال : نعم وأفضل. قال : وكيف يساويكم وقد سبقتموه ؟ فقال خالد : إنا قبلنا هذا الأمر عنه وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقةٍ ونيةٍ كان أفضل منا، فقال جرجه : بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ؟ قال : تالله لقد صدقتك وأن الله ولي ما سألت عنه. فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال : علمني الإِسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه فسن عليه قربة من ماء ثم صلى به ركعتين … فحملت الروم عند ذلك على المسلمين حملة أزالوا بها المسلمين عن مواقعهم إلى المدافعين أمثال عكرمة بن أبي جهل وعمه الحارث بن هشام.
      وحمل خالد وجرجه بالمسلمين على الروم حتى هزموهم بإذن الله … وقتل جرجه ولم يصل سوى هاتين الركعتين مع خالد، وصلى المسلمون يومذاك صلاة الظهر والعصر إيماء، وأخّروا صلاة العشاءين. وفرّ الروم ليلاً إلى الواقوصة، وسقط الذين ربطوا أنفسهم بالسلاسل.
      وكان ممن شهد اليرموك الزبير بن العوام ، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ فقالوا : ألا تحمل فنحمل معك ؟ فقال : إنكم لا تثبتون، فقالوا : بلى فحمل وحملوا، فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر وعاد إلى أصحابه. ثم جاءوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، جرح يومئذ جرحين في كتفه. وقتل عكرمة بن أبي جهل وعمه الحارث بن هشام، وابنه عمرو بن عكرمة، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وهشام بن العاص، وعمرو بن الطفيل بن عمرو الدوسي. وانهزم يومذاك عمرو بن العاص في أربعة حتى وصلوا إلى النساء فزجرنهم فعادوا. وانكشف شرحبيل بن حسنة وأصحابه فتراجعوا فوعظهم الأمير فرجعوا. وثبت يزيد بن أبي سفيان وقاتل قتالاً شديداً، وذلك أن أباه مرّ به فقال له : يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رحل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفاً بالقتال، فكيف بك وبأشباهك الذين ولّوا أمور المسلمين ؟ أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة، فاتق الله يا بني ولا يكونن أحد من أصحابك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب ولا أجرأ على عدو الإِسلام منك. فقال : افعل إن شاء الله، فقاتل يومئذ قتالاً شديداً وكان من ناحية القلب .
      وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال : هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتاً يكاد يملأ العسكر يقول : يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، قال : فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد.
      وروي أن الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذٍ رجل من الروم، فقال: من يبارز ؟ فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومي : خذها وأنا الغلام الايادي، فقال الرومي: أكثر الله في قومك مثلك ** أما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا أعينهم.
      وروي أن هرقل قال وهو على إنطاكية في شمال سورية لما قدمت منهزمة الروم : ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى. قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا : بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن. قال : فما بالكم تنهزمون ؟ قال شيخ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض. فقال : أنت صدقتني.
      وروي أن أحد أمراء الروم وهو (القُبُقلار) بعث رجلاً عربياً من قضاعة عيناً له بين المسلمين، وقال له : ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوماً وليلة، ثم ائتني بخبرهم. قال : فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر، فأقام فيهم يوماً وليلة، ثم أتاه فقال له : ما وراءك ؟ قال : بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، لإِقامة الحق فيهم. فقال له القبقلار : لئن صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله أن يخلي بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم علي.
      وفقد عدد من المسلمين عيونهم في يوم اليرموك منهم : أبو سفيان وكان قد فقده عينه الأولى يوم حنين والثانية في اليرموك، وعاش بعدها ضريراً، والمغيرة بن شعبة، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، والأشعث بن قيس، وعمرو ابن معد يكرب، وقيس بن المكشوح وغيرهم.
      وبعد معركة اليرموك التي فر منها الروم، وتابعهم المسلمون ، صالح أهل دمشق وأهل حمص، إذ خلت أكثر هذه المناطق من الجنود الروم، كما أن هرقل قد انتقل من مقره في مدينة حمص إلى إنطاكية التي اتخذها قاعدة له يسير فيها الجند، وتصدر عنه الأوامر.
      وانتقل أبو عبيدة بالجيش من اليرموك إلى مرج الصفر ببقية الجيش الذي لم يلاحق الروم، وفي المرج وصل إليه الخبر بأن الروم قد تجمعوا بفحل بغور الأردن، فتوقف لا يدري بأي الأمرين يبدأ، أبمدينة دمشق التي يتركزّ قيادة جيش المسلمون فيها أم يعود إلى فحل ؟ فكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الموقف، ويستشيره بالأمر، وجاء الأمر من أمير المؤمنين أن ابدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم واهما ، فانهد لها، وأشغلوا عنكم أهل فحل بخيول تكون تلقاءهم، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن فتحت دمشق قبلها فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق، فإذا فتح الله عليكم فحل فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عمراً و شرحبيل على فلسطين لتستكمل فتح بلاد الشام .

      يتبع

      معركة فحل

      بعث أبو عبيدة عمارة بن مُخِشَ إلى فحل، فوجد أن الروم يقاربون ثمانين ألفاً، وقد طوفوا المياه في المنطقة إلا أن المسلمين استطاعوا بإذن الله إحراز النصر ودخول (فحل) و (بيسان)، وذلك قبل المعركة الكبرى وفتح دمشق أهم مدن الشام .


      فتــح دمــشق ::

      أرسل أبو عبيدة أبا الأعور السلمي إلى طبريا الواقعة إلى جنوب غرب دمشق ليفتحها وليكون ردءاً للمسلمين المتجهين إلى دمشق، وحائلاً دون وصول إمدادات رومية إلى دمشق ، وكذلك إلى حمص ، وتجهز الروم بقوة كبيرة للحفاظ على المدينة نظرآ لأهميتها وموقعها في قلب بلاد الشام ، وتحرك جيش المسلمين في المنطقة الداخلية من بلاد الشام وكان لوجود الحياة القبلية في بعض المناطق التي ساعدت كثيرا جيش المسلمون ، بينما كانت المناطق الساحلية والجبلية أكثر صعوبة امام تحرك الجيش والدفاع عنها يكون كبيراً من قبل الروم لذلك السبب، وعند وصول المسلمون إلى المناطق الشمالية الغربية من سوريا من الجهات الساحلية وجدوا أرضي جبلية وعرة المسالك وجبال عالية ، إضافة إلى المقاومة الكبيرة في المنطقة الساحلية ، وكان فيها المردة والجراجمة، وهم من قدامى السكان، وبعضهم من بقايا العمالقة، ولهم ارتباطات كبيرة بالروم أيضاً.

      سار أبو عبيدة باتجاه -( دمشق ) -، وقد جعل خالد بن الوليد في القلب، وسار هو في الميسرة، وعمرو بن العاص في الميمنة، وكان عياض بن غنم على الخيل، وشرحبيل بن حسنة على الرجالة. وفي الوقت نفسه بعث ذا الكلاع في فرقة لترابط بين دمشق وحمص لتحول دون وصول الامدادات من جيش الروم إلى دمشق من جهة الشمال، كما جعل أبا الدرداء في فرقة أخرى لتكون في برزة على مقربة من دمشق ردءاً للجيش الإِسلامي الذي يحاصر المدينة المحصنة بشكل كبير .

      وبعث أبو عبيدة طليعة تتألف من ثلاثة عناصر أحدهم وأميرهم أبو أمامة الباهلي الذي يقول : فسرت فلما كنا ببعض الطريق، أمرت أحد من معي أن يكمن، وبعد مسافة أمرت الآخر فكمن هناك وسرت أنا وحدي حتى باب البلد، وهو مغلق في الليل وليس هناك أحد، فنزلت وغرزت رمحي بالأرض ونزعت لجام فرسي، وعلقت عليه مخلاته ونمت، فلما أصبح الصباح قمت فتوضأت وصليت الفجر، فإذا باب المدينة بقعقع فلما فتح حملت على البواب فطعنته بالرمح فقتلته، ثم رجعت والطلب ورائي ، فلما انتهينا إلى الرجل الذي في الطريق من أصحابي ظنوا أنه كمين فرجعوا عني، ثم سرنا حتى أخذنا الآخر وجئت إلى أبي عبيدة فأخبرته بما رأيت، فأقام أبو عبيدة ينتظر كتاب عمر فيما يعتمده من أمر دمشق، فجاءه الكتاب يأمره بالمسير إليها، فساروا إليها حتى أحاطوا بها، واستخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب في خيل هناك.

      ولا شك فإن الإيمان وحده هو الذي كان سبب نصر المسلمين في معاركهم التي خاضوها ضد أعدائهم على الرغم من قلتهم وقلة إمكاناتهم، وبالإِيمان نفسه استطاع هذا الصحابي أبو أمامة أن ينطلق منفرداً إلى أحد أبواب مدينة دمشق، وأن يبيت ليلة ونفسه مطمئنة وفكره مرتاحاً فيما سيكون وأن يصبح فيتوضأ ويصلي الفجر، ويقتل الحارس وينطلق … وهذا ما أرعب الروم، وأضعف معنويات الروم وساعد المسلمين على النصر .

      انطلق الجيش الإسلامي نحو دمشق قلب الشام ومركزها في أكبر المعارك فدخل الغوطة واحتلها وقطع التموينات منها، ووصل إلى دمشق من ناحية الشرق وكانت المدينة العريقة محصنة بشكل كبير ، فتوزع يحاصرها حسب التشكيل الذي يسير عليه، فتوقف خالد، وهو على قلب الجيش، على الباب الشرقي وحتى باب كيسان شرق المدينة ، وسارت الميسرة على جنوب دمشق، فنزل يزيد بن أبي سفيان على الباب الصغير وإلى باب كيسان جنوب المدينة ، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية من جهة الغرب وحتى الباب الصغير. وسارت الميمنة على شمالي دمشق فنزل عمرو بن العاص على باب توما، ونزل شرحبيل ابن حسنة على باب الفراديس وباب السلام .

      استمر حصار دمشق عدة أشهر وقد كانت صعبة الاقتحام لسورها الحصين وومنارعة ابراجها وأبوابها ودفاعاتها ، وبعد حصار طويل شعر أهل دمشق أن الامدادات لا يمكن أن تصل إليهم، وجاء وقت البرد وهو في دمشق برد قارص وكان في هذه السنة قاسياً جدا ، فصعب القتال ، وفي إحدى الليالي ولد لبطريرك المدينة مولود ، فأقام وليمة كبيرة للجند والناس وعمت الاحتفالات المدينة ، فباتوا ليلتهم تلك سكارى ، وشعر خالد بن الوليد بذلك نتيجة ضعف قتال الذين فوق الأسوار المنيعة والحصينة للمدينة وقلة حركة الناس عامة، ونتيجة المعلومات التي وصلت إليه من العيون، وهو على عين يقظة لا ينام إلا قليلاً ، وكانت عنده سلالم مهيأة لتسلق اسوار المدينة العالية والمحصنة . فلما أحس بذلك استدعى بعض صنايد القوم أمثال القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وأحضر جنده عند أحد الأبواب ، وقال لهم : إذا سمعتم تكبيرنا فوق السور فارقوا إلينا. ثم إنه قطع الخندق وهو وأصحابه سباحة وقد وضعوا قرباً في أعناقهم تساعدهم على السباحة. إذ كانت الخنادق تحيط بدمشق وهي مليئة بالماء عدا الجهة الشمالية حيث كان نهر بردى هناك يعد بمثابة الخندق ، وكان السور على ضفافه يتعرج حسب المجرى على حين كانت الأسوار في الجهات الأخرى تسير بشكل مستقيم، وأثبت خالد وصحبه السلالم على شرفات السور، وصعدوا عليها، فلما صاروا أعلى السور رفعوا أصواتهم بالتكبير لإرهاب العدو ونزلوا على حراس الباب فقتلوهم، وفتحوا الباب عنوة، وقد طعنوا مغاليقه، واندفع الجند من الباب الشرقي إلى داخل المدينة .

      وانطلق خالد بن الوليد مع جنده داخل المدينة يعمل في من وقف في وجهه قتلاً، ويتجه نحو مركزها، وأسرع وجهاؤها نحو بقية الأبواب وخاصة نحو الغرب حيث باب الجابية خوفاً من أن ينالهم القتل، وفتح مدينتهم على يد المسلمين ، فتم الصلح، ودخل بقية قادة المسلمين وجيوشهم من الأبواب الأخرى للمدينة صلحاً يتجهون نحو داخل المدينة والتقوا في مركزها، خالد يعمل السيف، وهم في السلم، فقالوا له : يا أبا سليمان إن القوم قد طلبوا الصلح، وفتحوا الباب لنا، ودخلنا سلماً، فقال لهم : وإنما دخلت أنا ومن معي المدينة عنوة، ولم يزل يعمل السيف حتى طلب منه أبو عبيدة الكف عن ذلك. والتقى الأمراء عند المقسلاط قرب سوق النحاسين اليوم (سوق المناخلية). وكان فتح دمشق في رجب من السنة الرابعة عشر أي بعد معركة اليرموك بسنة كاملة. ولمناعة اسوارها وتحصيناتها استمر حصارها عدة أشهر وأصبحت بعد ذلك الفتح أهم المدن الإسلامية .

      وبعد فتح دمشق طلب أمير المؤمنين من أبي عبيدة أن يسير بعض الجند من الشام مع خالد بن الوليد إلى العراق مرة ثانية ليدعموا الفاتحين فيها، فسيرهم بإمرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص.

      وولى أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان وكانت مرحلة من أهم مراحل الفتوحات الإسلامية قد اكتملت في دمشق ، وسيّر شرحبيل بن حسنة إلى الأردن، وعمرو بن العاص إلى فلسطين، أي سار كل من الأمراء إلى المنطقة التي كانت وجهته الأولى إليها.

      بعث يزيد بن أبي سفيان أمير دمشق دحية بن خليفة إلى تدمر، كما بعث أبا الزهراء القشيري إلى حوران فصالح أهلها، إذ كان طريق المسلمين إلى دمشق عن طريق مرج الصفرّ ومن جهة الغرب من حوران لذا فقد بقيت حوران دون مصالحة وتم الصلح ودخول حوران بعد بعد ذلك .

      يتبع

      في البقاع :

      وأرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى البقاع، وعندما وصل إلى تلك الجهة جاءت حملة من الروم عن طريق ما يعرف اليوم باسم ظهر البيدر تحت إمرة سنان، واستطاع قتل عدد من المسلمين عند (عين ميسون) وعرفت تلك العين بعد ذلك باسم عين الشهداء. ثم تابع خالد سيره في البقاع نحو الشمال فصالحه أهل بعلبك.

      معركة مرج الروم وفتح حمص :

      وكان أبو عبيدة قد اتجه إلى شمال دمشق أيضاً فنزل على ذي الطلاع الذي كان في آخر ثنية العقاب وشرف على (القطيفة) اليوم، وإذ وصل إليه خبر إرسال هرقل بطريقاً من قبله يدعى (توذرا) إلى مرج الروم (منطقة الصبورة اليوم) لينزل دمشق فسار إليه أبو عبيدة وخرج إلى( توذرا) وجاء خالد من الخلف، وبدأ القتال فلم ينج من الروم إلا من شرد، وقتل خالد (توذرا)، وكان أبو عبيدة قد التقى ببطريق آخر يدعى (شنس) نزل بجانبه فتنازلا وقتل أبو عبيدة شنس أيضاً، وفر أتباعه باتجاه حمص فلاحقهم أبو عبيدة، ولما انتهى خالد من (توذرا) تبع أبا عبيدة نحو حمص فحاصراها معاً، وطال الحصار، وجاء فصل الشتاء، وكان شديد البرد، وصبر الصحابة صبراً عظيماً، ولما انسلخ الفصل البارد اشتد الحصار، وأجبر الأهالي المسؤولين على الاستسلام، وطلبوا الصلح حسب الصلح الذي صالح عليه أهل دمشق على نصف المنازل، وضرب الخراج على الأرض، وأخذ الجزية على الرقاب حسب الغنى والفقر. وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع عبد الله بن مسعود … كما طلب منه الرأي بشأن هرقل … فجاءه الجواب بالبقاء في حمص بالنسبة إلى أبي عبيدة.

      فتح قنسرين :

      وأرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين في شمال سوريا فقاتل أهلها بعد حصار واعتذار بعد هزيمة أولى، وإثر ذلك دخل المدينة عنوة، وذلك في السنة الخامسة عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا التقدم السريع في المناطق الداخلية من سورية كان لا يوازيه تقدم آخر في المناطق الساحلية للأسباب التي سبق أن ذكرناها، الأمر الذي اقتضى أن يقوم عمرو بن العاص الذي ولي أمر فلسطين بحرب عنيفة في مناطقه الجنوبية حتى يستطيع المسلمون أن يتقدموا في الساحل والداخل بصورة متوازية، واقتضى الأمر من القيادة أن توجه حملات من الداخل إلى الساحل لتقطع المناطق الساحلية إلى وحدات، ولتقلل الضغط أمام الفاتحين المسلمين المتقدمين من الجنوب، وليضعف معنويات المتعنتين من الروم، وليقلل أملهم في إمكانية التشبث بالأرض والبقاء في تلك الجهات، لذا أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان بالتحرك نحو قيسارية وتولي أمورها وكتب إليه : أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا فنعم المولى ونعم النصير. فسار إليها فحاصرها، وقاتل أهلها عدة مرات وفي النهاية انتصر عليهم وقتل منهم ما يقرب من ثمانين ألفاً، وبهذا الفتح انقطع رجاء الروم في النصر … ثم كتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى ايلياء (بيت المقدس).

      فتح أجنادين :
      سار عمرو بن العاص إلى أجنادين وهي موقع قريب من الفالوجة ومكان عبور فلسطين من الجنوب، إذا رابط فيها الأرطبون، كما كانت قوة للروم في الرملة، وأخرى في بيت المقدس، وكانت إذا جاءت قوات داعمة إلى عمرو أرسل بها تارة إلى الرملة وأخرى إلى بيت المقدس ليشاغلوا الروم في تلك الجهات خوفاً من دعمهم للأرطبون في أجنادين. وطال تأخر الفتح في أجنادين، وسارت الرسل بين الطرفين، ولم يشف أحدهما غليل عمرو، فسار بنفسه باسم رسول، ودخل على الأرطبون، وجرى الحديث بينهما، استنتج الأرطبون على أن هذا الرسول إنما هو عمرو بالذات أو أنه شخص ذو قيمة وأثر بين المسلمين، وقال في نفسه : ما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتله. فدعا حرساً فسارّه وأمره بالفتك به فقال : اذهب فقم في مكان كذا وكذا، فإذا مرَّ بك فاقتله، ففطن عمرو بن العاص فقال للأرطبون : أيها الأمير إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره. وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت. فقال الأرطبون : نعم * فاذهب فائتني بهم، ودعا رجلاً فسارّه فقال : اذهب إلى فلان فردّه. وقام عمرو ابن العاص فرجع إلى جيشه، ثم تحقق الأرطبون أنه عمرو بن العاص نفسه فقال : خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب. وبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال : لله در عمرو. وحدث قتال عظيم في أجنادين كقتال اليرموك .. ثم دخل المسلمون أجنادين، وتقدموا نحو بيت المقدس.

      يتبع