الإعجاز التصويري في القراءات القرآنية قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 2024

الونشريس

في كلمة {مَالِكِ} قراءتان:

1) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بالألف مداً {مَالِكِ}.

2) وقرأ الباقون من القراء العشرة بغير ألف قصراً {مَلِكِ}.

المشهدان اللذان تصورانهما القراءتان

تصور القراءتان المتواترتان هنا مشهدين جزئيين مختلفين ينسجان لنا صورة واحدة في الشكل الكلي:
الونشريس
المشهد الأول:

يتجلى من خلال قراءة (ملك يوم الدين) بالقصر: فملك مشتق من الملك، ويفهم منه الآتي:

1) معنى السلطان والقوة والتدبير والحكم والقهر.

2) الملك سبحانه هو المتصرف في أمور العقَلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء، ولهذا يقال: (مَلِكِ النَّاسِ) ولا يقال: (ملك الأشياء) كما روى الطبري عن عبد اللَّه بن عباسٍ: {مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ} يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا. ثم قَال: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} وقَال: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}، وقال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}، فهو يملك الحكم بينهم وفصل القَضاء متفردًا به دون سائر خلقه.
الونشريس
ويبين الطبري وغيره من المفسرين جمال المعنى هنا؛ إذ يشهد المستمع لقراءة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مشهد إخلاص الملك لله يوم الدين، فلا يوجد من ينازعه الملك أو يدعيه يومئذ كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}(الحج:56)، وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (الفرقان:26)، وقال: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} (الأنعام:73)، فيكون لِلَّه الملك يوم الدين خالصا دونَ جميع خلقه الذين كانُوا قَبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية. فأيقنوا بلقاء اللَّه يوم الدين أَنهم الصغرة الأذلة، وأنَّ له من دونهم ودون غيرهم الملك والكبرياء والْعزَّة والبهاء كما قَال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قال الطبري: "فأخبر تعالى أَنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلَى ذلة وصغار، ومن دنياهم في المعاد إلَى خسار".

وفي البخاري أن أبا هريرة قَال: سمعت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض).

وفي البخاري عن عبد الله بن أنيس قَال: سَمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوتٍ يسمعه من بعد كما يسمعه من قَرب أنا الملك أنا الديان).
الونشريس
وفي مسلم عن عبد اللَّه بن عمر قَال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يطوى الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوى الأرضين بشماله ثُم يقول أنا الْملك أين الجبارون أين المتكبرون»، وعند أحمد وابن حبان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات يوما على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، ورسول الله يقول هكذا بإصبعه يحركها يمجد الرب جل وعلا نفسه، (أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم أنا المتعال)، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به.

وأما في الدنيا فهو الملك سبحانه يحكم ما يريد، ويرفع من تقرب إليه من العبيد، ولذا جاء في مسلم عن أبِى هريرةَ عن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ينزل اللّه إلَى السماء الدنيا كل ليلةٍ حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذى يدعونى فَأستجِيب له من ذا الذى يسألنى فَأعطيه من ذا الذى يستغفرنى فَأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر».

ولذا فهو الملك الحق كما قال سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (المؤمنون: 116)، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر: 23)، لأن ملك ملوك الأرض إلى زوال عنهم ثم إلى زوال عمن ورثهم.

المشهد الثاني:

تدل عليه قراءة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة:4) بالمد مشتقة من الملك، وتدل على المعاني الآتية:
الونشريس
1) ملك الأعيان: سواء أكانوا بشرا أم غيرهم كالحيوان والأشياء الأخرى، فكلمة {مَلِكِ} لا تدل على أنه مالك دلالة مطلقة؛ إذ يقال: ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم، بل يحكم بينهم، ويتولى أمرهم، ولكن مالك تدل على التصرف المطلق، فهو يملك أعيانهم، ولذا يقال: فلان مالك الدراهم، ولا يقال: ملك الدراهم، والله تعالى مالك كل شيء.

2) القدرة على التصرف في مملوكاته، فهو لا يحكم فقط بل يملك الأعيان والأشياء، والْملك هو الذي يدبر أعمال رعيته الْعامةَ ، ولا تصرف له بشيءٍ من شئونهم الخاصة ، والمالك سلطته أعم، فلا ريب أنَّ مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطانه.

فالملك مُلكه أعم وأقوى من المالك، والمالك تصرفه أقوى وأشمل.

فاستفدنا من القراءة الأولى: {مَلِكِ} أنه الحاكم فلا يوجد من ينازعه أو حتى يدعي الملك في ذلك اليوم أما في الدنيا فاسم الملك قد يطلقه البشر على بعضهم، والله مكنهم من هذا ابتلاء واختبارا.
واستفدنا من قراءة مالك أنه مع ملكه عليهم فإنه يملك التصرف بهم والتسلط عليهم…
الونشريس
والسؤال: هل يمكن أن يكون أحدٌ ملكاً دون أن يكون مالكا؟

والجواب: نعم فالملك قد يكون ملكاً دون أن يكون مالكا –خلافا للطبري رحمه الله- فإن بعض ملوك الدنيا اليوم لهم الاسم الشرفي دون التصرف والحكم كملوك بريطانيا وغيرها، وكما كان عليه الحال في ملوك العباسيين حين ضعف أمرهم حتى قال فيهم القائل في أحد ملوك بني العباس الذي كان له اسم الخلافة (أي الملكية)، لكن دون قدرة على التصرف، لأن قائدي جيشه وصيف وبغا هما اللذان يتصرفان في حكمه-كما في الوافي بالوفيات-:

خليفة في قفص … بين وصيف وبغا

يقول ما قالا له … كمـا تقول البـبغا

فـ (مالك) يفيد مملوكاً، و(ملك) لا يفيد ذلك، ولكنه يفيد الأمر وسعة المقدرة، وكلا اللفظين أوسع من الآخر في شيء:

– فالملك بالفتح وكسر اللام أدل على التعظيم بالنسبة إلى المالك؛ لأن الملك يسوس العقلاء المأمورين بالأمر والنهي، وذلك أرفع وأشرف من التصرف في الأعيان المملوكة.

– والملك أعلى شأنا من المالك من هذه الحيثية.

– ولكن المالك أوسع لشموله لغير العقلاء أيضاً.

– إلا أن الملك أبلغ لدلالته على القوة القاهرة والمالك أكثر إحاطة وتصرفاً من الملك.

والله هو المالك الملك وهو الذي يملك الملك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:26)ولذا قال المباركفوري في تحفة الأحوذي في وصف {مَالِكَ الْمُلْكِ}: "أي الذي تنفذ مشيئته فِي ملكه يجري الأمور فيه على ما يشاء أو الذي له التصرف المطلق".

اجتماع المشهدين لتكوين الصورة الكلية:

يجتمع المشهدان معاً على تكوين المشهد الرائع العظيم الذي يظهر منه أن الله تعالى هو ملك ذلك اليوم الحاكم فيه القادر الذي غلبت قدرته كل شيء، القاهر الذي قهر بسلطانه كل شيء، المتكبر الذي خضع لكبريائه كل شيء فلا ينازعه أحد في ذلك ولو ادعاء كما كان الخلق يعطون هذا الخيار في الدنيا، كما أن الله تعالى أيضاً مالك ذلك اليوم المتصرف في أعيان عبيده من خلقه جميعاً {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا*لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم:93-95).
الونشريس
فهو يحكم بينهم حكم الملك ويتصرف فيهم تصرف المالك يصنع بهم ما شاء كيف شاء، لكن المؤمنين يرجون رحمته وفضله في ذلك اليوم، وهنا نستحضر قصة هارون الرشيد لما حضرته الوفاة وعاين السكرات صاح بقواده وحجابه:- اجمعوا جيوشي فجاؤوا بهم بسيوفهم، ودروعهم لا يكاد يحصي عددهم إلا الله كلهم تحت قيادته وأمْره فلما رآهم.. بكى ثم قال:- يا من لا يزول ملكه..ارحم من قد زال ملكه..
الونشريس
خاتمة في تكامل القراءتين:

قال السخاوي في كتابه " فتح الوصيد في شرح القصيد" في باب (سورة أم القرآن): "وأما من أخذ يفضل بين القراءتين فقال: المالك أعم من الملك لأنه يضاف إلى كل متملك من الدواب والثياب وغيرهما، بخلاف الملك فغلط لأن القراءتين صحيحتان، وليس هذا الاحتجاج بصحيح لأن الله تعالي قد وصف نفسه بالمالك والملك فما وجه هذا الترجيح؟؟
وليس لأحدٍ أن يقول: هذا ولا أن يقول أيضا: ملك أولى من مالك، ويحتج بأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، أو أن الملك من نفذ أمره واتسعت قدرته، والمالك ليس إلا الحائز لشيء، فالوصف بالملك أكمل، هذا كله غلط والكل جائز.
وهذا الاحتجاج أيضاً واه في نفسه من جهة أن ذلك إنما يكون لبني آدم فأما الخالق تعالى فهو الملك والمالك، فوصفه بالملك لا يخرجه عن الملك، وملك معدول عن مالك للمبالغة".
الونشريس
وانظر: تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وكتاب الكليات لأبى البقاء الكفوى، وتفسير المنار، وغيرها في هذا الموضوع.
الونشريس
وتأسيساً على ما تقدم، نرى أنه لا وجه لتفضيل قراءة على أخرى -كما فعل بعض المفسرين-؛ إذ لا يظهر وجه للتفضيل هنا، وكل قراءة تدل على معنى جميل في ذاته.

ونختم هذه التأملات الرائعة بما رواه الطبراني في المعجم الكبير عن معاذ بن جبل، أَن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم افتقده يوم الجمعة، فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أتى معاذًا فَقال له: "يا معاذ، ما لي لم أرك؟"، قَال: يا رسول اللَّه، ليهودي علي أوقية من تبر، فخرجت إليك فحبسني عنك، فَقَال لَه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "يا معاذ، أَلا أعلمك دعاءً تدعو به؟ فلو كان عليك من الدين مثل جبل صبرٍ أداه اللَّه عنك وصبِر جبل بِاليمن، فادع به يا معاذ قل: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء بيدك الخير إنك عَلَى كل شيء قَدير، تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي، وَترزق من تشاء بغير حسابٍ رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي من تشاء منهما، وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك".

    يسلموو

    نورتيني حبيبتي ☺

    بارك الله فيكي غاليتي

    منورة ☺

    الونشريس

    مثالان على الإعجاز التصويري في القراءات القرآنية 2024

    الونشريس

    تعتبر القراءات القرآنية ذات المعاني المتعددة من أهم مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم؛ فهي تكتنز عدداً من المشاهد التي تكون الصورة العامة للقصة أو للخبر المسوق للتربية والوعظ والتشريع في الوقت ذاته، وسنأخذ مثالين على ذلك:

    المثال الأول: في {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(البقرة:10)

    ورد في قوله (يَكْذِبُونَ) قراءتان:
    1) قرأ الكوفيون: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} مخففة مفتوحة الياء من كَذَب، ومصدره الكذب.
    2) وقرأ أهل المدينة والحجاز والبصرة والشام: (يُكَذِّبُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، فهي مأخوذة من كذَّب الثلاثي المضعف، ومصدره هو التكذيب كالتعديل والتجريح.

    المقارنة بين القراءتين:

    الأولى بمعنى يكذبون في منطقهم وحديثهم
    وأما الثانية فإن التضعيف في (يَكْذِبُونَ) يحتمل معانٍ من أربعة عشر معنىً هي التي جاءت لها فعَّل، ومن المعاني التي يحتملها التكذيب هنا: الرمي به، والتعدية، والتكثير، والتسمية:
    فيكون معناها: يكذبون أي يرميهم غيرهم بالكذب، ويسميهم به فتوافق معنى قراءة التخفيف، كما يقال: شجَّعته وجبَّنته، أي رميته بالشجاعة والجبن، وسميته به
    والمعنى الثاني التعدية: أي يتهمون المرسلين بالكذب أو بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ، وهذا محض الكفر،
    والمعنى الثالث: يكذبون أي يكثرون الكذب كما تقول يكثِّر،
    والمعنى الرابع: التسمية به فقد صاروا يسمون بين الناس بالكاذبين ويعرفون بذلك، وكلمة كانوا في قوله (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده أي: بسبب كذبهم المتجدد المستمر الذي هو قولهم آمنا.

    وبذلك صورت القراءتان مشهدين مختلفين:

    المشهد الأول: استحقاق هؤلاء المنافقين للعذاب الأليم بسبب كذبهم في أنفسهم: وتدل عليه قراءة (يَكْذِبُونَ)، ومن كذبهم أنهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعًا للَّه عزَّ وجلَّ ولرسوله وَللمؤمنين، فَقَالَ : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وذلك كما في قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ*اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المنافقون:1 -2)، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (المجادلة:16)، وكما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}(الأنعام:157).
    المشهد الثاني: وتدل عليه القراءة بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَضَمِّ الْيَاءِ: استحقاق هؤلاء المنافقين للعذاب الأليم بسبب صفة ذميمة أخرى هي التكذيب للصادقين، وعلى رأسهم النبي الأمين –صلى الله عليه وآله وسلم- وكثرة الكذب أمام المفلحين (إذا جعلنا التضعيف دالاً على التكثير)، وذلك كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110).
    ونلاحظ هنا أن العذاب الأليم الواقع على المنافقين كان واقعاً عليهم لا لمجموع الجريمتين، وإنما بسبب كل جريمةٍ على حدة، فكلٌ منهما توجب العذاب الأليم على صاحبها: الكذب، والتكذيب وقد كانوا متصفين بهذا وهذا كما قال ابن كثير.

    الحكمة في القراءتين:

    1) لبيان جريمة كل من الكذب والتكذيب.
    2) لإثبات جمعهم للرذيلتين، أي الكذب في دعوى الإيمان وتكذيب النبي – صلى اللَّه عليه وسلم -، فقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا، والثانية سبب الأولى، وهم إنما كانوا يكذبونه في أنفسهم، وفيما بينهم إذا خلوا إِلى شياطينهم، والعذاب عقوبةٌ عليهما معا، أي على التكذيب وهو الكفر، وعلى الكذب في دعوى الإيمان وهو النفاق، وهؤلاء في باطنهم شرٌّ من الذين كفروا عنادًا من رؤَساء قريشٍ ، فَإنهم لم يكونوا يكذبونه – صلى اللَّه عليه وسلم – وإنما كانوا يجحدون جحود استكبار ، قَالَ تَعَالَى : (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام : 33)" .

    سؤال في قراءة التخفيف:

    صار العذاب مترتباً على الكذب من جهة، وعلى التكذيب من جهة أخرى، وترتبه على التكذيب واضحٌ فهو الكفر، ولكن لماذا جعل الْعَذَاب جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ في القراءة الأخرى؟ وَالجواب: كما يقول صاحب المنار: "أن الكفر داخل في هذا الكذب ، وإنما اختير لَفظ الكذب في التعبِير للتحذير منه، وبيان فَظاعته وعظمِ جرمه ، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهِي إليه في غاياته ، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير ، وتوعد عليه أسوأ الوعيد ، وما فشا الكذب في قَومٍ إلا فشت فيهم كل جريمةٍ وكبيرةٍ ؛ لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة ، ومن كان كذلك لا يترك قَبيحًا إلا بالعجز عنه ، ونعوذ بالله تعالى من عمله ومنه".وقد جمع الله بين هذين الرذيلتين الأخلاقيتين، وهذين الصنفين الرديئين من الناس في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}(الأعراف:37)، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}(يونس:17)، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}(الزمر:32).

    المثال الثاني: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)

    وردت هذه الجملة {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} في ستة مواضع في القرآن الكريم: خمسة منها في سورة البقرة، والسادس في سورة آل عمران، كما وردت بصيغة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} حيث جاءت كلمة (ربك) بدلاً من لفظ الجلالة (الله) في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في الأنعام وهود والنمل، وكلها اختلف القراء فيها بين الغيبة والخطاب ما عدا موضع آل عمران، وسنأخذ أنموذجاً واحداً لها وهو الموضع الأول من سورة البقرة:

    {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)

    القراءتان الواردتان في ذلك:

    فقد قرأ ابن كثير ويعقوب وخلف بالغيب، والباقون بالخطاب، وكل قراءة من هاتين القراءتين العظيمتين تصور لنا موقفاً غير أنهما يجتمعان في أن هذه الجملة ختمت بها جولة عظيمة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب، والالتواء واللجاجة، والكيد والدس، والقسوة والجدب، والتمرد والفسوق، وكان هذه الجملة التذييلية تبين صورتين عجيبتين في التعامل مع قساة القلوب من بني إسرائيل ومن سار على نهجهم.

    المشهد الذي ترسمه كل قراءة:

    قراءة الخطاب تحتمل معنيين وترسم مشهدين:

    المشهد الأول: يحتمل أن يكون الخطاب لبني إسرائيل مباشرة:
    إكمالاً لخطابهم قبل هذا الموضع في قصة البقرة وما قبلها حتى وصل بهم وهو يخاطبهم إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ*فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ*ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}(البقرة:72 -74)، وختم ذلك بإتمام الخطاب لهم قائلاً لهم: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ})البقرة:74)، فكأنه يكمل خطابه للمكذبين من قساة القلوب من بني إسرائيل ومن سار سيرتهم ممن يعيش زمن نزول القرآن وبعد ذلك، فيقول لهم -كما قال أبو جعفر الطبري-: "وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا" كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)، وكأن الله يقول لهم -كما يقول صاحب المنار-: "قلوبكم تشبه الحجارةَ في القسوة، بل قَد تزيد في القساوة عنها، فإن الحجارةَ الصم تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع، بعضها بالْقَوي منه وبعضها بالضعيف، ولكن قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شَأنها التأثير في الوجدان والنفوذ إلَى الجنان، والحجارة تتأثر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل، ولكن قلوبكم لم تتأثّر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها، فلا أفادت فيها المؤثرات الداخلية، ولا المؤثرات الخارجية كما أفادت في الأحجار، فبذلك كانت قلوبكم أشد قسوةً. ثم هددهم بقوله: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي فهو سيربيكم بضروب النقم، إذا لم تتربوا بصنوف النعمِ".

    المشهد الثاني: يحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين: أي أن الله لا يغفل عما تعملون أيها المسلمون، فإن أنتم فعلتم فعل هؤلاء القساة أصابكم ما أصابهم، فقد قصصنا عليكم خبرهم، فلا تسيروا سيرتهم. قراءة الغيب: وهي قراءة ابن كثير ويعقوب وخلف بياء الغيب فيكون هكذا قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يعْمَلُونَ}(البقرة:74):
    هي إخبار للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- وللمسلمين يطمئنهم ويسكن روعهم ويخبرهم بأنه ليس بغافلٍ عما يعمل الأشرار وقساة القلوب من بني إسرائيل ومن نسج نسجهم، وخطابه للمسلمين بذلك يفيد:

    1) أنه يعلم خطاياهم ومعاصيهم وقسوة قلوبهم وكونه يحلم عليهم لا يعني أنه غافل عنهم.
    2) أنه يعلم مكرهم وشدة قسوة قلوبهم فيحيط بمكرهم ويعلم خفاياهم، وكونه يملي لهم في ذلك فليس ذلك فيه غفلة عما يعملون.
    والانتقال من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين -كما يقول الطاهر بن عاشور- ليس "من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} (البقرة:75) عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضا".
    والمراد من القراءتين إثبات الإحاطة الإلهية، والمعية الربانية لكل فعل وحركة {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى*لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى*اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}(طه:5 -8)، وقد قال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}(النساء:108).
    ولذا نمى الصالحون الشعور بالرقابة الإلهية قال رجل للجنيد: بم أستعين على غض البصر؟ فقال: بعلمك أنَّ نظر الناظر إليك أسبق مِن نظرك إلى المنظور إليه، وقال الجنيد: إنما يتحقق بالمراقبة مَن يخاف على فوت حظه مِن ربه عز وجل،
    وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال: أولها علم القلب بقرب الله تعالى.
    وقال سهل: لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف مِن علم العبد بأن الله شاهده
    حيث كان.
    وقال حميد الطويل لسليمان بن علي: عظني.. فقال: لئن كنت إذا عصيت الله خاليًا ظننت أنه يراك؛ لقد اجترأت على أمر عظيم.. ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت.
    وكان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم
    وكان عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ*ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ} ثم يبكي ويقول:

    نهارك يا مغرور سهو وغفلة … وليلك نوم والردى لك لازم
    فلا أنت في الإيقاظ يقظان حازم … ولا أنت في النوام ناج فسالم
    تسر بما يفنى وتفرح بالمنى … كما سر باللذات في النوم حالم
    وتسعى إلى ما سوف تكره غبه … كذلك في الدنيا تعيش البهائم

      جزاكي الله خيرا وبارك فيكي

      جزانا واياكي حبيبتي منورة
      الونشريس