نهاية الحشمونين
مريم العذراء ويوسف النجار يسجلان نفسيهما أمام حاكم سورية في التعداد العام الذي جرى عامي 6-7 ميلادية
أعطى بومبيوس عام 64 ق.م مملكة اليهودية وضعا خاصا حيث سمح لها بالبقاء ككيان يهودي على أن تكون تابعة إداريا لمقاطعة سورية الرومية، وهكذا فإن مملكة اليهودية في العهد الرومي لم تكن مملكة مستقلة تدور في فلك روما (بخلاف مملكة أرمينية ومملكة الأنباط اللتين سمح لهما بومبيوس بالاستقلال شرط الولاء لروما ودفع الجزية) ولم تكن اليهودية أيضا مقاطعة رومية مستقلة حيث لم يكن لها حاكم خاص بل كان يديرها برايفكت praefectus وهو مسؤول من الرتبة الإقوسطرية ordo equester وهي رتبة أدنى من الرتبة السناتورية ordo senatorius التي تكون لحكام المقاطعات، وبالتالي فإنه لم يكن يملك الكثير من صلاحيات حاكم المقاطعة والتي بقيت لدى حاكم سورية العام الذي كان مسؤولا عن إدارة جميع الأمور المالية والاقتصادية لليهودية ومن ذلك جمع الضرائب بالإضافة لمسؤوليته عن إجراء التعداد والإحصاء ومن ذلك الإحصاء الشهير الذي أجراه الحاكم كويرينيوس Quirinius في عموم سورية وفلسطين قبيل ولادة المسيح حسب لوقا 2:1-7. قام أولوس غابينيوس حاكم سورية في عام 55 ق.م بتقسيم اليهودية إلى خمس مناطق إدارية عرفت بـ Sanhedrins أو Synedrions (مجالس قانونية) ومنها السنهدرين.
هيرود الأول ملكا في بيت المقدس عام 36 ق.م
عند الغزو البارثي لسورية واليهودية عام 40 ق.م أزيل ملك اليهودية الحشموني وحكام المناطق الإدارية من مناصبهم ونفي الملك إلى بارثية. كان هيرودوس الأول (هيرود) حاكم الجليل أحد الذين أزيحوا عن مناصبهم ولجؤوا إلى الروم. استغل هيرودوس علاقته مع الروم وتعاون الملك الحشموني الجديد مع البارثيين وأقنع مجلس الشيوخ بتعيينه ملكا على اليهودية عام 40 ق.م رغم أنه لا ينتمي إلى السلالة الحشمونية. وعندما استعاد ماركوس أنطونيوس سورية تم تنصيب هيرودوس ملكا على اليهودية وبذلك انتهى حكم السلالة الحشمونية. وبعد وفاته سنة 4 ق.م تقاسم أبناؤه الثلاثة اليهودية وكان أحدهم، وهو هيرودوس أنطيباس Herod Antipas، هو هيرودوس حاكم الجليل وبيرية خلال حياة يسوع المسيح حسب العهد الجديد.
ثورة اليهود الكبرى وهدم بيت المقدس
انتهت الجمهورية الرومية فعليا في عام 31 ق.م مع انتصار أوكتافيوس في معركة أكتيوم البحرية على الجيش المشترك لأنطونيوس وكليوباترا آخر ملوك البطالمة في مصر، ومن ثم حصول أوكتافيوس على العديد من الامتيازات والصلاحيات وآخرها حصوله من مجلس الشيوخ على لقبي أغسطس Augustus (العليّ/المبجل) وبرينسبس Princeps (المواطن الأول) في عام 27 ق.م، وبذلك صار أغسطس فعليا أول أباطرة الإمبراطورية الرومية تحت اسم أغسطس قيصر، رغم أن الجمهورية بقيت اسميا.
موزايك رومي في أنطاكية
عانى أتباع الديانة اليهودية من المشاكل مع الحكام غير اليهود الذين يحكمونهم بصورة مباشرة، وهكذا كان الحال مع الروم الذين كانوا يديرون إقليم يهودية بشكل مباشر وبتدخل كبير في تعيينات الحكام والكهنة، وهذا ما أدى إلى تصاعد التوتر تدريجيا مع الروم، بالإضافة إلى أن النظام الرومي كان يهتم بالسياسة فقط ولكنه لم يكن يهتم بالدين، وبذلك فإن الروم كانوا متسامحين دينيا ويقبلون جميع الأديان، وهذا ما لم يرق لليهود الذين كانوا يمتعضون من رؤية الأديان الغير يهودية تمارس في مناطقهم.
حدث الصدام الكبير لأول مرة في عام 66 م فيما يعرف بالثورة اليهودية الكبرى أو الثورة اليهودية الأولى، وكان سبب اندلاع التمرد هو قيام بعض اليونانيين بتقديم أضاحي من الطيور أمام كنيس يهودي ورفض الدورية الرومية لأن تفعل شيئا، مما أدى إلى سلسلة من الأحداث وردود الفعل قادت في النهاية إلى أعمال عنف ضد المواطنين الروم في القدس وممتلكاتهم وضد المتعاونين معهم من اليهود مما اضطر الملك اليهودي الموالي للروم إلى الخروج من القدس إلى الجليل.
وخلال حصار وسبيانوس لبيت المقدس حدثت تطورات مهمة في روما، حيث خلع مجلس الشيوخ الإمبراطور نيرون واندلعت بعد ذاك حرب أهلية تنازع فيها وسبيانوس وثلاثة أشخاص آخرون على الحكم في سنة 69 ميلادية المعروفة بسنة الأباطرة الأربعة. تحالف وسبيانوس مع حاكم سورية موكيانوس في الحرب الأهلية وترك إكمال حصار بيت المقدس لابنه تيتوس الذي اقتحمها سنة 70، ودمرت المدينة أثناء اقتحامها واضطر تيتوس إلى تدمير الهيكل اليهودي أيضا بسبب تحصن الثوار اليهود فيه، رغم عدم رغبته في ذلك. قال المؤرخ اليهودي يوسيفوس الذي عاش في تلك الفترة أن المدينة سويت بالأرض وأن الزائر لها لا يصدق أنها كانت مدينة مأهولة. كانت حصيلة ضحايا الثورة اليهودية هائلة حيث قدرها يوسيفوس بمليون ومئة ألف قتيل من اليهود وسبعة وتسعين ألف أسير بالإضافة إلى أعداد هائلة من المشردين في أنحاء الإمبراطورية الرومانية. بعد هذه الأحداث اتخذ الرومان إجراءات لتحسين سيطرتهم على الإقليم حيث رفعوا رتبة الحاكم الروماني إلى برايتور praetor لتزيد صلاحياته وقرروا أن يتمركز الفيلق العاشر المضيقي Legio X Fretensis بشكل دائم في الإقليم. وأخيرا انتصر وسبيانوس في الحرب الأهلية وأعلنه مجلس الشيوخ إمبراطورا عام 69 م، وكان الفضل الأساسي في ذلك يعود إلى الفيالق السورية التي دعمه بها موكيانوس وخاصة الفيلق السادس المدرع Legio VI Ferrata.
حرب ترايانوس البارثية وثورة اليهود الثانية
أولبيوس ترايانوس
شكل القرن الثاني الميلادي العصر الذهبي للإمبراطورية الرومية من حيث السلم الداخلي والرخاء الاقتصادي والتوسع الخارجي، وكان عصر الإمبراطور ترايانوس Trajanus (بالإنكليزية: تراجان Trajan) هو نقطة الذروة حيث اجتاح الرومان فيه الإمبراطورية البارثية وبلغت الإمبراطورية فيه أقصى اتساعها.
غزا ترايانوس داشيا Dacia (رومانيا الحالية) في عام 106 م، وفي العام التالي ضم مملكة الأنباط وجعلها مقاطعة باسم أرابيا بترايا Arabia Petraea (عربيا البترا أو العربية الصخرية). في عام 113 م قرر ترايانوس أن الوقت قد حان لحل المعضلة البارثية للأبد وذلك بالتفرغ لغزو بارثية وضم أراضيها، وهي سياسة تخالف سياسة من قبله الذين لم يجعلوا غزو بارثية أولوية، فغزا في عام 114 م أرمينية وجعلها مقاطعة رومية، ثم اجتاح ما بين النهرين وجعلها مقاطعة رومية أيضا، واستولى على عاصمة بارثية إقطصيفون Ctesiphon (المدائن)، وتابع المسير إلى الخليج العربي.
الفرات قرب الرقة
ولكن في تلك الأثناء اندلعت ثورة عارمة لليهود المنفيين في شمال أفريقيا (في قورنيقة Cyrenaica (برقة) ومصر) وقبرص، حيث قاموا بهدم وتخريب معابد الآلهة اليونانية والرومية والمصرية والمباني العامة والحمامات وقاموا بإبادة اليونانيين والروم حيث قتلوا أكثر من 220,000 يوناني في برقة وحدها، وتذكر الموسوعة اليهودية أن سكان ليبيا أبيدوا بالكامل تقريبا خلال تلك الأحداث لدرجة أنه أنشئت فيما بعد مستوطنات لاستجلاب السكان. وامتدت الثورة إلى اليهودية وسورية وما بين النهرين بينما كان ترايانوس يحارب البارثيين في الخليج، فقام بإخمادها في ما بين النهرين ونصب ملكا بارثيا عميلا له هناك ثم انسحب إلى أنطاكية ليشرف على إخماد الثورة في سورية. ثم مات بعد ذلك بقليل بالجلطة في عام 117 م وقبل أن يحكم سيطرته على المقاطعات البارثية الجديدة، وعندما تولى سلفه هادريانوس الحكم قرر الانسحاب من جميع المقاطعات الجديدة التي أنشأها تريانوس واعتبار شاطئ الفرات الحد الشرقي للإمبراطورية لأنه رأى أن الاحتفاظ بالمقاطعات البارثية سيشكل عبئا على المدى البعيد لأن هذه المقاطعات لا يمكن الدفاع عنها.
إعادة بناء بيت المقدس وثورة اليهود الثالثة
إيليوس هادريانوس
عندما صعد إيليوس هادريانوس Aelius Hadrianus (هادريان Hadrian) إلى عرش الإمبراطورية الرومية في عام 118 م لم تكن ثورة اليهود الثانية قد أخمدت تماما بعد في اليهودية حيث إلتجئ إليها قادة الثورة في الخارج، وقد قام هادريانوس في العام التالي بتخصيص أموال لإعاد إعمار المباني العامة التي دمرها اليهود في المقاطعات. وبينما كان يقوم بجولة في أنحاء الإمبراطورية في عام 123 م مر هادريانوس ببرقة ورأى بعينيه الخراب الذي أحدثه اليهود، وخصص أموالا للجنود الرومان ولعائلاتهم هناك.
المدرج الروماني في بصرى
زار هادريانوس بيت المقدس في العام 130 م، وكبادرة حسن نية تجاه اليهود أعلن عزمه إعادة بناء بيت المقدس، ولكن فرحة اليهود لم تتم عندما علموا أنه يعتزم بناء المدينة على النمط الرومي وأنه ينوي أن يبني معبدا روميا جديدا مكان الهيكل، والذي لا بد أنه سيكون مكرسا للإله يوبيتر. ازداد اضطراب اليهود بعد أن بدأت أعمال البناء حيث اعتبر كثير منهم أن "الحرث فوق الهيكل" إساءة دينية عظيمة، واستدعى الروم الفيلق السادس المدرع Legio VI Ferrata من بصرى إلى اليهودية لفرض النظام. وتزايد سخط اليهود أكثر عندما أصدر هادريانوس قرارا بمنع الختان الذي اتفق هادريانوس مع اليونانيين في اعتباره "تشويها وطقسا بربريا".
قرر اليهود الثورة وخططوا لها بعناية ليتحاشوا أخطاء ثورتهم الأولى قبل ستين عاما، وكان قائدهم هو شمعون بَر كوكبا שמעון בר כוכבא (اسم آرامي معناه: سمعان بن كوكبة) والذي فسر اليهود اسمه على أنه يحقق النبوءة الواردة في سفر الأعداد 24:17 وأنه المسيح المخلص المنتظر. ولكن المسيحيين (والذين كانوا لا يزالون حتى ذلك الوقت مجرد طائفة صغيرة من اليهود) لم يتقبلوا ادعاء بر كوكبة بأنه المسيح لاعتقادهم بأن المسيح كان يسوع الناصري، وهكذا فقد ساهمت هذه الأحداث في تعميق التمايز بين المسيحيين واليهود.
أطلال قرية رومية في شمال سورية. يوجد في سورية أطلال حوالي 200 قرية مماثلة. كان يعمل سكان هذه القرى غالبا في صناعة زيت الزيتون
بدأ اليهود تحركهم عام 132 م، وقد نجحوا في مباغتة الروم والانتشار بسرعة في أنحاء فلسطين فعزلوا الحامية الرومية في القدس عن باقي المناطق ووضعوا الروم في موقف صعب، وظنوا أنهم نجحوا وبدؤوا في صك عملة لدولتهم الوليدة. ولكن الإمبراطور هادريانوس كان يعد العدة فقد استدعى الجنرال يوليوس سيويروس Julius Severus الخبير في قمع التمرد من بريطانيا واستدعى أعدادا هائلة من القوات حتى أنه استدعى فرقا من حوض الدانوب ويعتقد أن مجموع القوة التي حشدها لم يقل عن اثني عشر فيلقا وهو ما يقارب ثلث الجيش الروماني. ثم بدأت المواجهات وكانت شرسة للغاية حيث استمرت ثلاث سنوات واتبع الروم خلالها سياسة الأرض المحروقة لتحطيم معنويات المتمردين بعد أن كبدهم الأخيرون خسائر جسيمة.
انتهت هذه الحرب بخسائر جسيمة للروم، حيث قاموا بعدها بحل الفيلق الثاني والعشرين الديوتاري Legio XXII Deiotariana مما يدل على تلقيه خسائر فادحة، كما أن هادريانوس عندما بعث إلى مجلس الشيوخ يبلغه بالنصر تحاشى أن يذكر العبارة التقليدية "آمل أنكم بخير، أنا والقوات بخير" في صدر رسالته. ولكن خسائر الروم كانت لا تقاس بخسائر اليهود الذين أدت هذه الحرب إلى استئصال وجودهم من فلسطين، حيث قتل فيها 580,000 يهودي ودمرت 50 بلدة و985 قرية حسب المؤرخ الرومي كاسيوس ديو Cassius Dio. يذكر التلمود أن القتلى كانوا بالملايين، ولكن هذا غير منطقي لأن عدد اليهود في فلسطين حينها لم يكن يبلغ هذا القدر.
جسر من العصر الرومي قرب حلب
بعد هذه الحرب قرر هادريانوس استئصال الديانة اليهودية من الوجود لأنه اعتقد أنها سبب تمرد اليهود المستمر، فقام بإعدام رجال الدين اليهود وحظر التعامل بالشريعة اليهودية والتقويم اليهودي، وأقام احتفالا على جبل الهيكل أحرق فيه المخطوطات الدينية اليهودية، ونصب على الجبل تمثالين أحدهما ليوبتر والآخر لنفسه. وغير هادريانوس اسم مدينة القدس من الاسم اليهودي يوروشلايم Jerusalem إلى إيليا كابيتولينا Aelia Capitolina (إيليا من اسمه Aelius، وكابيتولينا إشارة إلى معبد يوبتر على تلة الكابيتولينة في روما Jupiter Capitolinus). كما غير اسم الإقليم من اليهودية Iudaea (يوديا) إلى سورية الفلسطيّة Syria Palaestina، وحظر تداول الاسم القديم. وكان القرار الأشد وطاة على اليهود هو حظر دخولهم إلى بيت المقدس، الذي خففه قسطنطين الأول بعد حوالي 150 سنة بأن سمح لهم أن يدخلوا المدينة يوما واحدا في السنة لينتحبوا على الحائط الغربي وهو اليوم المعروف لدى اليهود بـ تشعة بآب (التاسع من آب).
ظلت هذه القوانين سارية المفعول حتى دخول المسلمين القدس عام 638 م، إذ أن المسلمين حين فتحوا المدينة سموها إيلياء من Aelia، وكان هذا هو الاسم الشائع لها في العصور الإسلامية الأولى. وكذلك اسم المنطقة كان (ولا يزال) فلسطين من Palaestina وهو تقصير للاسم القديم Syria Palaestina.
كانت نتائج ثورة بر كوكبا كارثة كبرى على اليهود حيث أن من بقي منهم حيا تشرد في أصقاع الأرض ولم يبق منهم في فلسطين إلا أعداد يسيرة جدا متوزعة كأقليات في الجليل والمدن الساحلية ولكن ليس في منطقة اليهودية نفسها، ولهذا السبب حقد اليهود على هادريانوس فلا تذكر مصادرهم اسمه إلا ومعه العبارة שחיק עצמות (يسحق عظمه)، وكذلك كره أحبار اليهود بر كوكبا وسموه بر كوزيبة בר כוזיבא (ابن الكذبة) إشارة إلى كونه مسيحا كاذبا.
يتبع …